كـتـاب ألموقع
غاية التدين ليست في السيطرة على الآخرين، بل في ضبط النفس وتهذيبها// د. عامر ملوكا
- المجموعة: عامر ملوكا
- تم إنشاءه بتاريخ السبت, 23 آب/أغسطس 2025 20:46
- كتب بواسطة: د. عامر ملوكا
- الزيارات: 633
د. عامر ملوكا
غاية التدين ليست في السيطرة على الآخرين،
بل في ضبط النفس وتهذيبها
د. عامر ملوكا
العلاقة بين الإنسان والدين ليست علاقة سلطة وتحكم، بل علاقة ارتقاء داخلي وصراع مع الذات نحو الفضيلة. التدين الحقيقي، كما تطرحه الفلسفات الأخلاقية والدينية العميقة، يقوم على مجاهدة الرغبات والغرائز، والتسامح، والتواضع، والعمل على تحقيق الفضائل، وليس على فرض الهيمنة باسم الدين. وكما قال المسيح: "لأنَّ مَنْ أرادَ أنْ يُخَلِّصَ حياتَهُ يَفقِدُها، ومَنْ فَقَدَ حياتَهُ مِنْ أجْلي فإنَّهُ يَجِدُها" (متى 16: 25)، فالتدين ليس تسلطًا على الآخرين، بل بذلٌ للذات في سبيل الحق والخير.
لكن عبر التاريخ، استُغل الدين في غير مقاصده الروحية السامية، وتحول في أيدي بعض رجال الدين إلى أداة للهيمنة، حيث استُخدم لتبرير الاستبداد وإخضاع الشعوب بدلًا من أن يكون وسيلة لتحريرها من الجهل والخوف. حين يحدث ذلك، يصبح التدين ظاهريًا، حيث يُفرض الامتثال دون تفكير، ويُقمع الاجتهاد العقلي، وتُقدَّم الطاعة العمياء على الحرية الفكرية. ولتحقيق ذلك، يتم اللجوء إلى عدة وسائل، أبرزها التفسير الانتقائي للنصوص الدينية، حيث تُؤوَّل الآيات والأحاديث بما يخدم مصالح معينة، متجاهلين السياقات التاريخية والثقافية التي نزلت فيها. يُختزل الدين في طاعة مطلقة لسلطة دينية، ويُحجب أي تفسير عقلاني يعزز التفكير النقدي والاستقلالية الفردية، رغم أن الكتاب المقدس يدعو إلى التأمل والفهم، كما في قول بولس الرسول: "امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِالْحَسَنِ" (1 تسالونيكي 5: 21).
إضافة إلى ذلك، يتم تعزيز ثقافة الخوف والذنب، بحيث يصبح الإنسان خاضعًا دائمًا للسلطة الدينية طلبًا للتوجيه، بدلاً من أن يكون التدين رحلة ذاتية للبحث عن الحقيقة والسلام الداخلي. حينها يتحول الدين إلى وسيلة لخلق إنسان مقيد، لا إنسان حر قادر على اتخاذ قراراته بناءً على قناعاته الشخصية. كما يُرفض الاجتهاد العقلي ويُعتبر خطرًا يهدد الثوابت، ويُصوَّر التفكير النقدي على أنه نوع من التمرد، رغم أن المسيح نفسه دعا إلى البحث عن الحق قائلاً: "وتعرفون الحق، والحق يُحرركم" (يوحنا 8: 32). هذه النظرة تُبقي المجتمعات في حالة من الجمود، حيث تُفرض أفكار عفا عليها الزمن باسم "الثوابت"، بينما الحقيقة أن الدين في جوهره لا يقف ضد التطور، بل يشجع على الحكمة والفهم.
أما التلاعب بالمقدس لتحقيق مكاسب سياسية، فهو من أخطر أشكال استغلال الدين، حيث يُستخدم لشرعنة الظلم والاستبداد. يُصوَّر الحكام أو القادة الدينيون على أنهم ظل الله على الأرض، وأن معارضتهم تعني معارضة الدين ذاته. بهذه الطريقة، يتم تبرير القهر والفساد باسم الحفاظ على "النظام الإلهي"، بينما يُحرم الناس من حقوقهم المشروعة في الحرية والكرامة والعدالة. هذا النهج يتعارض مع روح الإنجيل الذي يعلن أن الله ليس إله التشدد والاستبداد، بل إله المحبة والعدل، كما يقول النبي ميخا: "قد أُخبرتَ أيها الإنسان ما هو صالح، وماذا يطلبه منك الرب، إلا أن تصنع الحق، وتحب الرحمة، وتسلك متواضعًا مع إلهك" (ميخا 6: 8).
إن هذا الفهم المغلوط للتدين يتناقض مع التطور الحضاري، حيث تتقدم المجتمعات عبر التفكير النقدي، وحرية البحث، والانفتاح على الأفكار الجديدة. فرض رؤى دينية متصلبة تتعارض مع المنطق والتاريخ والعقل يعيق أي تقدم حقيقي، ويخلق مجتمعات تعيش في قوالب قديمة غير قادرة على مواجهة تحديات العصر. وإذا كانت الغاية الحقيقية للدين هي ضبط النفس لا السيطرة على الآخرين، فإن المطلوب اليوم هو استعادة روح الدين الحقيقية، التي تحرر الإنسان بدلًا من أن تقيده. لا يتحقق ذلك إلا عبر وعي جديد، يُعيد للدين بعده الأخلاقي والروحي، بعيدًا عن الاستغلال السياسي والاجتماعي، ويعزز قيمة العقل والتفكير النقدي كأدوات لفهم العالم وبناء مستقبل أكثر عدالة وإنسانية.
د.عامر ملوكا
المتواجون الان
1149 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع