اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

خلفيات تاريخية قصمت ظهر الأمة الإسلامية ومهدت لواقعة كربلاء// د. هاشم عبود الموسوي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

خلفيات تاريخية قصمت ظهر الأمة الإسلامية

ومهدت لواقعة كربلاء

د. هاشم عبود الموسوي

 

إن حادث وفاة الرسول (ص) عام 632م، بعد اثنين وعشرين عاماً من بدء الدعوة الإسلامية. أوقع في نفوس المسلمين وضعين مختلفين من البلبلة والاضطراب، تناولا أبعاداً اجتماعية وسياسية ودينية من معنى الإسلام:

ففريقٌ من المسلمين لم يُصدّق أن النبي (ص) قد مات، لأنه كان يفهم نبوة النبي خارج حالاته البشرية. لذا قام في وهمه هذا قائلاً: إنّه لا يمكن أن يموت، لكن أبا بكر الصدّيق (رضي الله عنه) وضع الحد الحاسم للبلبلة الناشئة عن هذا الوهم، إذ ردّ الصورة البشرية للنبي (ص) إلى عقول القوم، مستعيناً بالآيات القرآنية التي تنص على بشرية محمد (ص).

وفريقٌ آخر من المسلمين فوجئ بغياب النبي (ص) من موقعه القيادي من مجتمع الدعوة الإسلامية غياباً أبدياً، دون أن يعرف مصير هذا الموقع بعد موت النبي (ص).

 

وكان لابد لنا أن نتابع رؤية الصراع وأشكاله حول هذا الموقع القيادي، فقد ظهر فور إعلان موت النبي (ص) أن ما كان مكبوتاً من الصراعات القديمة بين مكة والمدينة، ثم بين المهاجرين والأنصار، ثم بين المهاجرين أنفسهم من هاشميين وغير هاشميين، ثم بين الأوس والخزرج من الأنصار، قد انفجر فجأة والنبي (ص) لا يزال جثمانه في منزل زوجه عائشة لم يُدفن بعد.

دوافع السلطة هي التي تنبهت وتحفزّت حينذاك لدى كل هؤلاء الفرقاء، وانكشفت هذه الدوافع علانيةً في اجتماعهم الذي عقدوه فوراً في سقيفة بني ساعدة، لتقرير أمر الخلافة. وإذا كان أحد زعماء الأنصار أبو عبيدة بن الجراح قد أنهى الموقف بمبايعة أبي بكر – رضي الله عنه – أول خليفة للنبي، فإن الأمر لم يُحسم تاريخياً ولا دينياً. إذ نشأت منذ ذلك الحين أولى بذور الحزبية السياسية المذهبية الإسلامية التي بقيت تنمو مع الأيام والأحداث، حتى أثمرت أولى ثمراتها قبل أن ينتهي عهد الخلفاء الراشدين.

قلنا: "الحزبية السياسية المذهبية"، لأن الصراع السياسي على الخلافة سرعان ما أُضفىَ عليه ثوباً من النزاع الديني في مفهوم الخلافة: ففريقٌ جعله منصباً إلهياً يأتي النص به على شخص الخليفة بوحيٍ من الله على لسان النبي

(r)، وهؤلاء هم أنصار علي بن أبي طالب – عليه السلام. وفريقٌ جعله منصباً يختار المسلمون صاحبه الذي يرونه أهلاً له، وهذا الفريق أراد أن يُطبّق في اختيار الخليفة ما سُميَ بمبدأ "الشورى"، أي الانتخاب بالمشاورة بين المسلمين، ولكن الذي حدث في "انتخاب" الخلفاء الراشدين الأربعة، أنه لم يكن فيه من مبدأ "الشورى" هذا سوى صورة شكلية ضيقة انحصرت حيناً بإرادة شخص، كما فعل أبو بكر – رضي الله عنه- حين اختار عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- خليفةً بعده، وانحصرت حيناً آخر في أشخاص معدودين لا يتجاوز أكثرهم الأربعة، كما حدث عند تنصيب الخليفة الثالث عثمان بن عفان – رضي الله عنه. وبذلك ظهر لنا أن مبدأ "الشورى" لم يتخذ وضعاً تشريعياً ولا تطبيقياً في الإسلام، حتى في أكثر عهود الخلافة الإسلامية "ديمقراطيةً"، وهو عهد الخلفاء الراشدين.

وقد توسّعت ردود الفعل التي حدثت بعد موت النبي (ص)، حيث إنَّ كثيراً من سكان المناطق البعيدة عن مكة والمدينة، كمنطقة اليمامة واليمن وحضرموت وعمان وغيرها، أعلنوا ارتدادهم عن الإسلام، فوجّه الخليفة الجديد أبو بكر – رضي الله عنه- حملةً عسكرية لقتال المرتدين في حروب سُمّيت في التاريخ الإسلامي بـ"حروب الردة". ومن أسباب هذا الارتداد المفاجئ كون بعض القبائل لم تخضع لسلطة الإسلام بتأثير رؤسائها، الذين لم يجدوا من مصلحتهم الاستجابة لما يدعو إليه الإسلام من تحطيم إطار الوحدة القبلية. وبعض القبائل كانت تُظهر الخضوع مداراةً للمركز القوي الذي بلغه الإسلام بعد فتح مكة. أما المناطق الزراعية المستقرة فقد كان لديها من الأوضاع الإنتاجية ما دفعها للمحافظة على تقاليدها وأوضاعها تلك، دون الاضطرار إلى تغيير أوضاعها، مضافاً إلى وجود أدعياء "النبوة" في هذه المناطق من أبنائها، وكان هؤلاء الأدعياء يُعارضون الخضوع لدعوة محمد (ص) وتعاليمه، ومنهم "مُسيلمة" في بني حنيفة في اليمامة، والمرأة "سجاح" في بني تغلب، فلما مات النبي محمد (ص) وجد كل هؤلاء الفرصة المناسبة للانقضاض على سلطة الإسلام، ولكن الحملة التي سيّرها الخلفاء نجحت في إخضاع المرتدين واستتباب الأمن لسلطة الخلافة.

وبعد ذلك جاءت الفتوحات الإسلامية خارج الجزيرة العربية، وقد رأينا حركة الفتح العربي تبدأ بعد سنة فقط من موت النبي (ص)، ورأينا وجهتها الأولى نحو سورية وفلسطين، حيث كانت الدولة البيزنطية مُسيطرة. إذ استمرت حركة الفتح هذه أكثر من سبعين عاماً، حتى شملت دولة العرب مساحات شاسعة من ثلاث قارات.

لقد بدا لنا في الوقائع التاريخية، أن دوافع هذه الحركة كانت اجتماعية أكثر منها دينية. ومن هنا فإننا نعارض فكرة بعض المستشرقين القائلة: بأن التعصب الديني هو الذي كان وراء حركة الفتح العربي.

وقد استنتجنا من ظروف حروب الفتح، ومن الانتصارات التي أحرزتها الجيوش العربية، أن للظروف الموضوعية في البلدان المفتوحة وللظروف الذاتية لدى الفاتحين تأثيرٌ فعالٌ في تحقيق هذه الانتصارات. وكان استنتاجنا أن من الظروف الموضوعية ضعف دولتي بيزنطة وفارس حينذاك بعد الحروب الطويلة بينهما، وإثقال السكان في سورية وفلسطين ومصر والعراق بالضرائب الباهظة، والاضطهاد الديني من جانب الكنيسة البيزنطية في سورية، وأن من الظروف العربية الذاتية، كَوْنَ العرب الفاتحين لم يحكموا أول الأمر شعوب البلدان المفتوحة بأسلوب الحكم الإقطاعي الذي كان يتّبعه الحاكمون السابقون، لعدم ممارستهم هذا النوع من أسلوب الحكم قبل الفتح، وكونهم – أي الفاتحين العرب – اتبعوا سياسة التسامح الديني، ولم ينهبوا المدن المفتوحة وإنما صادروا ممتلكات الأغنياء والنبلاء، ولم يأخذوا الأرض من أهلها إلا في عهد الخليفة الراشدي الثالث عثمان – رضي الله عنه. وقد وجدنا في سياسة الفاتحين العرب، مجالاً لبعض الاستنتاجات الأخرى، منها: أن التسامح الديني الذي اتبعوه كانت له قاعدة مادية، وهي محاولة التقليل من عدد المسيحيين الذين يدخلون في الإسلام، كي لا تقل موارد ضريبة "الجزية" التي فُرضت على غير المسلمين. ومن هذه الاستنتاجات حسن المعاملة لرجال الدين المسيحيين المحليين، جزاء موقفهم المعارض لرجال الكنيسة البيزنطية، لأنه كان يتضمن موقفاً سياسياً معارضاً لسلطة الدولة الأجنبية المحتلة (بيزنطة). كما استنتجنا من سياسة الفاتحين العرب أنهم لم يُغيّروا نظام تقسيم العمل بين السكان الأصليين.

وقد لاحظنا أن عملية التفاعل الثقافي والاجتماعي بين العرب وشعوب البلدان المفتوحة لم تظهر آثارها في عهد الخلفاء الراشدين، كما ظهرت بعد ذلك. كان استنتاجنا أن سبب تأخر عملية التفاعل هذه يرجع أولاً إلى انفصال حياة الفاتحين في عهدهم الأول عن حياة السكان الأصليين، وانشغالهم بمسائل الحماية العسكرية، وتنظيم جيوشهم وعدم مشاركتهم في عملية الإنتاج المادي. وبذلك فإننا نعارض قول بعض الباحثين المعاصرين، بأن العرب رفضوا ثقافات تلك الشعوب. فالمسألة لم تكن مسألة رفض، بل مسألة هذه الظروف التي عاش فيها الفاتحون، بحيث تأخرت عملية التفاعل بعض الوقت، ثم جرت العملية بانطلاق عظيم بعد ذلك.

وسجّلنا كذلك أن ظروف الفتح قد خلقت مجالاً لانتعاش حركة فكرية في باب التشريع الإسلامي، هي حركة "الاجتهاد بالرأي" التي كان لها أثرها الإيجابي في تطوير هذا التشريع، وأن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- قد مارس هذا النوع من الاجتهاد الشخصي بجرأة وبعد نظر. واستنتجنا هنا أن ظاهرة الاجتهاد هذه تُشير إلى تحرك الفكر العربي في هذا الاتجاه، لينتقل بعد عهد الخلفاء الراشدين إلى مناخ فكري آخر أقرب إلى النظر العقلي، وهو مناخ التفكير في العقائد الإيمانية ذاتها، كما سنرى.

وإذا كنّا قد وضعنا بعض الاستنتاجات المتعلقة بظروف الفتح العربي وسياسة العرب في البلدان المفتوحة، كما تقدم، فإن هذه الاستنتاجات تنحصر في الظروف الأولى لعهد الفتح. أما بعد ذلك فقد رأينا تغيرات أساسية تحدث في العلاقة بين العرب والسكان الأصليين. ولكن الذي يلفت النظر في عهد الخلفاء الراشدين من هذه التغيرات ما ظهر في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان – رضي الله عنه- من نشوء "طبقة" أرستقراطية شبه إقطاعية من الحكام الأمويين، الذين عيّنهم الخليفة من أقربائه. وقد رأينا أن هؤلاء الحكام الأمويين باتّباعِهم سياسة الإثراء الشخصي، وامتلاك الأراضي، وإرهاق السكان بالضرائب، أوجدوا الأسباب التي أحدثت انتفاضة اجتماعية في الأمصار المفتوحة، والتي أدت إلى مقتل الخليفة نفسه، كما أدّت إلى صراع حزبي جديد بلغ حد العنف المسلح بين الخليفة الرابع علي بن أبي طالب – عليه السلام- ومعاوية بن أبي سفيان حاكم سورية، مُمثّلاً حزب الأمويين، ونشوء حزب جديد خرج من صفوف علي بن أبي طالب – عليه السلام- في حرب صفين هو حزب "الخوارج"، وسيكون لهذا الصراع الحزبي بشكله الجديد وبعناصره الجديدة، آثاراً بارزةً ومهمةً في نشوء حركة فكرية "وأيدولوجية"، سنرى أنها ولدت في أحضانها بذور التفكير الفلسفي العربي – الإسلامي.

 تطوّر الأحداث:

كما قلنا: ما أن أُعلن عن وفاة الرسول (ص)، حتى تنبّهت لدى كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، نوازع الصراع على السلطة. فقد تنبهت هذه النوازع فوراً، قبل أن يُشيّع جثمان النبي (ص) إلى مرقده الأخير في المدينة. وعلى الفور كذلك، قسّمت هذه النوازع صحابة النبي (ص) فريقين: فريق المهاجرين (أي المكيين)، وفريق الأنصار (أي أهل المدينة)، وصار كل فريق يُريد أن تكون له سلطة الخلافة بعد النبي (ص)، أي أن تكون له القيادة الفعلية لهذه السلطة.

بهذا الانقسام ظهرت فجأة إلى السطح رواسب الصراع القديم بين مكة والمدينة، الذي لم يكن قد مضى على اختفائه تحت قشرة الخضوع لسلطة التنظيم الإسلامي الواحد سوى أعوام معدودة. وظهرت إلى السطح – من جهةٍ ثانية- المشاعر الطبقية الجنينية التي كان يتحسس بها الأنصار - من قبل - حيال المهاجرين، دون أن تظهر صراحةً في عهد النبي (ص). ذلك أنه في أوائل الهجرة نظّمت في "المدينة" مؤسسة إسلامية أشبه "بالمشاعية" قامت على أساس كونها منظمة فوق القبلية، وكون الإسلام – كدين- هو إطار هذه الوحدة الجامعة. وبذلك اختلفت مبدئياً عن نظام المشاعيات البدائية التي كانت العصبية القبلية أساس وحدتها. غير أن المؤسسة الإسلامية هذه التي نشأت في "المدينة" عقب الهجرة، ظهر فيها تمايز ملحوظ بين المهاجرين والأنصار. فقد كان المهاجرون هم الفئة الأولى البارزة فيها، سواءٌ من حيث اختصاصهم بالقسم الأكبر من غنائم الحرب، أم من حيث رجوع قيادة المؤسسة إلى زعمائهم، لا سيما أنَّ أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب – رضي الله عنهما- اللذين كان يبدو أنهما يؤديان الدور الأول في قيادة شؤون المؤسسة. من هنا نشأ داخل نفوس زعماء الأنصار، وهم أهل البلد الأصليون، نوعٌ من الشعور بالخيبة، فيما كانوا يرجون من دعوتهم محمداً

(ص) وصحابته المكيين للهجرة إلى بلدهم، ونصرة الدعوة الإسلامية. وقد حملوا هذا الشعور وكبتوه مدة حياة محمد (ص) في "المدينة"، ثم ما أن نادى المنادي بأن محمداً (ص) قد مات، حتى سارع هذا الشعور المكبوت للظهور إلى السطح.

إضافةً إلى ذلك، حدث انقسام آخر بين المهاجرين أنفسهم في الوقت ذاته. فقد تنبّهت كذلك رواسب الفوارق القديمة في الجاهلية، بين بني هاشم الذين ينتمي إليهم النبي (ص)، وصهره وابن عمه علي بن أبي طالب – عليه السلام- من جانب، وبني عبد شمس وتيم وأمية وغيرهم، الذين ينتمي إليهم سائر المهاجرين ومنهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب – رضي الله عنهما- من جانبٍ آخر. إذ كان الغالب من بني هاشم، يمثل الفرع الفقير بين الفروع الأخرى العليا في قريش بمكة في الجاهلية. فكان طبيعياً أن يفكروا الآن، وقد فقدوا بموت النبي (ص) مكانتهم التي كان هو – أي النبي (ص)- تعبيرها وتجسيدها الأعظم، بل هو الذي خلق معناها الأسمى، بأن يستبقوا هذه المكانة لهم عن طريق علي بن أبي طالب – عليه السلام- صهر محمد (ص وابن عمه، والذي ناضل دونه في حروبه ضد زعماء مكة بعد الهجرة، وبات في فراشه ليلة خروجه – أي خروج محمد (r)- من مكة مهاجراً إلى المدينة، لكي يتلقى عنه المكيدة التي كان القرشيّون قد دبّروها تلك الليلة، ليقتلوا محمداً (ص) في فراشه قبل خروجه من مكة.

 

 

أسباب الصراع:

من كل هذه العوامل انفجر الصراع فجأة، منذ اللحظة الأولى لموت النبي

(ص)، والملحوظ هنا أن القوم لم يستطيعوا إخفاء الدوافع الحقيقية، السياسية والاجتماعية، لهذا الصراع تحت ستار من المظاهر الدينية. ويبدو ذلك واضحاً من الصورة التاريخية الصريحة التي يرويها المؤرخون الإسلاميون أنفسهم على النحو الآتي الذي ننقله بإيجاز:

في حين كان علي بن أبي طالب – عليه السلام- والعباس بن عبد المطلب – رضي الله عنه- عم النبي، وأسامة بن زيد أحد الصحابة، مشغولين في غسل جثمان النبي (ص) وتكفينه، ثم حمله إلى مدفنه قرب غرفته التي مات فيها ببيت زوجه عائشة – رضي الله عنها، كان مُنادي الأنصار يُنادي في المهاجرين قائلاً: "اجعلوا لنا في رسول الله (ص) نصيباً في وفاته، كما كان لنا في حياته". فبدا –أول الأمر- أن ذلك لا يعني أكثر من أنهم يريدون المشاركة في عملية الدفن لينالوا شرف هذه المشاركة. ولذلك بادر علي بن أبي طالب – عليه السلام- بدعوة أحد الأنصار، وهو أوس بن خولي أن يُشارك في النزول معهم إلى القبر لدفن النبي

(ص) وتوديعه الوداع الأخير. ولكن سرعان ما انكشف المعنى الذي يقصدونه بكلمة "النصيب" التي أطلقها مناديهم. فقد ظهر أنه بينما علي بن أبي طالب – عليه السلام- يدعو صاحبهم أوس، إذ بزعماء الأنصار هؤلاء يعقدون اجتماعاً في "سقيفة بني ساعدة"، ثم يُعلنون إمارة المسلمين – أي الخلافة- بعد محمد (ص) لزعيم الخزرج الأنصاري: سعد بن عبادة. فبلغ الأمر أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب – رضي الله عنهما- وبعض المهاجرين، فجاءوا مسرعين إلى حيث يجتمع الأنصار، وأبعدوا الناس عن سعد بن عبادة الذي أعلنه الأنصار أميراً، وشقّ أبو بكر الصديق – رضي الله عنه- إلى صدر الاجتماع وخطب في المجتمعين قائلاً: "يا معشر الأنصار! منّا رسول الله، فنحن أحق بمقامه". فأجاب الأنصار: "منّا أميرٌ ومنكم أمير". فقال أبو بكر: "منّا الأمراء، وأنتم الوزراء". واحتدم الجدال بين الفريقين: المهاجرين والأنصار، حتى كادت الفتنة تشتعل بينهم، لولا أن أنقذ الموقف واحدٌ من زعماء الأنصار: أبو عبيده بن الجراح. إذ تقدّدم إلى أبي بكر الصديق – رضي الله عنه- وبايعه بالخلافة، فانقاد الأنصار لرأي أبي عبيدة الحاسم، وأصبح أبو بكر الصديق – رضي الله عنه- أول خليفة من الخلفاء الأربعة للنبي بعد وفاته، وهم الذين أطلق عليهم المسلمون لقب "الخلفاء الراشدون". أبو بكر الصديق – رضي الله عنه- من بني تيم، ثم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- من بني عدي، ثم عثمان بن عفان – رضي الله عنه- من بني أمية، ثم علي بن أبي طالب – عليه السلام – من بني هاشم، وكلّهم من المهاجرين.

غير أن الصراع لم يُحسم فعلاً بذلك، فقد كان بنو هاشم – وهم آل محمد

(ص)- غائبين عمّا حدث في "سقيفة بني ساعدة"، فلما علموا بالأمر ثار بهم الغضب، وقدم بعضهم إلى حيث حدث الأمر، ووقف أحدهم، عتبة بن أبي لهب، يُنشد شعراً يمدح به علياً بن أبي طالب – عليه السلام –، وكأنه يُرشّحه للخلافة دون غيره، داعياً إلى كونه – أي علي- هو صاحب الحق وحده بالخلافة.

ويقول اليعقوبي (284هـ- 897م): إنَّ علياً بن أبي طالب – عليه السلام – بعث إلى عتبة هذا ينهاه عن دعوته التي أعلنها. ولكنه –أي علي- تخلّف عن مبايعة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه-، ومعه جماعة من بني هاشم وبني أمية. ويبدو أن فريقاً من الغاضبين ذهب إلى علي بن أبي طالب يريدون مبايعته بالخلافة، فطلب منهم أن يرجعوا إليه في الغد، وقد حلقوا رؤوسهم، فلما كان الغد لم يحضر منهم سوى ثلاثة نفر.

صحيح أن عليا بن أبي طالب – عليه السلام – تعاون مع الخليفة الأول أبي بكر الصديق – رضي الله عنه، وتعاون مع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب– رضي الله عنه. وصحيحٌ قبل هذا أن الأنصار انقادوا لكبيرهم أبي عبيدة، لكن الصراع بقي كامناً أول الأمر، ثم ظهر واحتدم احتداماً دموياً حيناً، وفكرياً وأيديولوجياً حيناً آخر. لأن الدوافع القائمة وراءه بقيت دون حسم، ولأن المحتوى الاجتماعي – السياسي لهذا الصراع هو هو لم يتغير، غير أنه كان صراعاً إيجابياً تاريخياً، فهو – من جهةٍ أولى- كان ضرورة يقتضيها قانون حركة التطور الاجتماعي، ومن جهةٍ ثانية- كان مصدراً خصباً لنشوء حركات فكرية أصبحت فيما بعد من مكونات حركة تطور الفكر العربي – الإسلامي، ولا سيما الفكر الفلسفي منه.

الشكل الديني للصراع:

وبالرغم من أن الصراع كان مسوقاً بدوافع اجتماعية – سياسية غير خفية، لكنه اتخذ شكله الديني، لأن هذا هو الشكل التاريخي له موضوعياً في ذلك العصر. ومن هنا تحوّل ظاهر الصراع من كونه صراعاً بين المهاجرين والأنصار على السلطة، إلى كونه صراعاً بين الهاشميين وسائر الفرقاء، على مَنْ هو صاحب الحق الديني في الخلافة.

إن مسألة "الحق الديني" هذه كان لها دورٌ في نشوء محور آخر للنزاع، يرتبط بتحديد المفهوم الإسلامي للخلافة: هل هي حقٌ إلهي، وهل منصب الخليفة منصب إلهي محض، كشأن مفهوم النبوة والنبي عند المسلمين؟

ومعنى ذلك أنه واجب على الله أن يختار شخص الخليفة، كما يختار شخص النبي، لمؤهلات خاصة به، تؤهله لمتابعة أداء الرسالة النبوية، وأهمها أن يكون الخليفة أفضل الناس وأعلمهم. وبهذا المعنى يكون الخليفة إماماً للمسلمين، ويكون اختياره بواسطة الوحي المنزل على النبي، ويُصبح واجباً على النبي (ص) تبليغ المسلمين هذا الاختيار بنصٍ صريحٍ واضح، ويُصبح واجباً على المسلمين، بعد النبي (ص) الخضوع لهذا الاختيار والاعتقاد به كجزء من الإيمان، أو كأصل من أصول العقيدة كشأن الاعتقاد بالنبوة والنبي، بحيث لا يكون الفرق بين النبي والإمام إلا بالوحي، أي يكون الوحي خاصاً بالنبي دون الإمام؟. أم أن الخلافة منصب رئاسي لا يأتي اختياره من عند الله، بل هو حقٌ من حقوق المسلمين أنفسهم، فهم الذين يقررون طريقة اختيار الخليفة، وهم الذين يقررون الصفات التي يرون ضرورة توفرها فيمن يتولى أمر هذا المنصب فيهم؟.

هذا الشكل الجديد من النزاع في أمر الخلافة تفرّع عنه لدى القائلين برفض كون الخلافة منصباً إلهياً، نزاعٌ آخر: هل واجب أن يكون الخليفة من بني هاشم في قريش، أم واجب أن يكون من قريش بوجهٍ عام، أم يصح أن يكون من غير قريش في العرب، أم يصح أن يكون من العرب وغير العرب من المسلمين حتى لو كان "عبداً حبشياً" كما قال الخوارج بعد ذلك؟.

أما القول بأن الخلافة حقٌ إلهي، فهو القول الذي أخذ به أنصار علي بن أبي طالب – عليه السلام، وصار بعد ذلك أصلاً من أصول العقيدة والإيمان عند الشيعة. وقد اقتضاهم ذلك أن يُثبتوا النص الإلهي الموحى به على النبي باختيار علي إماماً للمسلمين، وأن يُثبتوا التبليغ النبوي لهذا النص. وهم يذكرون لإثبات ذلك نصوصاً عدة، ولكن النص الأكثر اعتماداً لهم والأقوى سنداً تاريخياً وإسلامياً، هو ما يُسمى بـ"حديث الغدير". وقصة هذا الحديث، كما ترويها المصادر الإسلامية كافة. أي مصادر الشيعة والسنيّة على السواء- هي: أن النبي حين خرج من مكة عائداً إلى المدينة بعد الحج الأخير، ويسمى "حجة الوداع"، أوحي إليه في الطريق: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (سورة المائدة – الآية 67). فأمر النبي أصحابه فاجتمعوا في مكانٍ عند غدير يُسمى "غدير خم"، ثم دعا إليه علياً بن أبي طالب – عليه السلام- فوقف إلى يمينه، ثم خطب – أي النبي (ص)- فقال: "لقد دُعيتُ إلى ربّي (يقصد أن موته قريب) وإنّي مُجيب، وإني مغادركم من هذه الدنيا، وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي، أهل بيتي". ثم أخذ بيد علي ورفعها بحيث يراها الجميع، وقال: "يا أيها الناس! ألستُ أولى منكم بأنفسكم!" قالوا: بلى، فقال: "من كُنتُ مولاه فهذا عليٌ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصرْ من نصره، واخذلْ من خذله، وأدرِ الحق حيثما دار".

فلما انتهى النبي (ص) من خطابه، قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- مهنئاً علياً – عليه السلام: بخٍ، بخٍ لك يا علي، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة". ثم عاد النبي (ص) إلى خيمته ونصب خيمةً أخرى بجانبها لعلي، ثم أمر المسلمين أن يُبايعوه بالإمامة، ويُسلّموا عليه بإمرة المؤمنين رجالاً ونساءً.

هذا الحديث تتّفق على صحته تاريخياً كما قلنا مختلف المذاهب الإسلامية، ولكن يختلفون في دلالته. ومركز الاختلاف كلمة "المولى" أو "الموالاة" الواردة في الحديث. فالشيعة تقول: إنَّ الكلمة أطلقها النبي (ص) على نفسه أولاً حين قال: "من كنتُ مولاه" وهي تعني هنا: من كُنتُ ولي أمره دينياً، ثم أطلقها على عليّ ثانياً حين قال مباشرةً: ".. فهذا عليّ مولاه". فهي إذن تعني بالنسبة لعلي ما تعنيه بالنسبة للنبي، أي أن علياً في الحديث قد نصّبه النبي ولياً لأمر المسلمين، كما كان هو، أي إماماً لهم، إذ لا يجوز في الإسلام أن يكون نبياً مثله، لأن محمداً (ص) خاتم الأنبياء ولا نبي بعده.

غير أن الفرقاء الآخرين من المسلمين، قالوا أن كلمة "المولى" أو "الموالاة"، وكل ما ورد في الحديث من أفعال ومشتقات للكلمة، إنما تدل على المودة والمحبة فقط، وليست تعني النص على الإمامة.

هذا الجانب من النزاع في شكله الديني على مسألة الخلافة، وفي هذا الجانب نفسه قال بعض المسلمين أن النبي (ص) نصّ نصاً خفياً على خلافة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه- لا على خلافة علي بن أبي طالب – عليه السلام. وذلك ما يذكرونه من أن النبي (ص) أمر الصحابة، أثناء مرضه الأخير، أن يُصلّوا جماعة، وأن يكون أبو بكر إمامهم في صلاتهم هذه. فقالوا: إنَّ الإمامة في الصلاة هي الإمامة الصغرى، وأن ذلك يوحي بإسناد النبي (ص) الإمامة الكبرى إلى أبي بكر، وهي الإمامة العامة في سائر شؤون الإسلام والمسلمين. وقد استند عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- إلى هذه الحجة في طلب البيعة لأبي بكر يوم السقيفة. ويذكرون سنداً آخر لخلافة أبي بكر عن النبي (ص)، وهو حديث رُوي عن محمد بن عمر بإسناده إلى محمد بن عمرو الأنصاري، أنه سمع عاصماً بن عمر بن قتادة يقول: إنَّ النبي ابتاع بعيراً من رجلٍ إلى أجل. فقال: يا رسول الله إن جئت فلم أجدك؟. يعني بعد الموت. قال: فأت أبا بكر... إلى آخر الحديث، ويذكرون إلى ذلك أحاديث من هذا القبيل مُفصّلة في كتب الحديث والسيرة.

والجانب الآخر من النزاع على منصب الخلافة، هو الجانب الذي يدور على كون هذا المنصب غير إلهي، بل حقاً للمسلمين أنفسهم يختارون له من يرونه الأصلح لأمورهم. في هذا الجانب نشأت مشكلة قبلية، ولعلها طبقية بوجهٍ من الوجوه. فقد رأينا – من قبل- كيف تمسّك كلٌ من المهاجرين والأنصار بحقهم في منصب الخليفة. وهنا يبدو للمشكلة وجهٌ هو أقرب أن يكون طبقياً لما سبقت الإشارة إليه، من أن الأنصار كانوا يتحسسون مشاعر شبه طبقية تجاه المهاجرين، بسبب من التمايز الملحوظ بينهم وبين المهاجرين، الذين كان ظاهراً أنهم هم "الفئة الأولى" البارزة فيما سميناه "المشاعية الإسلامية" في "المدينة". وقد رأينا، إلى جانب ذلك من يدخل طرفاً آخر في التنافس على منصب القيادة العليا للسلطة الإسلامية. إذ رأينا مثلاً، حين انتهى أمر الخلافة إلى أبي بكر، في مؤتمر سقيفة بني ساعدة، أن أبا سفيان بن حرب (وهو أبو معاوية مؤسس الدولة الأموية) تخلّف عن مبايعة أبي بكر. وقال مُثيراً زعماء قريش: "أرضيتم يا عبد مناف أن يلي هذا الأمر عليكم غيركم". وتقول المصادر أن بني هاشم وبني أمية معاً – بالرغم من اختصامهم- غضبوا أن يتولى الخلافة رجلٌ من بني تيم، أي أبو بكر. من هنا ظهرت آراء في الخلافة: هل هي حصرٌ على فئة من قريش، أو في قريش جملةً، أو هي حصرٌ في العرب، أو هي للمسلمين جميعاً، عرباً وغير عرب؟.

كان شكل الصراع، في كل ذلك دينياً، وكانت الحجج لكل فريق دينية أيضاً. لكنه اجتماعي- سياسي، شبه طبقي، بجوهره ومضمونه، فكبار التجار من جهة، والطامحون إلى الثراء والتوسع في حملة الفتح من جهة أخرى، كانوا يرون في تسلم مقاليد الخلافة الإسلامية تحقيقاً لمصالحهم الفئوية.

مشكلة "الشورى":

قلنا: إنَّ في المسلمين من لا يوافق على كون الخلافة منصباً إلهياً، وقال هؤلاء: إنَّ النبي (ص) ترك أمر هذا المنصب إلى المسلمين، يختارون له من يرونه أهلاً للقيام بشؤونهم العامة. لكن وقع الخلاف هنا في طريقة نصب الخليفة: أيكون تعييناً أم انتخاباً؟. ومن الذي يحق له أن يتولى التعيين، أو من هم الذين لهم حق الانتخاب؟.

لقد فرض الواقع نفسه على كل رأيٍ أو جدلٍ في المسألة، وصار الواقع العملي هو النموذج الإسلامي التاريخي الذي يُقرّر وجه المسألة، فإن مؤتمر سقيفة بني ساعدة الذي أسفر عن نصب أبي بكر الصديق – رضي الله عنه- خليفةً، بمبادرة فردية من عمر بن الخطاب – رضي الله عنه، صار مرجعاً في تحديد الرأي وطريقة الاختيار، ثم حدث أن أبا بكر نفسه – وباختياره الشخصي- عيّن عمر بن الخطاب خليفةً بعده.

ثم أخذ عمر بطريقة أخرى سُميّت بطريقة "الشورى". ذلك أنه حين أُصيب بالطعنة التي أودت بحياته، قيل له أن يُعيّن من يخلفه، فاختار ستة رجال من الصحابة، وعهد إليهم أن يجتمعوا بعد موته ثلاثة أيام، فينتخبوا واحداً منهم خليفةً للمسلمين، وحدّد لهم عمر طريقة الاختيار بصورة مُفصّلة ودقيقة وموجّهة، إلى حد أنها تُشير إلى النتيجة التي توقّعها علي بن أبي طالب – عليه السلام، وهو أحد الستة، منذ خرج من مجلس عمر بعد أن أعلن – أي عمر- الخطة، فقال – أي علي – لقومٍ كانوا معه من بني هاشم: "إن أُطِيعَ فيكم قومكم لم تُؤَمَّرُوا أبداً. وتلقّاه العباس، فقال: عدلت عنا..". وذلك ما حدث فعلاً، فقد نفّذ عبد الرحمن بن عوف الخطة التي رسمها عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- قبيل موته بدقة، حتى خرج "أهل الشورى" باختيار عثمان بن عفان – رضي الله عنه- خليفةً ثالثاً بعد عمر، أما بعد مقتل عثمان، في سياق الانتفاضة المعروفة، فقد صار الأمر لاختيار الناس بصورة عفوية، إذ كان علي بن أبي طالب – عليه السلام- هو المؤهل يومئذٍ للاختيار، فبايعه ناس وحاربه ناس، وتوقف آخرون، على نحو ما سنرى.

نظرة في الشورى:

لقد قيل الكثير عن مبدأ "الشورى" في المؤلفات الإسلامية، حتى وصفوا عهد الراشدين بأنه "عهد الشورى". فماذا يعني هذا المبدأ؟. لقد حدّد بعض العلماء المسلمين المعاصرين مفهوم "الشورى": بأنه التشاور بين المسلمين في انتخاب الخليفة، وفي شؤون الحياة العامة، وشؤون "الحكم في دولة الإسلام". فهل كان اختيار الخلفاء الراشدين متطابقاً مع هذا المفهوم؟.

إن اللوحة التي عرضناها هنا تجيب عن السؤال، فهي تقدم الأمر الواقع كما حدث بالتعاقب منذ خلافة أبي بكر إلى خلافة علي، فهل نرى في هذا الأمر الواقع تطبيقاً عملياً لمبدأ الشورى بحيث يصلح أن يُقال عنه ما يُقال في معظم المؤلفات الإسلامية المعاصرة؟. إنه لواضح – استناداً إلى هذا النموذج التاريخي- أن مبدأ الشورى لم يتخذ وضعه التطبيقي لدى ممارسة شؤون "الحكم في دولة الإسلام"، بل اتخذ وضعاً آخر لا يتطابق مع مبدأ الشورى، بمفهومه الذي يُفسّره علماء المسلمين، حتى في عهد عمر، على الرغم من كونه العهد الراشدي الذهبي.

هذا ما يُقال إجمالاً عن مبدأ الشورى في سياق التطبيق، فلننظر الآن في الوضع التشريعي لهذا المبدأ:

ليس من النصوص الأصول (القرآن والسنة) ما يقضي باعتبار الشورى مبدأً تشريعياً صريحاً، أي اعتباره جزءاً من الشريعة الإسلامية يجب التزامه كشأن التشريعات الواجبة الاتباع في النظم الإسلامية.. فإن ظهر نصٌ قرآني ورد بهذا الشأن هو: {.. وأمرهم شورى بينهم}. إن هذا النص لا يدل على "تشريعية" المبدأ، لأنه لم يرد في سياق التشريع في الآية، بل ورد خلال وصف "أخلاقية" المؤمنين و"سلوكياتهم". وهو – أي هذا النص- يخلو من الدلالة على كونه خاصاً بنظام الحكم، ولو أنه كان يحمل هذه الدلالة، لكان من المستبعد أن يجري اختيار الخليفة على نحو ما جرى في اختيار الخلفاء الراشدين، من اللجوء إلى اعتبارات بعضها يرجع إلى منافسات أسرية أو قبلية أو فئوية، إذا لم نقل: شبه طبقية، وبعضها يرجع إلى مواقف ذاتية، وبعضها إلى نوعٍ من الشورى "الفوقية"، التي حصرت "أهل الشورى" في أشخاص معدودين، كان معروفاً – سلفاً- أنهم لن يتفقوا على الأكثر كفاءةً فيهم لمنصب الخلافة، لما كان بينهم من خصومات سياسية، ومن مواقف ترجع من جهة إلى طموح كلٍ منهم إلى المنصب، وترجع – من جهةٍ ثانية- إلى اتفاق "الأكثرية" سلفاً على إبعاد علي بن أبي طالب – عليه السلام- عن قيادة دولة الخلافة.

إذن، فمبدأ الشورى المستفاد من النص القرآني السابق، مبدأ عام ومطلق غير محدد، فليس من شأنه أن يُعدَّ ذا وضع تشريعي يُقرّر الطابع الخاص بنظام الحكم في الإسلام. ويعترف علماء المسلمين بأن "الإسلام لم يحدد طريقة تحقيق الشورى"، لكن يمكن القول: إنَّ روح التشريع الإسلامي بوجهٍ عام، يقضي باستبعاد النظام الوراثي الذي اختاره معاوية بعد ذلك، بدليل النص النبوي، والذي يشير إلى رفض الإسلام للنظام الذي يقوم على ما سمّاه النبي (ص) "ملكاً عضوضاً". وهو تعبير مجازي يعني الملك الذي "يعض" عليه صاحبه، بمعنى أنه يتشبث به مستأثراً بامتيازاته لنفسه ولورثته، أو الذي "يعض" به على الأمة ويفرضه عليها فرضاً، كما يُفسّره أحد الباحثين المعاصرين، غير أن هذا النص النبوي لا يكفي لإقامة وضع تشريعي مُحدّد أيضاً لمبدأ الشورى. وليس ما يصلح لإضفاء هذا الوضع التشريعي على المبدأ المذكور سوى السنة العملية، أي سيرة النبي والخلفاء الراشدين في تصرفهم العملي. فقد كان النبي كثيراً ما يستشير الصحابة في بعض الأمور قبل الإقدام عليها، كما فعل – مثلاً- قبل أن يقرر القيام بغزوة "بدر الكبرى" (سنة 624م)، إذ استشار الصحابة وأطال المشورة حتى وجد الموافقة منهم، وفي سيرة كلٍّ من الخلفاء الراشدين – عدا عثمان- أمثلة من هذا القبيل، ولكنها جميعاً تتصل بشؤون قضائية أو إدارية، أو عسكرية، ولا تعطي المبدأ وضعه التشريعي الذي يشمل نظام الحكم، لذلك يصح الاستنتاج هنا أن الإسلام لا يحدد نظاماً مُعيّناً من أنظمة الحكم، يوجب على المسلمين اتباعه دون غيره. أي أن مبدأ الشورى يتحدد – في نهاية المطاف- بأنه مبدأ استحساني يوصي الإسلام بمراعاته حين تقتضي المصلحة العامة ذلك. بمعنى أن المصلحة العامة هي المرجع في اختيار نظام معين للحكم.

الثورة على عثمان بن عفان – رضي الله عنه:

نقول عن الثورة التي حصلت في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان – رضي الله عنه- أنها أول ثورة اجتماعية في الإسلام. نقول ذلك دون أن نكون قد نسينا حركة الارتداد التي استوجبت "حروب الردة"، ولكننا نرى فرقاً بين "الثورتين"، فهو الذي يحملنا على وصف الثورة ضد عثمان بأنها الأولى من نوعها في الإسلام، فإن حركة الارتداد بالرغم من كونها نتاج عوامل اجتماعية، كان لها طابع "الثورة المضادة" للإسلام. إلا أن الثورة على عثمان متصالحة مع الإسلام، بل هي تتسلح بمفاهيم الإسلام ذاتها، وتنطلق من حرص الثائرين أنفسهم على تطبيق قواعد الإسلام وشرائعه تطبيقاً عادلاً وسليماً، وفق روح التشريع الإسلامي، كما كانوا يفهمونه ويؤمنون به، ومن هنا نرى أنها أول ثورة في الإسلام من نوعها بالفعل.

أرستقراطية أموية:

مات عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- عام 644 للميلاد، بعد أن ترك طابعه الخاص على أنظمة "الدولة" الإسلامية، التي يرجع إليه فضلٌ كبيرٌ في وضع أسسها العملية. ومن آثاره في هذا المجال ما أحدثه من تعديلات في نظام الضرائب، ومن اجتهادات في تطبيق ضريبتي الجزية والخراج، وإعفاؤه من أعفى من الضريبة الأولى ولا سيما إعفاء الذين يدخلون الإسلام من الأديان الأخرى. وفي عهده بدء بفرض ضرائب أخرى ورسوم على الصناعات الحرفية، ثم أن آثاره المعروفة أيضاً ذلك التقليد الذي اتبعه في سياسة البلدان المفتوحة من التسامح الديني، ومن الحرص على مراقبة سلوك الولاة الحاكمين في تلك البلدان من قِبله وأخذهم بالشدة والحزم حين يبلغه عنهم شيءٌ من عمال الظلم للسكان، حتى كان يُبادر إلى عزل بعضهم، ومصادرة الأموال والممتلكات التي يكون هذا الوالي أو ذاك قد انتزعها من أصحابها ظلماً واستأثر بها.

تلك كانت سيرة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- الذي اشتهر في المؤلفات الإسلامية وغير الإسلامية بلقب "عمر العادل"، ولكن ما أن جاء عثمان بن عفان – رضي الله عنه- إلى سدة الخلافة بعده، حتى ظهرت على سلوك الولاة الحاكمين في الأمصار مظاهر جديدة تُنبئ بأن سياسة عمر وسيرته تواجهان تغييراً وانحرافاً خطيرين. فقد بدأ الناس يُحسّون أن الأموال المتجمعة من ضرائب الجزية والخراج وغيرهما لا تذهب إلى "بيت المال"، وإنما تذهب إلى فئة الحكام والذين ولاَّهم الخليفة الثالث عثمان بن عفان – رضي الله عنه- على الأمصار، وهم في الأغلب من أسرته وعشيرته في بني أمية، فإذا بهذه الأموال تتكدس ثروات كبيرة في جماعة معينة من أهل "المدينة" عاصمة الخلافة الراشدية، ثم يبدو تدريجياً أنه قد نشأت في هذه العاصمة طبقة جديدة من ذوي الثراء الفاحش، ونشأت فيها مع نمو هذه الطبقة مرافق الترف والرفاهية المادية المتنوعة.

هذا التغير الجديد يقتضينا أن نتحدث قليلاً عن عثمان بن عفان – رضي الله عنه- نفسه، إنه ينحدر من منشأ ارستقراطي في قريش، أو من الفئة العليا التي كانت لها السيادة المطلقة في مكة قبل ظهور الإسلام، فهو من بني أمية، أحد الفروع العشرة لقريش، وأظهرها غنى وسطوة في مكة أيام الجاهلية، فهم المسيطرون والمنظمون لشؤون التجارة المكية، ولا سيما آل أبي سفيان من بني أمية. وأبو سفيان هذا هو الذي كان يقود حملة الاضطهاد والخصومة الضارية ضد محمد (ص) منذ إظهاره دعوة الإسلام، وعثمان نفسه الذي ينتمي إلى هذا الفرع الأموي في قريش كان في الجاهلية من كبار أغنياء الفرع الأموي. إضافةً إلى منشئه "الطبقي" هذا، فكان حين تولى أمر الخلافة بعد عمر شيخاً طاعناً في السن، وقد فقد السيطرة الكاملة على إرادته، لو أنه شاء أن تكون له إرادة في غير الاتجاه المنحرف، الذي اتجه إليه الولاة الأمويون، الذين اختارهم لحكم الأمصار من أقرب أقربائه. على أن "الدولة" العربية الإسلامية كانت حينذاك قد اتسعت رقعتها كثيراً، فكيف يمكن أن يحكمها في هذا الحال خليفةٌ جلس في مكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- وهو يحمل إلى مقام الخلافة كل هذه الخصائص المميزة له عن سلفه العظيم؟.

 

ويبدو أن هذه الخصائص كان يعرف معظم الصحابة ما ستترك من آثار سلبية على سياسة "الدولة"، فلما ظهرت هذه الآثار بالفعل كانت النقمة على سياسة عثمان بن عفان – رضي الله عنه- تشمل مختلف أحزاب المسلمين في "المدينة" قبل أن تنفجر هذه النقمة في صفوف بسطاء المسلمين والكادحين في سائر الأمصار، ومن الطبعي أن يكون حزب علي بن أبي طالب – عليه السلام- من أشد الناقمين حينذاك. لأنهم يرون في مجيء عثمان إلى منصب الخلافة، وحرمان علي من هذا المنصب ثالث مرة مع رؤيتهم الفارق الكبير بين الرجلين، من حيث المؤهلات الشخصية والإسلامية معاً، ظلماً جديداً لا لعلي نفسه وحسب، بل ظلماً جديداً كذلك للحق الإلهي، الذي يعتقدون أنه يختص علياً بالخلافة منذ عهدها الأول.

 

ثورة البسطاء:

لقد تمادى بنو أمية الحاكمون في الأمصار من قبل عثمان، بسياسة جمع الثروات لأنفسهم، ولكن لم يجمعوها من عائدات الضرائب التي أقرتها التشريعات السابقة وحسب، بل زادوا في ذلك فأخذوا يجمعون هذه الثروات الفاحشة من فرض ضرائب جديدة جائرة وباهظة على الناس، ومن اغتصاب سكان البلدان المفتوحة أملاكهم وأراضيهم، حتى أنشأ هؤلاء الحكام طابعاً شبه إقطاعي للدولة، إذ أصبحوا من كبار الملاكين للمزارع والعقارات، فطبعوا الدولة كلها في أنظار سكان الأمصار، بطابعهم شبه الإقطاعي الجديد. فأخذ الاستياء بين الناس ينمو ويتسع ويمتد في صفوف البسطاء والكادحين، بالأخص وفي صفوف الأحزاب السياسية في "المدينة"، ولا سيما الذين أُزيحوا منذ ابتداء عهد عثمان عن مراكزهم والذين خابت مطامحهم في تلك المراكز.

هكذا تجمّعت في الأعماق وعلى السطح أسباب الانفجار الذي أحدث ما سُمي في تاريخ الإسلام بـ"الفتنة الكبرى"، أو "فتنة عثمان". ولكن الذين سمّوه هكذا لم يكن يعنيهم أن يُفكّروا بالمغزى التاريخي والاجتماعي لهذه "الفتنة"، ولذلك اختاروا لها الاسم البعيد عن حقيقتها. أما حقيقة هذا الانفجار ومغزاه فيكمنان في أنه انبثق من جماهير الناس البسطاء، من عربٍ وغير عرب، وكلهم من المسلمين الحريصين – كما قلنا- على أن يبقى الإسلام، وأن يسود بالروح نفسها التي دخلوا فيه من أجلها، هي روح التغيير الاجتماعي باتجاه تحسين أحوالهم المادية، وتخفيف الفوارق التي كانت قائمة بينهم وبين الفئات العليا التي بدأت تنمو على حساب شقائهم. لم يتّهم أحدٌ من مؤرخي الإسلام أولئك الوافدين عام 656 من مصر والعراق إلى مكة حجاجاً مؤمنين، بأنهم خارجون على الإسلام، أو أنهم كانوا يُدبّرون "ثورة مضادة" للدولة الإسلامية، بل يؤكد المؤرخون أن هؤلاء وفدوا إلى الحج يحملون مع إيمانهم بالإسلام استيائهم ممن يظلمونهم ويغتصبون أرزاقهم، ويكدّسون الثروات باسم الإسلام. لقد وفدوا يشكون إلى الخليفة عثمان بن عفان – رضي الله عنه- سوء معاملة أقربائه الحاكمين بأمره، ثم يطلبون إليه أن يعتزل منصب الخلافة، لا كراهية للخليفة نفسه، بل لأن اعتزاله الخلافة كان العلاج الوحيد للمشكلة التي يعانيها أهل الأمصار، مشكلة عجز الخليفة عن السيطرة على تصرفات أقربائه الذين يحكمون هذه الأمصار باسمه. ولكن عثمان رفض هذا الطلب، فلم يستطع ممثلو الأمصار كبح جماح نقمتهم، ونقمة البسطاء الآخرين من مواطنيهم، الذين أوفدوهم بطلبهم ذاك، فحاصروا داره، وقاوم الحصار أنصار عثمان، ولم يكن لهذا الانفجار أن ينتهي إلا بمصرع الخليفة نفسه، وانتظار الثائرين أن يقوم على رأس الخلافة رجلٌ يستطيع القضاء على الأسباب الاجتماعية لهذه الثورة الاجتماعية الأولى في الإسلام.

ولا بد هنا من القول: بأن المنشأ الاجتماعي الذي خرج منه عثمان – كما أشرنا- كان عاملاً أساسياً في رفضه اعتزال منصبه، كما كان عاملاً أساسياً في سيرته التي أوجدت أسباب الثورة، ومنها بالخصوص مظاهر البذخ المادي في حياته الخاصة، حتى قيل: إنَّه منح ابنته من "بيت المال" عند زواجها 600 ألف درهم، كلها من أموال الجزية والخراج، أي من جهد الكادحين على الأكثر.

ظهور الخوارج:

وعلى الرغم من أن جماعة من الأحزاب المناوئة لعلي بن أبي طالب – عليه السلام، وفيهم عائشة بنت أبي بكر، وطلحة والزبير، كانوا من المحرضين على قتل الخليفة عثمان، لتفضيله بني أمية عليهم في المناصب الكبرى، وبالرغم من أن علياً بن أبي طالب – عليه السلام- قد بعث بولديه: الحسن والحسين إلى دار عثمان للدفاع عنه، لأنه كان – أي علي- يُدرك ما سينشأ عن مقتله من محنةٍ للإسلام، باستغلال ذوي المصالح والمطامع مثل هذا الحادث لإثارة الفتن – بالرغم من ذلك كله، نجد أولئك الجماعة أنفسهم الذين شاركوا في التحريض على قتل عثمان ينقلبون فجأة فور مقتله إلى مُطالبين بدمه، داعين إلى الأخذ بثأره، مُتهمين علياً بن أبي طالب – عليه السلام- نفسه بالتحريض على قتله، وذلك خشية أن تتعرض زعاماتهم ومصالحهم إلى خطرٍ أشد من الخطر الذي كانت تتعرض له في حكم عثمان وبني أمية.

وهنا استغل هؤلاء مكانة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر – رضي الله عنها- في نفوس المسلمين بوصف كونها زوج النبي (ص)، وبنت الخليفة الأول أبي بكر الصديق – رضي الله عنه، واستغلوا ما كان عند عائشة من أحقاد قديمة تضمرها نحو علي – عليه السلام، فأثاروها ضده، بحجة أنه قاتل الخليفة لكي تهيج نفوس المسلمين الذين وجدوا في قتل الخليفة، حادثاً خطيراً وفاجعاً، وقد كان عند عائشة من الأسباب الذاتية ما جعلها تستجيب لكل هذه المؤثرات على الفور، فحملت قميص عثمان المُخضّب بدمه حين مصرعه تستثير به مشاعر الناس، حتى استطاعت بمعونة خصوم علي  – عليه السلام - جميعاً شن تلك الحرب المعروفة بـ"حرب الجمل" في البصرة ضد علي بن أبي طالب – عليه السلام - راكبةً على جملٍ في مقدمة المحاربين ناشرةً قميص عثمان.

كانت "حرب الجمل" هذه، هي "الفتيل" الذي فجّر من جديد كل دوافع الصراع السياسي والاجتماعي الذي بدأ عند وفاة محمد (ص)، وبالرغم من انتصار جماعة علي – عليه السلام - في هذه الحرب – حرب الجمل- بقي "الفتيل" يُثير الانفجارات المتوالية، ولكن على صعيدٍ آخر: صعيد الخلاف هذه المرة على من يكون الخليفة بعد عثمان؟

كان علي بن أبي طالب – عليه السلام- هو المرشّح الوحيد، موضوعياً، لهذا المنصب حينذاك، لأنه كان منذ بداية عهد الخلفاء الراشدين، يُذكر في عداد المرشحين، ثم كان "يُنتخب" غيره. وعند مقتل عثمان لم يبق من أولئك المرشحين سواه، فكان المفترض أن يكون هو صاحب المنصب الآن تلقائياً في نظر جمهور المسلمين دون منازع. ولكن "فتيل" حرب الجمل من جهة، ووجود أمير قوي من بني أمية على الشام يحمل زعامة الأمويين، وارستقراطيتهم ومطامحهم من جهةٍ ثانية، قد أحدثا تغييراً في الموقف لم يكن يتصوّر أحد، أول الأمر أنه سيكون.

كان معاوية بن أبي سفيان هو أمير الشام عند حدوث "الانفجار"، وكانت إمارته هناك قد امتدت منذ عهد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه-، وفي هذا الزمن الطويل الذي أقامه حاكماً على الشام وثّق علاقات حسنة مع الفئات النافذة والغنية في سورية، وذلك بمراعاته التامة لمصالحهم الطبقية، إذ أبقى أجهزة المحاكم والشرطة في أيدي كبار الملاكين العقاريين المحليين، وأغنياء المدن، وكبار التجار من السكان الأصليين، وأبقى الحواجز الجمركية على حدود سورية، على الرغم من كون هذه البلاد صارت جزءاً من الإمبراطورية العربية، وفرض مع ذلك ضرائب جمركية عالية، على البضائع المنافسة للمنتجات السورية المتطورة، ثم أنه – أي معاوية- أعفى من الضرائب كافة رجال الدين على اختلاف أديانهم، بهذه السياسة ساعد معاوية هذه الفئات السائدة على امتلاك حريتها الكاملة في استثمار غالبية سكان سورية، فضمن بذلك تأييدها الكامل له، وضمن مع ذلك عطف رجال الدين جميعاً على حكمه.

يُضاف إلى ذلك أنه طوال عهد عثمان كان الحاكم المطلق على سورية، فاستخدم مركزه شبه المستقل، أو المستقل فعلاً، بتحضير قاعدة أخرى لضمانة بقائه في هذا المركز الخطير الشأن، هي القاعدة العسكرية. فقد أنشأ هناك جيشاً قوياً كان واضحاً أنه جيش معاوية بالذات، وليس وحدةً من وحدات جيش الدولة بصفته الشاملة.

لسنا ندري: أكان معاوية، حين اعتمد هذه السياسة بمختلف تفاصيلها، يُريد أن يستخدمها لضمانة استمراره أميراً على الشام تابعاً للخليفة – أياً كان الخليفة- أم كان يُفكّر بالفعل، منذ بداية إمارته هناك بالتحضير لإعلان نفسه خليفةً للمسلمين في الوقت المناسب؟

ليس المهم أن نعرف ماذا كان يُفكّر أو ينوي معاوية من قبل. وإنما المهم الآن أن نعرف أن هذه الخطوط العريضة لسياسته التي كان يُطبّقها في سورية قبل "الانفجار" الأخير، قد جاءت في "الوقت المناسب"، دعامةً ماديةً ملموسةً لإعلانه الدعوة لنفسه خليفةً للمسلمين، مُنازعاً بذلك المرشّح الأول، في نظر جمهور المسلمين لهذا المنصب، نعني علياً بن أبي طالب – عليه السلام، وجاء هذا الذي سميناه "الوقت المناسب" دعامةً أخرى لمعاوية، ونقصد به "الفتيل" الذي بدأت "حرب الجمل" بإشعاله ضد علي.

لقد بايع فريقٌ من جمهور المسلمين علي بن أبي طالب – عليه السلام- بالخلافة، في المدينة والبصرة والكوفة، وبالرغم من أنه –أي علي- عزل معاوية عن الإمارة على سورية، وخلعه من منصبه ذاك، دون أن يُراعي تلك الظروف كلها، التي كان معاوية قد حصَّنَ بها نفسه تحصيناً بارعاً، نقول: بالرغم من ذلك وجد معاوية في هذه المبادرة من علي ما يدعوه إلى أن يتجاوز منصب الإمارة على سورية، ما دامت الظروف "المناسبة" قد تهيأت كلها لتحقيق طموحه إلى مركز الخلافة نفسه. وطموحه هذا لم يكن طموحاً شخصياً وحسب، بل كان ذلك تعبيراً كذلك عن طموح هذه "الطبقة" الأريستقراطية" الأموية العريقة، التي لم ينشئها عهد عثمان بن عفان – رضي الله عنه- إنشاءً جديداً، وإنما تطورت في عهده من أريستقراطية قبلية في الجاهلية، إلى أريستقراطية "طبقية" أصبحت في هذا العهد – أي عهد عثمان- ذات وجهٍ شبه إقطاعي، وأصبحت في الشام سنداً، وجهازاً "رسمياً" للطبقات المحلية السائدة المستثمرة.

فإذا أضفنا إلى كل ذلك ما كان لعلي بن أبي طالب – عليه السلام- نفسه من خصائص ترجع من جهة إلى منشئه الهاشمي، المناوئ للأموية الجاهلية والإسلامية معاً، وترجع من جهةٍ ثانية إلى كونه معروفاً في الأوساط الإسلامية كافة، بأخلاقياته الطوبائية المتمسكة بمفاهيم الحق والعدل والخير، على نحوٍ مطلق، تمسكاً يأبى عليه المهادنة مع مَنْ يعتقد فيهم الانحراف عن هذه المفاهيم – إذا أضفنا إلى كل ما تقدم خصائص عليّ هذه، استطعنا أن نفهم موقف معاوية في مختلف جوانبه، وموقف "الطبقة"، أو "الطبقات"، والفئات التي تسند معاوية في منازعته لعليّ أمر الخلافة.

في مناخ هذه الظروف كلها، اشتعلت حرب "صِفين"([1]) بين جيش العراق (جيش علي بن أبي طالب – عليه السلام)، وجيش الشام (جيش معاوية)، وكان "الفتيل" الذي أشعلته أولاً "حرب الجمل" لا يزال يمتد حتى فجّر حرب صِفين سنة 657، أي بعد عامٍ من مقتل عثمان، أو من الثورة الاجتماعية ضد حكم عثمان.

ومن حرب صِفين هذه انبثق الخوارج، فنشأ بهم مذهب إسلامي جديد، أي حزب سياسي جديد. ولكن بين غلافي المذهبية الدينية، والحزبية السياسية، كانت تكمن "أيدولوجية" اجتماعية ذات مضمون ديمقراطي، يُعارض المضمون الأرستقراطي، أو "الطبقي" – إذا صحّ التعبير- الذي كان يقوم عليه منصب الخلافة قبل ظهور الخوارج.

لن نُطيل الوقوف عند التفاصيل التاريخية التي حدثت في صِفين، ولكن من المهم هنا الإشارة إلى هذا المذهب، أو هذا الحزب الذي صار اسمه "الخوارج" بسبب خروج مؤسسيه، أي تمردهم، عن طاعة مَنْ كانوا يُحاربون في تلك المعركة تحت لوائه، نعني به علياً بن أبي طالب – عليه السلام، حين قبل عرض قيادة جيش معاوية بالرجوع إلى القرآن ليكون – أي القرآن- حكماً بين الخصمين المتحاربين، وما انتهى إليه هذا التحكيم من ظهور الخدعة التي دبّرها عمرو بن العاص لخذلان عليّ بن أبي طالب – عليه السلام، فإن هؤلاء "الخوارج" – وعلى الرغم من كونهم، هم الذين ألحوا على صاحبهم علي بن أبي طالب – عليه السلام- بقبول عرض التحكيم-، إلا أنهم غضبوا عليه حين انتهى التحكيم بخذلانه، فأعلنوا خروجهم عليه وعلى معاوية معاً، وحكموا بكفرهما معاً، ثم وضعوا لأنفسهم مبادئ اتخذوا – بَعْدُ – منها، منهجاً سياسياً، وفكرياً، وعسكرياً، فشرعوا ينفّذونه تحت راية مذهبية إسلامية، في معارك دموية ضارية متصلة، ولقد انتهى أمرهم كجماعة بشرية أخذت خصومها بالعنف، دون أن ينتهي أمرهم كمبادئ تقوم على "أيدولوجية"، تعكس جانباً من الواقع الاجتماعي، لا في عصرهم وحسب، بل في عصورٍ لاحقة كذلك.

الأشكال الفكرية للصراع الحزبي:

لم يطل عهد الخلفاء الراشدين بعد أن انتقل الصراع السياسي والحزبي إلى صعيده الجديد، الذي أصبح يؤلف معسكرين، أو جبهتين منفصلتين في الظاهر، ولكنهما متصلتان في الواقع، وهما: جبهة الصراع بين علي ومعاوية، وجبهة الصراع بين علي والخوارج.

كان شخص "علي بن أبي طالب – عليه السلام" يُمثّل قضيتين تبدوان على كثيرٍ من التناقض:

1. القضية الأولى: قضية المفهوم الإلهي للخلافة، والوجه الطوبائي لمفاهيم الحق والعدل والخير.

2. القضية الثانية: قضية العصبية الهاشمية بمعناها السياسي المناوئ للعصبية الأموية.

وهذه القضية الثانية كانت ترتبط بشخصه في حلبات هذا الصراع، دون أن تكون داخلةً في مفهومه هو بالذات، ولكنها قضية موضوعية بالنسبة إليه وليست ذاتية، فإن كثيراً ممن كانوا في حزبه كانوا يضعون هذه القضية في حسابهم قبل كل شيءٍ آخر.

بما أن علياً بن أبي طالب – عليه السلام- كان يُمثّل هاتين القضيتين المتناقضتين – شاء هو ذلك أم لم يشأ- فقد كان – إذن - محور ذاك الصراع على كلتا الجبهتين السابقتين: جبهة الخوارج، وجبهة معاوية، وكان معاوية في صراعه هذا مع "علي" يُمثّل بدوره أيضاً قضيتين، ولكنهما غير متناقضتين، وغير منفصلة إحداهما عن الأخرى، بل كل واحدةٍ منهما مُكمّلةٌ للثانية. وهما: قضية مطمحه الشخصي إلى منصب الخلافة أولاً، وقضية العصبية الأموية إلى جانب المطامح الطبقية ثانياً.

غير أن عهد هذا الصراع حول شخص "علي" بالذات قد انتهى، بانتهاء حياته في الشهر الأول من عام 661 للميلاد، قتيلاً في مسجد الكوفة بيد أحد الخوارج (عبد الرحمن بن ملجم)، وبذلك انتهى عهد الخلفاء الراشدين، ولكن مسألة حق "علي" بالخلافة، بمفهومها الإلهي، بقيت مسألة مبدئية يدور عليها صراع فكري تاريخي لم ينته حتى الآن، كما دار عليها صراع سياسي تاريخي أيضاً، كان له دورٌ كبير الشأن في تاريخ المعارضة السياسية طوال عهود الخلافتين: الأموية، والعباسية، وقامت على أساسه دويلات، وانهارت به دول.

ويعنينا من المسألة الآن جانبها الفكري، وهنا ينبغي أن نتذكر أن عهد الخلفاء الراشدين، قد انتهى تاركاً في الحياة الاجتماعية، والسياسية، والفكرية ثلاثة تكتلات رئيسة: شيعة "علي"، وحزب الأمويين، والخوارج.

وهناك كتلٌ أخرى ثانوية، ظهرت سريعاً وانطفأت سريعاً، دون أن تترك أثراً يُذكر لا في المجال الفكري ولا في المجال السياسي. ثم ينبغي أن نتذكّر أيضاً أن الجانب الفكري لكل حزبٍ من هذه الأحزاب الثلاثة الرئيسة لم يكن ينفصل عن جانبه الاجتماعي السياسي. ولكن، علينا مع ذلك أن لا ننسى مسألةً جديرةً بالعناية في موضوعنا، تكمن في كون الفكر يُمثّل شكلاً ممتازاً من أشكال الوعي الاجتماعي والسياسي، بحيث يملك في الوقت نفسه نوعاً من الاستقلالية النسبية، بمعنى أن الفكر وإن كانت له دائماً جذوره الاجتماعية أو السياسية، لكنّه يمكن أن يتخذ لنفسه مجرى مستقلاً نسبياً إلى حد أن تختفي في أعماقه تلك الجذور، لانشغال الفكر بقضايا شمولية، وصياغة المفاهيم التجريدية لهذه القضايا. نقول ذلك مع تأكيدنا القول: بأن قضايا الفكر هذه مهما تراءى لنا أنها تتخطى القضايا الراهنة المباشرة لحياة المجتمع بصورة مستقلة عنها، إلا أنّها تبقى مرتبطة بأصولها الواقعية في حياة عصرها ومجتمعها، مرتبطة بالظروف الزمانية والمكانية التي هي بالذات المصدر الحقيقي لقضايا الفكر في مجراه المستقل هذا.

في ضوء ذلك نقول: إنَّ الأشكال الفكرية للصراع الحزبي الذي انتهى عنده عهد الخلفاء الراشدين، لم تكن في الوقت الذي بلغت فيه مرحلة هذه الاستقلالية النسبية التي نتحدث عنها. نقصد أن الصراع الحزبي هذا، لم تكن أشكاله الفكرية قد ارتفعت إلى مستوى النظريات القائمة، على أسس من النظر العقلي، وصياغة المفاهيم، نلاحظ مثلاً، أن معظم الجدل بين الأحزاب الثلاثة المتصارعة في حياة علي بن أبي طالب – عليه السلام- على الصعيد الفكري، كان يقوم على النصوص وتفسيرها، كالجدل في مسألة الخلافة، ومسألة مفهوم الإيمان، كما تُحدّده الشريعة ونظرية الجهاد ... الخ.

لكن، يجب القول: إنَّ هذا النوع من الجدل في المسائل الدائر عليها الصراع الحزبي، قد أوجد الأساس لتطور التفكير فيها بعد ذلك، (من تفكير مرتبط بالنصوص إلى تفكير يتعمق القضايا بذاتها، ثم يرجع إلى النصوص، كسند للنظر العقلي، وشاهد على صحة هذا النظر). وعلى هذا النحو من التطور انطلق الجدل من البحث في تلك المسائل على أساس أنها "شريعة"، إلى البحث على أساس أنها "دين"، أي من البحث في الأمور الشرعية إلى البحث في شؤون العقائد بذاتها. ومن هذا المنطلق نشأت المذاهب الفكرية، التي سنتحدث عن بعضها في دراستنا هذه.

وخلاصة القول: إنَّ عهد الخلفاء الراشدين انتهى قبل أن يحدث هذا التطور في الأشكال الفكرية للمسائل، التي دار عليها الصراع الاجتماعي والسياسي طوال هذا العهد.

عودة واستدراك لعصور سابقة:

بعد هذا العرض السريع الذي عرضنا فيه لروافد الخلافات التي دبّت في المجتمع الإسلامي، ينبغي أن نعرض هنا مراجعة عامة للمواد الأساسية التي تكوّن منها موضوع بحثنا (وعلى الرغم من إهمالنا لكثيرٍ من الأحداث الجانبية)، كي نستطيع المحافظة على تماسك البحث وتسلسله، تحقيقاً للغرض الذي قصدناه. وغرضنا هو رؤية "العملية التاريخية" لتطور الفكر العربي، في المجرى نفسه الذي تطوّر فيه المجتمع العربي الصاعد، من العهد الجاهلي فعهد ظهور الإسلام، حتى العصور العباسية، عصور ازدهار الفلسفة العربية، جنباً إلى جنب مع ازدهار العلوم التجريبية، والعلوم العقلية، وتطور العلاقات الاجتماعية.

نُشير إلى "العملية التاريخية" هنا، اعتقاداً منّا بأن ظهور الفلسفة العربية حين ظهرت، كان نتيجة ناضجة لنمو البذور الفكرية التي ترتبط معها بالجذور النابتة في البيئات العربية والإسلامية، وفي حضانة العناصر التاريخية، والاجتماعية، والسياسية، والدينية، والثقافية، التي تكوّنت معاً في ذلك المجرى المتسلسل الذي أشرنا إليه. لذلك رأينا أن تكون دراستنا الجوانب المعينة المطموسة لهذه الفلسفة متناسقاً ومنسجماً مع منطق هذا الواقع الذي نعتقد تاريخيته بثقة. غير أننا لا نقصد طبعاً أن نُلغي من حسابنا الروافد الخارجية التي جاءت إلى هذا المجرى، فجعلت منه نهراً كبيراً إلى مدى طويل من الزمن. بل نقصد بدقة أن نُتابع هذا النهر من ينابيعه الأولى، مهما كانت في البدء ضئيلة وشحيحة، إلى أن توافدت إليه تلك الروافد، من هنا وهناك، حاملةً إليه ثقافات شعوب عدة، وعناصر غنية من حضاراتها المتنوعة. بل نحن حين نقول بانتماء الفلسفة العربية – الإسلامية إلى بيئات الحياة العربية نفسها، فإن هذا القول بالذات يتضمن الاعتراف بتلك الروافد، لأنَّ البيئات هذه قد تمازجت فيها حياة العرب بحياة الشعوب الأخرى، التي ارتبطوا معها خلال "العملية التاريخية" ذاتها التي أشرنا إليها.

لقد استطردنا إلى هذا الكلام هنا عمداً، لكي نبقى دائماً في كل مرحلة من مراحل هذه الدراسة، محافظين على التماسك بين أجزائه من البداية حتى النهاية.

جرياً مع منطق الواقع، فكان علينا أن نبدأ دراستنا بالعصر الجاهلي المتصل بعصر الإسلام، ليتسنى لنا رؤية الفكر العربي في ينابيعه الأولى، أو في بذوره المبكرة، أي من حيث نستطيع أن نرى بداية الطرف المتطور من "العملية التاريخية"، في مسيرتها الطويلة التي انتهت إلى الفلسفة، تاركين الطرف غير المنظور الذي يُمعن في القدم إلى ما قبل الميلاد بمئات السنين. (نعني الزمن الذي ظهرت فيه الدول العربية القديمة الزائلة).

من هذه النقطة نبدأ الآن هذه المراجعة العامة للقسم الأول:

- في العصر الجاهلي:

كان يعنينا من دراسة العصر الجاهلي أن نلحظ الحياة العربية في تلك المرحلة كيف تتحرك وبأي اتجاهٍ كانت تتحرك، وما دور الفكر في عملية التحرك هذه؟

وبتلك العجالة التي بدأنا بها في دراستنا أهملنا استنتاجات مهمة، نعود نتذكرها على الوجه الآتي:

أولاً: الموقع المتوسط والطبيعة الجغرافية، قد أهّلت مكّة لتلعب دوراً مركزياً في التجارة، فصلات التعامل القديم المستمر بين سكان شبه الجزيرة العربية، والشعوب التي تصلها، أو تصدر عنها المواد التجارية المنقولة عبر بلاد العرب على طريقين رئيسيين، كان لهما صفة عالمية، قد تحوّلت – أي هذه الصلات- مع تمادي الزمن إلى صلات لا تقتصر على التعامل المادي، بل أضافت إليه صلات التفاعل الحضاري. ذلك بأن العرب لم يبقوا طويلاً مجرد ناقلين للبضائع، بل أصبحوا في المرحلة التي سبقت ظهور الإسلام، مالكين للبضائع ولوسائل نقلها معاً. ومن هنا نشأت منهم فئات من التجار، ونشأت مدنٌ كثيرة، وازدهرت مدنٌ كانت موجودة، ولكن كانت على شكل قرى كبيرة، ولذلك سُميت مكة، بعد ازدهارها كمركز تجاري "أم القرى"، وساعد على ذلك الموقع المتوسط والطبيعة الجغرافية التي أهلّت مكّة لتلعب دوراً مركزياً في التجارة. وقد يسّر لهم هذا النوع من التطور، أن يُصبحوا أيضاً مالكين للأرض الزراعية، وأن يشيع عندهم في مختلف مناطق الجزيرة، تداول النقد الذهبي البيزنطي والنقد الفضي الفارسي، ثم أن تبرز في المجتمع الجاهلي فئات متميزة عن الفئات الأخرى بقدرتها على حيازة الأموال النقدية، والبضاعية والمقتنيات الثمينة، وعلى استثمار الآخرين غير القادرين على ذلك باستخدامهم في القوافل التجارية، وفي زراعة الأرض، وفي خدمة المنازل، وفي الحرف الصغيرة وبتسليفهم المال لقاء فوائد باهظة إلى حد الإرهاق (الربا).

هذا التمايز الجديد هو أحد أوجه الحالة الانتقالية، من المجتمع البدوي إلى المجتمع التجاري قد أحدث تخلخلاً واضحاً في النظام الذي كان سائداً في الجزيرة، أي: النظام القبلي البدائي، وذلك بحدوث الانقسام في العمل، وبروز علامات الانقسام الطبقي، وإن اختلف من حيث الشكل في البادية عنه في المدن، ولا سيما مدينة مكة التي كانت المركز الأكثر تطوراً لهذا الوضع الطبقي الجديد.

ثانياً: كان لابد لهذا الوضع الجديد من إعادة النظر في منظومة الأخلاق والقيم السائدة، وأن يوجد لنفسه شكلاً سياسياً يُطابقه، فظهر هذا الشكل فعلاً في مكة حيث بلغ التناقض الاجتماعي درجةً أكثر حدَّةً مما كان في المناطق الأخرى، وكان تجمع زعامة قريش في "دار الندوة" للتشاور في تنظيم شؤونهم المدنية والاقتصادية والدينية، هو الشكل السياسي الذي اعتبرناه الشكل الجنيني للدولة، أن هذه "المؤسسة" (دار الندوة) كانت ذات سلطات تشريعية وتنفيذية معاً، يملكها الزعماء الأغنياء وحدهم، ويفرضونها على سائر الفئات المستضعفة من الفقراء.

 

ثالثاً: كانت الظاهرة الدينية في المجتمع الجاهلي هذا بالذات، تنعكس عليها في وقتٍ واحد الحالة الفكرية والاجتماعية كلتاهما، فهي – أي الظاهرة الدينية – كانت تُعبّر عن التصورات الذهنية المتطلعة، إلى نوعٍ جديد من العلاقات بين الإنسان والإنسان من جهة، وبين الإنسان والكون والطبيعة من جهةٍ ثانية. وقد رأينا الانعكاس الاجتماعي على الظاهرة الدينية يبدو في شكلين اثنين: أولهما: تركيز أغنياء مكة للزعامة الدينية في أيديهم، وفي مدينتهم حيث تقوم الكعبة التي تجتمع فيها أصنام معظم القبائل، ويحجون إليها في مواسم معينة من كل سنة، وتتخذ هذه المواسم الدينية صفة الأسواق التجارية في الوقت نفسه. وبذلك أصبحت الزعامة الدينية لأغنياء مكة دعامة مادية لمصالحهم الاقتصادية، ومورداً هاماً للاستثمار والثراء، تعزيزاً لموقعهم الطبقي "الطبقية". والشكل الثاني، ما كان يبدو من دعوات محلية هنا وهناك، لترك عبادة الأصنام، ولعبادة إلهٍ واحد له الصفة الشمولية غير المنظورة. وكان أغنياء مكة يقفون من هذه الدعوات موقف المعارضة، لأنها تعارض زعامتهم ومصالحهم المادية على المدى القريب فقط. حيث كانت الأصنام المجلوبة من بلاد الروم كمقتنيات ثمينة تُعدُّ من أبرز مظاهر التمايز الطبقي الذي استهدفته الأصوات الداعية للتغيير، بعد اكتسابها لقيمة اعتبارية بحيث فاقت ما يتلّقاه مالكيها من تبجيل، وذلك بعد موتهم كما يحدث الآن لمقتنيات المشاهير من مُضاعفة أثمانها بعد موتهم. وكان الصراع بين اليهودية والمسيحية أحد الوجوه الممثلة لهذا الشكل من الانعكاس الاجتماعي على الظاهرة الدينية. ونعني به ذلك الصراع الذي ظهر في اليمن، بالأخص في أواخر القرن السادس، وكان واضحاً أنه ليس صراعاً دينياً بقدر ما كان صراعاً بين حكام البلاد المحليين والأحباش الطامحين إلى السيطرة على اليمن، باسم المسيحية، ومن ورائهم الدولة البيزنطية.

ومع ذلك كان أيضاً للظاهرة الدينية هذه، جانبها الفكري شبه المستقل في نشوء وضعٍ جديد يهز الثقة بمنظومة الأخلاق والقيم السائدة، ويدفع الناس لطرح مفاهيم جديدة تستجيب للوضع الجديد، الظاهر عن الجانب الاجتماعي. فإن الدعوات الدينية المتعددة، والخواطر التأملية ذات الطابع الروحي والديني التي كانت تبدو في كلمات "الحكماء" (وهم فئة معروفة في الجاهلية)، وفي خطب الكهان، وفي تصورات بعض الشعراء، وفي كثيرٍ من الأمثال الشعرية السائرة، وفي بعض الأساطير – إن كان ذلك، كان يُعبّر عن نزعات فكرية جديدة، يُرافقها نوعٌ من الجدل العقلي بأبسط حدوده. ونحن نجد صورة لهذا النوع من الجدل في القرآن الكريم حين يحكي عن أصناف الاعتراضات التي كان يوجّهها خصوم محمد (ص) من الجاهليين، إلى معتقداته الإيمانية التي كان يُبشّر بها فيهم أوائل إعلانه الدعوة الإسلامية. وذلك بعد نشوء وضع جديد يهز الثقة بالمنظومة الأخلاقية والقيم السائدة، ويدفع الناس لطرح واقتراح مفاهيم جديدة، تستجيب للوضع الجديد. ففي هذه الاعتراضات التي وردت في القرآن الكريم دلالة على أنه كان لدى الجاهليين نوعٌ من أشكال الوعي التأملي في طبيعة الوجود، حتى لنجد بين هذه الاعتراضات ما يدل على وجود ناسٍ يُفكّرون في الوجود، بما يشبه مدرسة الطبيعيين من اليونان القدماء، وهؤلاء هم الذين سمّاهم المسلمون بالدهريين، لأن القرآن الكريم يحكي عنهم {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} (سورة: الجاثية، من الآية: 24).

إن هذه الظاهرة الدينية بمختلف صورها وأشكالها، كانت أبرز الأشكال الثقافية والفكرية تعبيراً عن حركة الحياة العربية الجاهلية في اتجاهاتها، نحو مرحلةٍ جديدة من التطور الاجتماعي والفكري، ولكن يلفت النظر مع ذلك، تطور بدرجة ملحوظة في الظاهرة الفنية الأكثر شيوعاً يومئذٍ، وهي المتمثلة في لغة التعبير الفني، ولا سيما التعبير بالصورة الشعرية، فالشعر العربي الجاهلي بقي مثالاً يُحتذى به حتى في العهود الإسلامية الأكثر تطوراً وتقدماً. وقد سمح لنا ذلك باستنتاج أن هذا النوع من التعبير الفني، إضافةً إلى الغنى البارز في مادته اللغوية، متصل بتاريخ طويل سابق لم ينقطع بالانقطاع التاريخي، الذي حدث في حياة الجزيرة العربية بين العهد الحضاري القديم، والعهد الجاهلي الذي نتحدث عنه.

ولقد عُدنا في عصر ظهور الإسلام للنظر في العقائد التي جاء بها الإسلام وفي التشريعات التي أحدثها، وفي القضايا المتعددة التي أثارها هذا الحادث الكبير في المجتمع العربي، وكانت استنتاجاتنا على الوجه الآتي:

أولاً: إنَّ الدين الجديد (الإسلام) ظهر حاملاً، لا بمضمونه الاجتماعي والإيماني وحسب، بل كذلك بكثير من أشكاله الدينية والعقائد الإيمانية، صفته التاريخية، أي كونه جاء تطويراً لما كان يتحرك في أحشاء المجتمع الجاهلي من اتجاهه، اجتماعياً ودينياً وفكرياً، نحو تغيرات تاريخية. وقد كان الإسلام بالفعل مُعبّراً عن أشكال الوعي الإنساني، حيث كان يمكن أن يتطور إليها هذا الوعي في تلك المرحلة من التاريخ البشري، ولا نقول التاريخ العربي فقط. ولقد رأينا – مع ذلك-، أن الصفة التاريخية هذه تظهر حتى في الشكل الفني الذي قدّم الإسلام به إلى الناس وثيقته الكبرى: القرآن الكريم. إذ جاء النص القرآني صورةً رائعةً وأخَّاذة في فن التعبير الجمالي العربي، الذي قلنا سابقاً عنه: إنَّه كان على درجةٍ عاليةٍ من التطور في الفترة الجاهلية المتصلة بعهد ظهور الإسلام.

لقد عَدَّ  المسلمون القرآن وحياً إلهياً يعجز البشر أن يأتوا بمثله، ولكن حتى مع الاعتقاد بذلك، لم ينكر المسلمون أنه جاء بأسلوب البلاغة العربية ذاتها، ولكن على صورة أرقى وأصفى وأروع. وهذا صحيحٌ دون شك، غير أنه يُثبت ما نقوله من أن للنص القرآني صفته التاريخية، أي الاستمرارية التطورية لإحدى الظواهر الموجودة فعلاً في الحياة الجاهلية.

ثانياً: إنَّ العقائد الإيمانية التي بشّر بها الإسلام، تتضمن كثيراً من العقائد التي كانت تتضمنها اليهودية والمسيحية والحنيفية، عن قضية خلق الكون، والخالق والإله الواحد، وحدوث العالم، ووجود العالم الأخروي، والقيامة، مع المعارضة الشديدة لعبادة الأصنام. وتحدّث القرآن الكريم في مجال التبشير بعقائده الدينية، عن كثيرٍ من القضايا التي كانت موضوعة للجدل الشائع في مجتمع الجاهلية. إن كل ذلك يُثبت صحة الاستنتاج الذي ذكرناه آنفاً، من أن الإسلام انطلق من مجتمعه وعصره، وأنه لم يجئ إلى الأرض منفصلاً عن علاقته التاريخية بهذه الأرض، أو – بالأقل- عن هذا الجزء الذي ظهر فيه من أجزاء الأرض.

ثالثاً: إنَّ العقائد الإيمانية هذه نفسها جاءت إلى ناس ذلك المجتمع، حاملةً في أعماقها الخفية شكلاً دينياً من أشكال التعبير عن الدرجة، التي كان قد بلغها الوعي الاجتماعي عندهم. وقد شرحنا هذه الفكرة في الكلام عن مبدأ التوحيد ومبدأ القيامة، إذ اعتبرنا المبدأ الأول هو الشكل الميتافيزيقي المعبّر عن الاتجاه الذي كان يُحدّده الانقسام الطبقي الجديد في الجاهلية من تحطيم الإطارات القبلية الضيقة، لنشوء إطار واحد اجتماعي أوسع نطاقاً، يستطيع أن يجمع الناس في وحدات أكثر شمولاً وتوحيداً. واعتبرنا المبدأ الثاني (القيامة) هو الشكل الميتافيزيقي أيضاً للتعبير عن تطلع جماهير الفقراء إلى التعويض عن سوء حالتهم المادية من جهة، وإلى الاقتصاص من الفئات العليا التي تمتاز عنهم بالثراء، أو تظلمهم بوسائل الاستثمار من جهةٍ ثانية.

رابعاً: إن كثيراً من التشريعات الاجتماعية التي جاء بها الإسلام، كانت تعبيراً مباشراً عن الواقع الاجتماعي الموضوعي، من وجهة تخفيف الشقاء المادي عن الفقراء، بتحريم الربا والاحتكار، وبفرض بعض الضرائب على الأغنياء. إضافةً إلى التشريعات المتعلقة بتنظيم العلاقات الاجتماعية، ومنها العلاقات الإنتاجية، تنظيماً لا يخرج عن الأساس الذي تقوم عليه الملكية الخاصة وما ينشأ عنها من التمايز الطبقي.

خامساً: إنَّ الإسلام أقام "نظريته في المعرفة، ومعرفة الأصول والقواعد العامة للتشريع على اعتبار الوحي الإلهي هو المصدر الوحيد لها، وحصر قدرة البشر في المعرفة الحسية، وما تستطيع هذه أن تمد به البشر من معارف مباشرة، تجريبية خالصة. وبهذه الطريقة أقام الإسلام علاقة متبادلة بين المعرفة والإيمان. وهذه العلاقة جعلت المعرفة العقلية الداخلة في مقدرة الإنسان لا تتجاوز حدود الاستفادة من المعارف الحسية لدعم العقائد الإيمانية.

لقد كان من الطبعي أن نستنتج من ذلك، أن الإسلام قطع طريق الجدل الفكري في شؤون العقائد، وكل ما يتعلق بعالم ما وراء الطبيعة، ولكن الوثائق والنصوص الإسلامية لم تترك لنا هذا الاستنتاج مجرداً من الدليل النقلي، إذ قدّمت لنا الشواهد على صحة استنتاجنا هذا بما جاء في القرآن الكريم وفي أحاديث النبي (ص) التي تمنع الجدل في هذه الأمور أو تكرهه. ولكن الفكر العربي حين وجد طريقه إلى التطور مسدوداً من هذه الجهة، لجأ إلى طريق آخر، هو طريق "الاجتهاد بالرأي" في تطبيق القواعد والأصول العامة للتشريع الإسلامي، إلى أن تتيسر له الظروف الملائمة لشق طريق تطوره من الجهة الأولى، أي الجدل العقلي حتى في المسائل الإيمانية وميتافيزيقا الكون. وقد تيسّرت له هذه الظروف، فعلاً بعد انقضاء عهد الخلفاء الراشدين، واشتداد الصراع الحزبي السياسي والمذهبي، إذ وُلدت البذور الحية للتفكير الفلسفي، ثم نمت هذه البذور نمواً طبيعياً في حضانة الحياة العربية – الإسلامية، حتى أثمرت في القرن التاسع للميلاد ما أصبح "فلسفة عربية".

في عصر الخلفاء الراشدين:

قُمنا بدراسة أهم الظواهر التاريخية في هذا العصر، وهي الظاهرات التي نشأت في أحضانها أنواع من الصراع الديني ثم الحزبي: السياسي والمذهبي، وأهمية هذا الصراع في بحثنا تكمن في أن جانباً كبيراً منه تحوّل إلى صراع فكري و"أيدولوجي"، منذ قيام العهد الأموي، حيث اندمجت معه، أو سارت في مساره، تيارات فكرية و"أيدولوجية" أخرى، كتيار المعتزلة، والتيار الذي ظهر في أفكار الحسن البصري، وتيار القدرية ... الخ.

ومن الظواهر التاريخية في عصر الخلفاء الراشدين التي وقفنا عندها أيضاً، ظاهرة الفتوحات العربية التي بدأت منذ عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب – رضي الله عنه. وهنا كذلك يهم بحثنا من مسألة الفتح العربي خارج الجزيرة، كونها المسألة التي تدخل عاملاً كبير الأثر في وضع الفكر العربي على طريق تطوره العاصف في مجرى التفكير العلمي والفلسفي، ذلك لأن ظاهرة الفتح قد مهّدت الظروف الموضوعية للتفاعل الاجتماعي والثقافي بين العرب وشعوب البلدان المفتوحة، وهو التفاعل الذي أدى دوره الحيوي الضخم في تبلور الخصائص المميزة للثقافة العربية وللفكر العربي، وفي تمازج العناصر الداخلية والخارجية، التي كانت الفلسفة العربية من نتاجها.

في إطار هذه الظاهرات التاريخية كلها دارت دراستنا، وفي هذا الإطار ذاته نعرض أهم الاستنتاجات التي أمكننا استخلاصها:

أولاً: إن نشوب الصراع على الخلافة فور وفاة النبي (ص)، قد فجّر نوعاً من الصراع الاجتماعي، الذي كان قد اتخذ في حياة النبي (ص) شكلاً آخر، جعل منه في بدء ظهور الإسلام صراعاً بين نقيضين رئيسين: الدين الجديد وأتباعه في جانب، وأغنياء قريش وزعاماتها وتقاليدها في الجانب الآخر، ثم جعل منه انتشار الإسلام وانتصاره بعد الهجرة على معارضيه في مكة صراعاً بين نقيضين رئيسين آخرين: الأنصار والمهاجرين في جانب، والقبائل المتشبثة بتقاليدها وأوضاعها الاجتماعية السابقة للإسلام في الجانب الآخر.

أما الآن، وبعد وفاة النبي (ص)، فقد تحوّل التناقض الرئيس إلى طرفين جديدين، أو إلى أطراف جدد، وهو – علي كل حال - تناقض بين المسلمين أنفسهم هذه المرة، وكانت الخلافة بحد ذاتها، كمنصب ديني، تبدو أنها المحور الذي يدور عليه هذا التناقض، في حين أن الدوافع الاجتماعية والطموح إلى ما يعنيه هذا المنصب من امتلاك زمام السلطة، كانت تكمن وراء هذا التناقض. ومن الظواهر التي تلفت النظر في هذا المجال، أن "حروب الردة" التي شغل بها المسلمون فور موت النبي (ص) كذلك، لم تستطع أن ترد التناقض الرئيس حول الخلافة إلى هذا المحور الجديد: "حروب الردة"، بل حتى حروب الفتح التي بدأت مسيرتها الأولى خارج الجزيرة العربية في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب – رضي الله عنه، أي في الوقت الذي لم تكن قد انتهت فيه "حروب الردة" نفسها- نقول: حتى حروب الفتح هذه لم تستطع أيضاً، أن تُحوّل التناقض الرئيس عن محور الخلافة إلى المحور الجديد الآخر: "حروب الفتح".

ويلفت النظر هنا كذلك، بصورة مُثيرة، أن ينجح المسلمون ذلك النجاح الباهر في حروب الردة، وفي حروب الفتح معاً، على الرغم من أن التناقض الرئيس ظلّ قائماً حول قضية الخلافة. ولكن الدوافع الاجتماعية المشتركة للقضاء على حركة الارتداد في الجزيرة، ولتوسيع الأرض العربية خارج الجزيرة، قد جعلت ذلك التناقض الرئيس على أمر الخلافة يتخذ شكلاً من الخلاف الديني في مفهوم هذا المنصب: أهو منصب إلهي، أم منصب زمني يرجع شأنه إلى رأي المسلمين أنفسهم؟، مع النظر إلى البعد الاجتماعي الحقيقي الخفي لهذا الشكل من الخلاف، وهو كون الخلافة كمنصب إلهي تعبيراً عن حلم البسطاء بالعدالة الاجتماعية، في حين كون الخلافة كمنصب زمني تعبيراً عن الأرستقراطية الغنية. غير أن هذا الشكل من الخلاف الديني لم يبق ظاهراً على سطح الأحداث إلا في عهدي الخليفتين: الخليفة الأول أبو بكر الصديق – رضي الله عنه، والخليفة الثاني عمر بن الخطاب – رضي الله عنه.

ثانياً: إنَّ الشكل الديني للصراع على الخلافة بدأ يتكشّف عن قاعدته الاجتماعية والسياسية منذ خلافة عثمان بن عفان – رضي الله عنه، الخليفة الثالث. وقد ساعد على ذلك ما حدث في سلوك الحكام الذين يُمثّلون الخليفة في الأمصار الممتدة إليها سلطة الخلافة، من صرف أكبر اهتمامهم إلى الإثراء الشخصي بطرق اعتباطية، كامتلاك أراضي الآخرين، وفرض الضرائب الثقيلة على السكان، حتى تجمّع الاستياء من هذا السلوك وتكدس هنا وهناك ثم تحوّل إلى ثورة قام بها فريقٌ من البسطاء، وعلى شكل وفود قدمت إلى مكة والمدينة من مختلف الأمصار، لتُعرب عن احتجاجها إلى الخليفة عثمان، وتطلب منه التنازل عن منصب الخلافة، فلما رفض ذلك حاصرته هذه الوفود في داره حتى لقي مصرعه.

وبالرغم من أن لتحريض بعض الأطراف السياسية المتصارعة في مكة والمدينة أثراً في دفع الثورة إلى هذه النهاية، فإن هذا البعض من السياسيين المتصارعين قد اتخذوا من مصرع عثمان ذريعةً لتوجيه أهداف الثورة الاجتماعية المشروعة ضد الحكام الجائرين، توجيهاً آخر يذهب بالصراع السياسي إلى محوره الأول على أشد ما يكون حدةً وعنفاً، وهذا بالذات ما أشعل حروباً "داخلية" بين زعماء المسلمين، "كحرب الجمل" في البصرة بين علي بن أبي طالب – عليه السلام- من جهة، وطلحة والزبير بقيادة أم المؤمنين عائشة زوج النبي (ص) من جهةٍ ثانية، وحرب "صفين" بين جيشي علي ومعاوية، وكحروب الخوارج الذين خرجوا من صفوف علي في صفين، وتألف منهم حزبٌ جديد يُحارب كلاً من "علي"، ومعاوية بعد أن حكموا بكفرهما معاً.

ثالثاً: إنَّ حروب الفتح لم تكن تجري في معزل عن الأحداث "الداخلية" التي كانت على تلك الحالة التي وصفناها من الصراع السياسي بين الزعامات الإسلامية، بل كانت سياسة الفاتحين في البلدان المنضوية إلى حكمهم تتأثر كثيراً بحركة هذا الصراع، وقد انتشرت آثارها في تلك البلدان، وانقسم الناس فيها – أي المسلمون منهم - بين مُتحزّب لهذا الفريق ومُتحزّب للفريق الآخر، فكان لعلي حزبه الكبير في العراق وإيران، ولمعاوية حزبه الغالب في بلاد الشام، أما في مصر فقد كان التحزب أقل بروزاً بين جماهير البسطاء، غير أنه ظهر في آراء القضاة ورواة الحديث النبوي من الصحابة وتابعيهم، أي أنه ظهر على أشده في الأوساط المثقفة وأهل الرأي.

رابعاً: إنَّ سياسة الفاتحين في البلدان المفتوحة كان يغلب عليها الطابع العسكري في معظم العهد الراشدي. ولذلك اتخذوا لحياتهم في المدن، التي أنشئت أول الأمر لإقامة الجيوش الفاتحة أسلوباً، حجز بينهم وبين حياة السكان الأصليين. فكان لهذا الطابع العسكري الغالب أثره في تأخير حركة التفاعل الثقافي والاجتماعي التي أدت بعد ذلك إلى نتائجها العظيمة في تطور الفكر العربي والثقافة العربية، كما سنرى ذلك في سياق دراستنا.

تطور الموقف، وظاهرة التشيّع:

لا يمكن لنا الفصل بين الموقف والنظرية. فالموقف في أي أمرٍ، أو رأيٍ أو اتجاه ليس شيئاً يستحق الاهتمام، إن لم يكن له سندٌ من فكرٍ نظري، أو قاعدة مبدئية ينطلق منها. ويُقال من الجانب الآخر: الأخذ بنظرية معينة في مسألة ما هو بذاته موقف، وإلا فهو نوعٌ من التجريد المطلق القائم في الفراغ.. أي أن بين الموقف والنظرية علاقة جدلية. وهذه العلاقة تؤكد عدم إمكان الفصل بينهما، لكن طبيعة البحث والإيضاح تقتضي منا هنا هذا الفصل الشكلي بين الأمرين:

بناءً على ذلك نقول: إنَّ التشيّع من حيث هو موقف في الإسلام، نشأ مع نشوء مسألة الخلافة فور موت صاحب الدعوة الإسلامية، ثم جعل هذا الموقف يتبلور ويتفاعل مع أحداث الحياة العربية- الإسلامية، حتى نشأت وتفرعت عنه مواقف سياسية، وفكرية: كلامية وفلسفية، تألفت منها مذاهب وفرق شيعية متعددة، بعضها تضاءل مع الزمن، وبعضها تحول إلى موقف آخر يختلف عن منطلقه الأساس، وبعضها نما وتصلب واتسعت قاعدته ولا يزال محتفظاً بوجوده وأرضه ومنطلقه.

ومهما اختلفت فرق الشيعة في التاريخ، من حيث المبدأ والاجتهاد، ومن حيث المحافظة على الارتباط بالأصول الإسلامية أو الانقطاع عن هذه الأصول، فإن هناك أمراً مشتركاً بينها في الأغلب، هو الموقف من "شخص" علي بن أبي طالب -عليه السلام. وهذا الموقف كثيراً ما كان يتخذ – عن قصد أم غير قصد، من قريب أم من بعيد – تعبيراً غير مباشر عن موقف سياسي أو طبقي تجاه هؤلاء الحكام، أو أولئك من حكام دولة الخلافة الإسلامية، أموية أم عباسية. أم غيرها. وقد انطبع الموقف السياسي أو الطبقي –غالباً- بطابع المعارضة، وكثيراً ما كانت المعارضة هذه تصطبغ بالدم والعنف: إما في معارك وانتفاضات دموية، وإما في شكل اضطهادات سياسية، تصل بالشدة والبطش أحياناً إلى أن تكون مجازر بشرية رهيبة.. وقد أشرنا من قبل إلى إحدى الانتفاضات الشيعية الأولى على الأمويين، وقد تواصلت أحداث المعارضة السياسية الشيعية للحكم القائم في معظم العهود العباسية، كما تواصلت الاضطهادات السياسية الشيعية في مختلف مراحل التاريخ السياسي العربي – الإسلامي، حتى نهاية عهد الخلافة العثمانية التركية في مطلع القرن العشرين، ولم يكن يتغير الموقف الشيعي المعارض إلى الموقف المؤيد، إلا في الفترات التاريخية التي يظهر فيها حكام شيعيون هنا وهناك، كالدولة البويهية في إيران، وإمارة سيف الدين الحمداني في حلب أثناء القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، وكالدولة الفاطمية في بلدان المغرب العربي ومصر في القرن الرابع نفسه، وفي الفترات التي اتفق أن حصلت فيها مهادنة الشيعة لبعض الخلفاء (المأمون العباسي).

وهنا نلحظ ظاهرة شيعية جديرة بالاهتمام، هي أن الموقف السياسي المعارض كثيراً ما كان يتخذ طابعاً، أو بعداً اجتماعياً، بمعنى أن المعارضة لا تكون لشكل الحكم وأشخاص الحاكمين بقدر كونها معارضة، من حيث الجوهر، لأساليب الحكم المتبعة تجاه الطبقات والفئات الاجتماعية المستضعفة. وغير بعيد أن يكون وراء هذا الموقف كون عامة الشيعة أنفسهم ممن يكابدون الاضطهاد الاجتماعي، تبعاً لاضطهادهم السياسي، من حيث هم جزء عضوي من الطبقات والفئات الاجتماعية ذاتها، التي تعاني الاضطهاد من الطبقات المسيطرة.

ما هي النظرية لدى الشيعة:

من العسير تحديد النظرية الشيعية تحديداً مطلقاً وشاملاً، لأن الشيعة افترقت منذ موت الإمام الرابع علي بن الحسين الملقب بزين العابدين، وهو الذي نجا من مجزرة كربلاء التي استشهد فيها أبوه الحسين بن علي – رضي الله عنه - افترقت الشيعة منذ ذاك الوقت فرقاً بدأت بثلاث: الإمامية (أتباع الإمام محمد الباقر بن زين العابدين)، والزيدية (أتباع زيد بن علي زين العابدين)، والكيسانية (أتباع محمد بن الحنفية، وهو ابن علي بن أبي طالب – عليه السلام- مباشرةً، ونُسب إلى أمه: الحنفية). ثم أخذت الفرق الشيعية، منذ ظهور الطلائع الأولى للتفكير الكلامي – الفلسفي، تتشعب وتتعدد، وذلك تبعاً لما كان يدخل على النظرية الشيعية من أفكار جديدة، تتحرك وتتموج في ذلك المجرى الفكري الذي بدأ يتكون، أولاً من البحث في مشكلة القدر، ومسؤولية الفعل الإنساني، وعلاقته بالفعل الإلهي، ومن الصلة بين بحث هذه المشكلة ذاتها والصراع السياسي الحزبي، حول مسألة الخلافة – والخلافة الأموية بالأخص - ثم بدأ يتبلور – ثانياً – خلال نهوض الحركة الكلامية – الفلسفية النامية الصاعدة.

ولكن، مهما يكن عسيراً تحديد النظرية الشيعية بصورة مطلقة وشاملة، بسبب مما تقدم، فإنه ليس عسيراً أن نحدد الأصول الأولى لهذه النظرية، أو القاعدة التي انطلقت منها، وقامت عليها الأبنية المتعددة لمختلف النظريات الشيعية: المذهبية، والفكرية.

فإن الشيعة، على اختلاف فرقهم ومذاهبهم، ينطلقون نظرياً من القول: إنَّ علياً بن أبي طالب – عليه السلام- هو الشخص الأول في المسلمين الذي له حق السلطة، بعد النبي (ص)، وأن هذه السلطة حقٌ إلهي وليست حقاً للناس في اختيار من يصلح لقيادتها، لأن الله وحده يعرف أين تكون مصلحة البشر، وكيف يكون خير دنياهم وآخرتهم. لذلك عُدَّ الشيعة أن الإمامة ركنٌ من أركان الأسس للإسلام، أي من أصول العقيدة الإسلامية.

ذلك هو الأصل، وتلك هي القاعدة الراسخة للنظرية الشيعية، مهما كان الرأي بعد ذلك في شكل هذه السلطة وطابعها، الروحي والزمني. وبعد هذا يختلف الشيعة كثيراً: فهناك الشيعة المعتدلون، وهناك الشيعة المتطرفون في فهم السلطة التي يضفونها على شخص علي بن أبي طالب – عليه السلام، وهؤلاء هم المعروفون في التاريخ الإسلامي بـ"الغلاة"، لأنهم يُغالون في نظريتهم إلى حد إضفاء صفات الألوهية على شخص علي، ويتفق المسلمون، الشيعة المعتدلون والسنة، على خروج هؤلاء الغلاة على أصول العقيدة الإسلامية إطلاقاً، وإن كان المؤرخون يطلقون اسم الشيعة على كل فرقة تتصل نظريتها، أساساً، بشخص علي – عليه السلام، في حين أن الإمامية، والاثني عشرية، والزيدية من فرق الشيعة، تتنصل من نسبة التشيع إلى تلك الفرق المتطرفة، وهم يسندون رأيهم في إنكار التطرف والمغالاة إلى عقيدتهم الإسلامية، القائمة على وحدانية الله، وأنه ليس بجسم وليس كمثله شيء في الكائنات، وعلى نبوة محمد (ص)، وعلى القول بالقيامة والبعث في عالم الآخرة، هذا أولاً. ثم هم يستندون ثانياً إلى قول للإمام علي – عليه السلام- في إحدى خطبه: "سيهلك فيّ صنفان: مُحبٌ مُفرِط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومُبغضٌ مُفْرِط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس حالاً النمط الأوسط فالزموه". ويروي الشيعة هذا القول بصيغة أخرى عن علي، تقول: "هلك فيّ اثنان: مُحبٌ غال، ومُبغضٌ قال". وبالمعنى نفسه قال الإمام الشيعي الرابع، علي بن الحسين زين العابدين: "يا أيها الناس، أحبونا حب الإسلام، فما برح حبكم حتى صار عليها عاراً".

نظرية الشيعة المعتدلين:

أما النظرية الكاملة للفرق المعتدلة من الشيعة، فتقوم – أولاً- على الأصول الأولى لعقيدة الإسلام، التي أشرنا إليها منذ قليل، وتقوم – ثانياً- على القول: بأنَّ الحق بالخلافة بعد النبي مباشرةً لعلي بن أبي طالب – عليه السلام- ثم لأولاده بالتتابع، وهو حقٌ إلهي يختار له الله من يشاء من أعلم الناس، وأفضلهم خلقاً وديناً، ولذلك توجب أن ينص الله على من يختاره لهذا الحق على لسان نبيه محمد (ص). أما القول بأن علياً نفسه هو الذي اختاره الله، فيستدلون عليه بنوعين من الدليل، يسمون الأول: الدليل العقلي، ويسمون الثاني: الدليل النقلي، أو النّص. أما الدليل (العقلي) فهو:

أولاً: إنَّ الإمام يجب أن يكون معصوماً عن الخطأ كالنبي، ليكون أهلاً لحمل أمانة العقيدة والشريعة بعد النبي، ثم تقول الشيعة أنه لم يكن عند وفاة النبي (ص) معصوماً غير علي بن أبي طالب – عليه السلام- بالإجماع. فيجب إذن أن يكون هو الإمام.

ثانياً: إن شرط الإمام كونه لم تصدر عنه معصية، وبما أن علياً بن أبي طالب – عليه السلام- لم يعبد الأصنام قبل الإسلام قط، فقد تعيّن أن يكون هو الإمام.

ثالثاً: إنَّه يجب في الإمام أن يكون أفضل علماً من غيره في زمانه، وقد كان "عليّ" كذلك، فوجب إذن أن يكون الإمام لا أحداً سواه.

غير أن هذه الأمور الثلاثة التي جعلها الشيعة دليلهم العقلي، يدفعها أهل السنة بأنه ليس هناك من برهان على اشتراط العصمة في الإمام، ولا على اشتراط عدم الإتيان بالمعصية من قبل، ولا على اشتراط أن يكون أعلم أهل زمانه، بل يكفي أن يكون ذا مؤهلات كافية بمهمات الخلافة، وأن أهل الحل والعقد هم الذين يختارونه.

وأما الدليل الآخر للشيعة على إمامة علي بن أبي طالب – عليه السلام، وهو النص، فقد جاء عندهم متعدد الوجوه، فهناك الحديث المعروف بـ"حديث الغدير"، أو "حديث الموالاة" وهو الذي نطق به النبي (ص) حين وقف، أثناء عودته من مكة إلى "المدينة" بعد أن حجّ حجته الأخيرة، في مكانٍ من الطريق يدعى "غدير خم"، وكان معه جَمْعٌ من الصحابة، فقام فيهم خطيباً، وقال في جملة ما قال: "ألست أولى منكم بأنفسكم؟" فأجابوا: اللهم، نعم. وحينئذٍ أخذ بيد علي بن أبي طالب – عليه السلام، ثم قال: "اللهم، من كُنتُ مولاه فعلي مولاه. اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله". فقام الصحابة يهنئون علياً، وبينهم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه، وقال له عمر نفسه: "بخٍ بخٍ يا عليّ، فقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة".

وبالرغم من أن أهل السنة لا ينكرون هذا الحديث، ولكن يختلف تفسيره عندهم عما يفسره به الشيعة. والاختلاف يقع في لفظ "المولى" الوارد فيه، وهذا اللفظ هو المستند في حجة الشيعة. فهم يفسرونه بمعنى "الولاية"، أي: الحكم والسلطان، أو الإمامة. في حين يُفسّر أهل السنة معنى "الولاء" بمعنى الحب والمودة، وبهذا المعنى يُصبح الحديث فاقد الدلالة على نصب "علي" إماماً و"ولياً" للمسلمين بعد النبي (ص).

مسألة المعرفة عند الشيعة:

لعلنا فيما عرضناه حتى الآن من نظرية الشيعة عند مختلف فرقهم، في مسألة الإمامة قد أُتيح لنا في ضوئه، أن نكتشف بسهولة طبيعة مسألة المعرفة عند مختلف فرقاء الشيعة، فقد يكون واضحاً من قول الشيعة الإمامية، والاثني عشرية خصوصاً، بكون الإمامة حقاً إلهياً، وكون سلطتها سلطة إلهية، وليست سلطة الأمة، ثم من قولهم بعصمة الإمام واشتراطهم أن يكون الإمام أعلم أهل زمانه إطلاقاً – قد يكون واضحاً من كل ذلك أن المعرفة، معرفة الله وأسرار الكون والخليقة والروح، ومعرفة الشريعة التي هي قانون الله للناس، مرجعها النبي (ص) في حياته، ثم مرجعها الإمام بعد النبي، فكل إمام في زمانه هو المرجع لإدراك هذه المعرفة، ولا مرجع غيره لأنه المخبر عن النبي، والنبي مخبر عن الوحي الإلهي. وإذا كان للعقل من حق في هذا المجال فهو حقٌ مقيد بحدود الكشف عما يؤيد المعارف الإلهية أو يبرهن عليها، وليس له أن يعارضها، لأنه عاجز أن يبلغ مبلغها من إدراك الحقائق الكونية، وأسرار الوجود فضلاً عن أسرار ميتافيزيقا الكون والوجود.

وهنا نرى، أن المعرفة مرتبطة بالإيمان الديني، تابعةٌ له، وخاضعة لمعطياته، لا تستطيع أن تتصرف إلا في حدوده، وإذا كان الشيعة المعتدلون قد قالوا بالاجتهاد بالرأي في مجال التشريع الإسلامي، ولم يغلقوا باب الاجتهاد قط في تاريخهم كله، ولا يزالون يعملون به، بالرغم من أن المذاهب الفقهية الأربعة الرئيسة لأهل السنة، قد أغلقت باب الاجتهاد هذا منذ نحو القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) – نقول: إذا كان الشيعة المعتدلون قد عملوا طوال تاريخهم حتى اليوم، بالاجتهاد في مسائل التشريع الإسلامي، فإن هذا لا يغير شيئاً من طبيعة نظريتهم الإلهية في المعرفة. لأن هذا الاجتهاد مُقيّد بالحالات التي لا يوجد فيها نصٌ صريح من القرآن، ولا من النبي (ص)، ولا من أحد الأئمة الاثني عشر، ثم لا يوجد فيها كذلك إجماع من علمائهم. وهذا الإجماع يعني – إذا وجد – أن رأي الإمام المعصوم الثاني عشر محمد بن الحسن الغائب المنتظر، موجود بين الآراء التي تحقق بها الإجماع، ففي هذه الحالات – حين لا دليل من الكتاب (القرآن)، ولا من الحديث، ولا من الإجماع – يأتي دور "الدليل الرابع": العقل. وهذا الدليل الأخير يعتمد على المرتكزات العقلية التي تقررها المبادئ الأولية للعقل الاجتماعي العام، وهي المسماة بالعرف العام، وهذه المبادئ نظمها علماء الشريعة الإسلامية (الفقهاء) تنظيماً عقلانياً جعل منها علماً خاصاً مستقلاً، سمي بعلم "أصول الفقه". وليس هذا العلم مختصاً بالشيعة، فهو معتمد أيضاً عند فقهاء السنة مع اختلاف جزئي. ينحصر هذا الخلاف في أن: ما هو عند الشيعة دليلُ العقل، يُقابله عند السنة دليل القياس.

علم أصول الفقه:

لا شك أن علم "أصول الفقه"، قد أدى دوره في مسألة المعرفة على نحوٍ عقلاني متميز، معتمداً المبادئ الأولية للعقل الاجتماعي بالأقل. فإنه بهذا النحو من العقلانية، نظّم حركة التشريع الإسلامي وفق قواعد وأصول لها ميزة العلم، وأتاح للشريعة الإسلامية أن تدخل في سياق التطور، الذي كان ينتظم كل جوانب النشاط الاجتماعي للمجتمع العربي – الإسلامي خلال عصر ازدهاره التاريخي المعروف. وقد تميز علم أصول الفقه كذلك بالخروج على شكلية المنطق الأرسطي، من حيث إنَّ استنتاجاته تنطلق من الواقعات الجزئية الحية، لا من العمليات الذهنية التجريدية والافتراضية.

لكن طبيعة مسألة المعرفة، التي حصرت المعرفة الإيمانية والشريعة بالمصدر الإلهي، قد ضيقت نطاق نشاط العقل حتى في الأمور التشريعية، وجعلت عملية الاجتهاد في هذه الأمور عملية محدودة جداً، وأنشأت في عقول الفقهاء طبيعة الحذر الشديد من استخدام العقل في تطوير الشريعة، وتجديدها مع تطور الحياة وتجددها، وقد حاول المعتزلة محاولة جريئة حين فسحوا للعقل أن يكون أكثر حرية في هذا المجال، فقالوا بمبدأ الاستصحاب العقلي، بمعنى أنه يجوز للعقل أن يحكم في بعض الأشياء مستقلاً، وأن يبقى حكمه قائماً في أجزاء لاحقة من الزمن، استصحاباً للأجزاء الزمنية السابقة (أي استمراراً) إلى أن يأتي الدليل السمعي، (أي النص المنقول بالسماع عن المصدر الإلهي). ولكن المذاهب المخالفة للمعتزلة عارضت هذه المحاولة، فنحن نرى، مثلاً، القاضي أبا الطيب يقول، بعد أن يذكر قانون الاستصحاب العقلي عند المعتزلة: ".. وهذا لا خلاف فيه بين أهل السنة في أنه لا يجوز العمل به، لأنه لا حكم للعقل في الشرعيات". إن الكلام في موضوع "أصول الفقه" ينطبق على السنة والشيعة بدرجة واحدة. غير أنه، على الرغم من الأساس العقلاني لهذا العلم، فينبغي رؤية كون المبادئ العقلية التي يرجع إليها في عملية استنباط الأحكام الشرعية، لا تتجاوز حدود المرتكزات الأولية في العقل الاجتماعي العام. فهي لم تبلغ منزلة المبادئ العقلية المركبة، التي لها صفة المفاهيم بمعناها الفلسفي، والتي تفسح للعقل مجال التفكير بنوعٍ من الاستقلالية والإبداع. ولعل الاختلاط الذي حدث في عصر المتكلمين المتأخرين، بين علم أصول الفقه وعلم الكلام، هو الذي حمل "مصطفى عبد الرازق" أن يجعل "الفلسفة الإسلامية" شاملة علم أصول الفقه، وهذا واضح من الحجة التي أخذ بها تدليلاً على كون هذا العلم جزءاً من "الفلسفة الإسلامية"، وحجته هذه أن "مباحث أصول الفقه الذي هو علم الكلام" بل أنك لترى في كتب أصول الفقه أبحاثاً يسمونها "مبادئ كلامية"، وهي من مباحث علم الكلام".

والواقع أن هذه الظاهرة التي يُشير إليها عبد الرزاق، أي ظاهرة التشابك بين العلمين، لا تكفي أن تكون حجةً على صحة وضع علم أصول الفقه في سلك "الفلسفة الإسلامية"، إلا إذا توسعنا في مفهوم الفلسفة، وفي موضوعها إلى الحد الذي كان عليه القدماء، حين كانت الفلسفة "علم العلوم". فإن التشابك هذا كان ظاهرةً عامة لا يختص بها علم أصول الفقه، بل نستطيع أن نراها واضحةً في مختلف العلوم العربية والإسلامية، إبان ازدهار علم الكلام والمنطق.. حتى علم النحو العربي دخلته عناصر كلامية ومنطقية تظهر في طريقة التعليل لكثير من قواعده، في حين أن قواعد النحو لا تحتاج إلى تعليل ما دامت لا تخرج عن كونها تسجيلاً وتنظيماً لما يستخلص من تتبع لغة التعبير، وأسلوبه، وطريقة تركيبه، والتغيرات الصوتية التي تحدث فيه عند اختلاف المعاني، واختلاف الأغراض التعبيرية. فهل يصح أن نسلك علم النحو في الفلسفة، لمجرد أن نرى أهل هذا العلم في الماضي يستخدمون التعليلات الكلامية في شرح قواعده وضوابطه؟

نقول ذلك دون أن نُنْكر أن علم أصول الفقه – كما قلنا سابقاً- يتميز بمنهجية علمية عالية، ولكنه يبقى في حدود منطقه الأصولي المرتبط بمفاهيم التشريع الإسلامي بما لهذه المفاهيم من علاقة بالمصدر الإلهي للمعرفة. ولكن، علينا أن نعترف بأن ظاهرة التشابك بين مختلف فروع الثقافة العربية في ذلك العصر، وبين البحوث الكلامية العقلية، كانت بذاتها ظاهرة إيجابية تحمل في أعماقها إحدى خصائص الفكر العربي، القائمة على وحدة جوانب الفكر، دون التفريق بين الجانب التأملي والجانب المرتبط غالباً بالتجربة والممارسة.

من هم الشيعة:

سوف اقتصر في هذه الكلمة على مصادر شيعية، لأن خير من يعرف بمذهبهم هم أصحابه.

التشيّع لُغةً تعني، الأتباع على وجه التدين والولاء – قال تعالى: {وإن شيعته لإبراهيم} {فاستغاثه الذي من شيعته}.

ثم مع كثرة الاستعمال صار لفظ الشيعة علماً مختصاً بشيعة علي بن أبي طالب – عليه السلام، الذين يعتقدون بإمامته بعد رسول الله (ص) ومنهم الإثني عشرية والإمامية، ويعتقدون بأنه الأفضل مع صحة إمامة الشيخين كالزيدية. وهم فِرقٌ – منهم الإمامية والزيدية.

الشيعة الإمامية أو الإثني عشرية:

هم الذين يعتقدون بوجوب الإمامة ووجودها في كل زمان، ويعتقدون بعصمة الأئمة وحصر الإمامة في نسل الحسين بن علي عليه السلام إلى أن تصل (علي بن موسى الرضا) رضي الله عنهم أجمعين.

والشيعة الإمامية هم أكبر الفرق الإسلامية عدداً وانتشاراً ومنهم الإثني عشرية الذين يعتقدون بإمامة اثني عشر إماماً معصوماً أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وآخرهم محمد بن الحسن المهدي المنتظر، وهم منتشرون في إيران وأذربيجان والعراق والهند وباكستان وروسيا وتركستان والأفغان ولبنان واليمن والبحرين والأحساء والقطيف وقليلٌ منهم في سوريا والحجاز والكويت والصومال وجاوا والألبان والصين والتبت – راجع كتاب مع الشيعة الإمامية لمحمد جواد مغنية، ص5.

 

من هو المسلم عند الشيعة:

قال الشيخ جعفر كاشف الغطاء في كتابه (كشف الغطاء) باب الاجتهاد

ص398 – يتحقق الإسلام بقول (أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله)، أو بما يرادفه من أي لغة كانت وبأي لفظٍ كان، فمن قاله حكم بإسلامه، والشيخ كاشف الغطاء هو شيخ الشيعة الإمامية، حيث انتهت إليه رئاسة المذهب في زمانه، وتوفي سنة 1228 هجرية.

ويجيب عن هذا السؤال أحد كبار علمائهم فيقول: "المسلم من صدّق مقتنعاً بكل ما اعتبره الإسلام من الأصول والفروع، والأصول ثلاثة – التوحيد والنبوة والمعاد -، فَمَنْ شَكَّ في أصلٍ منها أو ذُهل عنه، قاصراً أو مُقَصِّراً، فليس بمسلم ومَنْ آمن بها جميعها فهو مسلم. (انظر كتاب مع الشيعة الإمامية – محمد جواد مغنية، ص7، رئيس المحكمة الشرعية الجعفرية العليا طبعة ثانية).

والذي يبحث في الأصول العقائدية للفرق الإسلامية، أو المنتسبة للإسلام لابد أن يفرق بين الخلافات المتصلة بأصول الإسلام وعقائده الأساسية، وبين الخلافات المتصلة بالعقائد الفرعية، ذلك أن هذه التفرقة ضرورية حتى لا نسوي بين مَنْ يؤمن بالأصول الأساسية للإسلام، وبين من يفكر بها أو يخالفها.

ولابد أن أنبه في هذه الدراسة المقتضبة إلى ما يأتي:

إنَّ بين أهل السنة، والشيعة المعتدلة، والمعتزلة، والأباضية، خلافات في فروع العقيدة وليس في أصولها، وأنَّ هذه الخلافات لا تخرجهم عن الإسلام، ونجد علماءنا رضي الله عنهم يذكرون هذه الفرق، باعتبارها فرقاً إسلامية، ويناقشون آراءهم في كتب العقيدة والتفسير. راجع - مثلاً - الملل والنحل لابن حزم، والفرق الإسلامية لمحمد أبو زهرة.

ومن هذه الخلافات في فروق العقيدة التي يخالف فيها أهل السنة والجماعة بقية هذه الفرق:

1. اعتقاد أهل السنة والجماعة برؤية الله في الآخرة بدليل قوله تعالى: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة}، واعتقاد الشيعة والمعتزلة والأباضية بعدم رؤية الله في الآخرة مستشهدين بقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}.

2. اعتقاد المعتزلة بخلود مرتكب الكبيرة في جهنم، ويعتقد أهل السنة يخرجون من النار بعد استيفاء ما يستحقونه من العذاب.

3. اعتقاد الشيعة الاثني عشرية بإمامة اثني عشر إماماً.

وهكذا نجد خلافات في فروع العقيدة ويقابلها اتفاق والتقاء على العقائد الأساسية والأصول الكبرى في الإسلام.

فأركان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر وأن محمداً (ص) خاتم الأنبياء والمرسلين وأن القرآن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونسخ الله الشرائع كلها وأركان السلام بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله والصلاة والصوم والزكاة والحج ووجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة في فهم الأحكام وتكفير كل من أنكر عقيدة تثبت بالدين بالضرورة كإنكار فرضية الصلاة أو الصوم وأن محمداً (ص) خاتم الأنبياء والمرسلين وتكفير كل من ادعى النبوة بعد رسول الله أو نزول كتاب سماوي عليه كالبهائية التي تعتقد بنبوة البهاء ونزول كتاب سماوي عليه، والقاديانية التي تعتقد بنبوة ميرزا غلام أحمد ونزول كتاب سماوي عليه وإنكار القاديانية والبهائية لفريضة الجهاد في سبيل الله ولمعجزات الأنبياء.

وكالدروز الذين يعتقدون بألوهية الحاكم بأمر الله.. ونلاحظ اللقاء بين هذه الفرق والمذاهب الإسلامية على قيم الإسلام وأخلاقه في البيت والمجتمع والحياة في مواجهة القيم والأخلاق الغربية، فالتكافل الاجتماعي في مقابل الاشتراكية والطهارة والستر للمرأة في مقابل العري والتبرج والتساهل في العلاقات بين الرجل والمرأة، أقول هذه التفرقة ضرورية لكل باحث ومطلع لأن أعداء الإسلام يحاولون أن يفرقوا بين المسلمين، بإثارة أسباب الخلاف، وتضخيم الخلافات الفرعية التي لا تمس أصول الإسلام وأساسياته الكبرى.

أما الفروع التي هي من ضرورات الدين، فهي كل حكم اتفقت عليه المذاهب الإسلامية كافة، من غير فرق بين مذهبٍ ومذهبٍ آخر، كوجوب الصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، وحرمة زواج الأم والأخت، وما إلى ذلك، مما لا يختلف فيه رجلان من المسلمين، فضلاً عن طائفتين منهم، فإنكار حكمٍ من هذه الأحكام إنكارٌ للنبوة وتكذيبٌ لما ثبت في دين الإسلام بالضرورة.

والفرق بين الأصول والفروع الضرورية، أن الذي لا يدين بأحد الأصول يكون خارجاً عن الإسلام، جاهلاً كان أم غير جاهل، أما الذي لا يدين بفرعٍ ضروري، كالصلاة والزكاة، فإن كان ذلك مع العلم بصدوره عن النبي (ص)، فهو غير مسلم لأنه إنكارٌ للنبوة نفسها، وإن كان جاهلاً بصدوره عن الرسالة، كما لو نشأ في بيئة بعيدة عن الإسلام والمسلمين، فلا يضر ذلك بإسلامه إذا كان ملتزماً بكل ما جاء به رسول الله (ص) ولو على سبيل الإجمال.

حكم الشيعة على من لا يعتقد بعقائدهم الخاصة:

يقول أحد كبار علماء الشيعة: إنَّ ضرورات المذهب عند الشيعة على نوعين:

النوع الأول: يعود إلى (الإمامة)، فيجب على كل شيعي إمامي اثني عشري أن يعتقد بإمامة الاثني عشر إماماً، ومن ترك التدين بإمامتهم عالماً كان أم جاهلاً، أو اعتقد بالأصول الثلاثة التي هي الإيمان بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وبالنبوة، والبعث للحساب، والجزاء في اليوم الآخر، فهو عند الشيعة مسلم غير شيعي، له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، فالإمامة أصل المذهب الشيعي.

ومن الفروع التي تُعَدُّ من ضرورات المذهب الشيعي: نفي العول، والتعصيب في الميراث، ووجوب الإشهاد على الطلاق، ووجوب وضع الجبهة على التراب أو الأرض بدون حاجز.. ومن هنا يحمل الشيعي قرصاً من التراب ليضع جبهته عليه أثناء الصلاة، لوجوب وضع الجبهة على الصعيد في مذهبهم.

الشيعة تحترم الشيخين أبا بكر وعمر:

الشيعة يعتمدون على الكتاب والسنة، للوصول إلى الحكم الشرعي، وإذا علمنا أن باب الاجتهاد لم يُقفل عند الشيعة، عرفنا الثروة والغنى الذي أصابه الفقه على أيديهم.

وقد كان مذهب الشيعة الإمامية والزيدية، أحد مصادر موسوعة الفقه الإسلامي، التي نشأت في سوريا، ثم امتدت إلى مصر والكويت، وهي تذكر آراء علماء أهل السنة.

وإننا نحرص كل الحرص على تدعيم قواعد المودة والألفة بين المسلمين، ليحصل التقارب بينهم، ويكونوا يداً واحدة، على تشييد قواعد الدين الإسلامي وحراسة قوانينه الأساسية.

الفقه عند الشيعة:

يقول السيد حسين يوسف مكي العاملي، أحد علماء الشيعة في كتابه (عقيدة الشيعة في الإمام الصادق وسائر الأئمة) – (ص 19 – طبعة دار الألسن):

"لا نسوغ لأحد أن يسبهما أي (أبا بكر وعمر)، ولا أن يتحامل على مقامهما، ولا أفتينا لأحدٍ بجواز سبهما، فلهما عندنا من المقام ما يقتضي الإجلال والاحترام".

عقيدة الشيعة في القرآن الكريم:

يقول صاحب كتاب (عقيدة الشيعة في الإمام الصادق وسائر الأئمة): "نعتقد نحن الإمامية الاثني عشرية، أن القرآن الذي بأيدينا اليوم الذي يقرأه العالم الإسلامي على ما هو، أنه الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد (ص). ولا نقص فيه ولا زيادة، وقد صانه الله تعالى شأنه عن أن يعتريه نقصٌ، أو تبديل لقوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (سورة الحجر، الآية: 9)، ومن المناسب أن أذكر هنا أنني قد أُهديتُ منذ عام نسخة من المصحف الشريف طبع إيران، بإشراف هيئة دينية شيعية، ووجدته المصحف نفسه الذي عند أهل السنة، وهذا المصحف مكتوب بالخط الكوفي وهو في خزانة كتبي.

عقيدة الشيعة في الإمامة والخلافة:

يعتقد الشيعة الإمامية أن الإمامة محصورة في علي بن أبي طالب - عليه السلام - وولديه الحسنين وذريته المعصومين من بني الحسين رضي الله عنهم، وهم في الوقت نفسه، لا يُكفّرون من لا يرى ذلك ولكنّهم يعدّونه مسلماً، غاية الأمر أنهم يعتقدون أن خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما غير صحيحة، لأن وارث رسول الله (ص) في الخلافة هو عليّ وولداه الحسنان وذريته من بني الحسين، ولكن هذا لا يقتضي منهم سباً ولا شتماً، للصاحبين الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، أما الشيعة الزيدية، فيعتقدون بصحة إمامة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

عقيدة الشيعة في السنة:

والسنة النبوية عند الشيعة مرجع لمعرفة الأحكام الشرعية، والتوجيه في سائر نواحي الحياة، إلا أنهم يعتمدون بالنسبة لسند الحديث ورواته، على رواة أهل البيت فقط.

والذي يقرأ كتاباً ككتاب (الكافي)، الذي يُعدُّ مرجعاً أصلياً في الحديث عندهم، يجد أن أكثر مستوى الأحاديث متقاربة في معانيها مع الأحاديث المروية في كتب أهل السنة، ما عدا الأحاديث التي تقوم عليها أصول مذهبهم وغيرها.

موقف الشيعة من الفرق المغالية:

هناك فِرَقٌ مغالية في عقيدتها بعلي بن أبي طالب عليه السلام، من عقائدها زعمها أن علياً أحق بالرسالة، وأن جبريل أخطأ بالتبليغ وبعضها يُؤلِّه علياً، وموقف الشيعة الإثني عشرية والزيدية من هذه الفرق أنها تتبرأ منها كما يتبرأ منها أهل السنة والجماعة. والشيعة المعتدلون من الزيدية والإثني عشرية لا يقولون بهذه الأقوال، ويرفضونها بشدة ويُكَفِّرون من يُؤَلِّه علياً.

 

 

[1] . تقع صِفين على الحدود السورية – العراقية عند الضفة اليمنى من الفرات قرب الرقة.

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.