اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

شخابيط ذات معنى: كل شيء يتغير... فهل نملك شجاعة التغيير؟// د. عامر ملوكا

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. عامر ملوكا

 

عرض صفحة الكاتب 

شخابيط ذات معنى: كل شيء يتغير... فهل نملك شجاعة التغيير؟

د. عامر ملوكا

 

يسجل التاريخ الشخصي والجمعي للإنسان حقيقة ثابتة تتكرر عبر الأزمنة: أن القناعات التي نعتنقها في لحظة ما ليست سوى محطات مؤقتة في مسيرة الفكر. فكل مرحلة من العمر تأتي محمّلة بيقين جديد، نرى فيه وعينا الراهن أكثر نضجا، ونظن أننا بلغنا الحقيقة. لكن الزمن لا يلبث أن يكشف لنا عن ضآلة ما كنا نعتقده، فيتضح لنا أننا كنا نعيش في تصوّرات قاصرة لا تصمد أمام اختبار التجربة. وهكذا، يظل التغيير هو القاعدة الوحيدة الثابتة التي تحكم رؤيتنا لأنفسنا والعالم.

 

يميل الإنسان بطبيعته إلى التمسك بيقين اللحظة، إلى الاعتقاد بأن ما يعرفه الآن هو الصواب النهائي، وأن وعيه الحاضر يمثل قمة النضج. لكن نظرة متأملة لتاريخنا الشخصي والجمعي تكشف لنا عن حقيقة مزعجة ومحررة في آن: كل شيء يتغير.

 

هذا القانون، الذي يبدو بسيطا في ظاهره، يفرض نفسه بقوة في كل جوانب الحياة، من العلم والفكر، إلى الدين والسياسة، إلى قيمنا الأخلاقية وتصوراتنا عن المستقبل. خذ مثلا قناعة البشرية لقرون بأن الأرض هي مركز الكون، إلى أن جاء كوبرنيكوس وغاليليو وغيرا هذه الفكرة رأسا على عقب. أو تأمل كيف تحوّل دور المرأة من موقع التهميش إلى شراكة فاعلة في كثير من المجتمعات، ليس بفضل صدفة عابرة، بل نتيجة لتغير اجتماعي وفكري عميق.

 

الأمثلة لا تنتهي: من حقوق الأقليات، إلى الاعتراف بأهمية الصحة النفسية، إلى إعادة النظر في المفاهيم الدينية التي كانت تُعامل كمسلمات. حتى في أكثر المجالات حساسية مثل الدين، شهدنا تحولات كبرى في الفهم والتأويل. كثير من الفتاوى التي اعتُبرت يومًا قطعية، مثل تحريم التصوير أو بعض أشكال المعاملات المالية، خضعت لإعادة نظر استنادا إلى واقع جديد، لا إلى رفض للنصوص، بل إلى قراءة معاصرة لها.

 

وإذا كانت تصورات الماضي قد تلاشت أو تغيرت، فإن تصورات المستقبل ليست بمنأى عن ذلك. القرن العشرون مثلا حمل تصورات متفائلة عن التوسع الصناعي والمدن الكبرى والهيمنة الاقتصادية. أما اليوم، فقد تغيرت البوصلة تماما. بات الإنسان يسأل عن حدود الذكاء الاصطناعي، وأخلاقيات التعديل الجيني، ومصير البيئة، ومعنى الحياة في ظل التكنولوجيا.

 

نظرتنا للعمل تغيرت كذلك. لم يعد الاستقرار الوظيفي في مؤسسة واحدة على مدى العمر هدفا مطلقا كما كان لدى الأجيال السابقة. الجيل الجديد يبحث عن المعنى، عن الشغف، عن التوازن بين الذات والمجتمع، لا مجرد راتب آخر الشهر.

 

لكن وسط هذا السيل من التغيرات، يظل الإنسان متشبثا بيقينه المؤقت، مدفوعا بعوامل نفسية، مثل الرغبة في الأمان، والأنانية المعرفية التي تجعله يعتقد أن وعيه الحالي هو الأفضل. كما أن ضغط الجماعة لا يرحم، إذ يجعل الشك في السائد ضربا من التمرد غير المرغوب.

 

غير أن هذا الشعور باليقين ما هو إلا وهم مؤقت، خداع نفسي يمنحنا شعورا هشا بالأمان في عالم لا يتوقف عن التبدل. إن التاريخ يعلّمنا أن الدول العظمى تنهار، والنظريات العلمية تتغير، والأفكار الأخلاقية يُعاد تأطيرها بحسب الزمان والمكان.

 

السؤال الحقيقي إذا ليس: هل يتغير كل شيء؟ بل: هل نحن مستعدون لهذا التغير؟ هل نملك شجاعة مراجعة قناعاتنا؟ هل نمتلك المرونة التي تتيح لنا إعادة التفكير دون خوف من خسارة هوية؟ وهل نتقبل أن بعض ما نؤمن به اليوم، قد يبدو لأبنائنا غدا ساذجا أو حتى غير أخلاقي؟

 

قبول التغيير لا يعني إهانة الماضي أو التنكر له، بل يعني احترامه كمحطة ضمن مسار طويل من النضج. مراجعة الذات ليست ضعفا، بل نضجا. والانفتاح على الأسئلة لا يهدد الإيمان أو القيم، بل يعمّقها ويمنحها حياة جديدة.

 

إن إدراكنا بأن كل شيء يتغير لا ينبغي أن يكون مصدر قلق أو ارتباك، بل دعوة دائمة إلى التواضع، وإلى أن نُبقي باب التساؤل مفتوحا. فالحياة ليست صراعا مع التغيير، بل رحلة مستمرة فيه.

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.