اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

النظارات السوداء والديمقراطية!// يوسف أبو الفوز

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

اقرأ ايضا للكاتب

النظارات السوداء والديمقراطية!

يوسف أبو الفوز

 

ما أن القى المشير عبد الفتاح السيسي (مواليد 1954)، وزير الدفاع والانتاج الحربي السابق في مصر، خطابًا للشعب المصري، أعلن فيه انتهاء خدماته كقائد للقوات المسلحة ووزيرا للدفاع، وكونها المرة الأخيرة التي يظهر فيها بزيه العسكري، ومعلنا اعتزامه الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية حسب طلبات قطاعات من ابناء الشعب، حتى انهالت التحليلات والتعليقات الجادة والساخرة، ورسوم الكاريكاتير، متناولة كل شيء في الخطاب، بدأُ من الاشجار التي ظهرت في الخلفية، الى طريقة لفظ الكلمات، وأيضا كونه لم يرتد النظارة السوداء اثناء تقديم الخطاب !

من الطريف أن كتب التأريخ، تخبرنا ان النظارات السوداء ارتبطت دائما بالحكام، صحيح ان أول من اكتشفها وصنعها بشكل بدائي من العاج هم شعب الاسكيمو للحماية من اشعة الشمس، ولكن يُذكر ان القضاة الصينيون كان اول من سوّد الزجاج بالدخان واستخدموها اثناء استجواب الشهود والمتهمين وذلك لأخفاء تعابير وجوههم ، وهكذا ارتبطت برجال الحكم والدولة بدأ من نيرون، ومرورا بسلسلة لا تنتهي من الجنرالات والضباط بمختلف الرتب ومن كل الجنسيات!

 ولابد من القول، بأني فرحت جدا لموقف الجيش المصري اذ انحاز الى جانب الشعب وازاح الرئيس حسني مبارك (مواليد 1928)  ونظامه في 11 شباط/ فبراير 2011، أثر اندلاع ثورة الشعب المصري في 25 يناير/ كانون الثاني من نفس العام، وفرحت اكثر حين عاود الجيش الاصطفاف الى جانب الشعب  في 3 تموز / يوليو  2013  بعد مظاهرات 30 حزيران / يونيو الحاشدة حيث تم عزل الزعيم الاخواني محمد مرسي (مواليد 1951)، الرئيس الخامس لجمهورية مصر العربية، والأول بعد ثورة 25 كانون الثاني / يناير ويعتبر أول رئيس مدني منتخب للبلاد، وفق الاجراءات التي عرفت بخارطة الطريق والتي اعلنها الفريق الاول عبد الفتاح لسيسي، ردا على تمادى جماعة الاخوان في مساعيهم لاخونة مصر، والتضييق على الحريات وحصول الكثير من الانتكاسات في مسيرة الثورة 25 يناير. وبرز أسم القائد العسكري عبد الفتاح السيسي ليتحول الى بطل شعبي، واسطورة حية، وتقاطعت الاصوات في اعتبار ما قام به الجيش المصري، هل هو "انقلاب عسكري" ام استمرارا للثورة واستجابة "للمطالب الشعبية" ؟ لكني كمتابع لم استطع اخفاء شعوري بالانقباض وانا ارى الصور الاولى لعبد الفتاح السيسي بزيه العسكري وهو يرتدي النظارة السوداء !

 أين رأيت مثل هذه الصورة ؟ أين ؟! وفورا برزت للذاكرة الصورة الشهيرة للجنرال الديكتاتور أوغستو بينوشيه (1915ـ 2006)، الذي اغتصب وبأنقلاب عسكري دموي وبالتنسيق والتحريض مع المخابرات المركزية الامريكية (CIA) السلطة الشرعية للرئيس الاشتراكي المنتخب سلفادور اليندي، الذي استشهد وهو يدافع عن شرعيته ، فقد صارت الصورة بوجه بينوشيه العبوس بالنظارات السوداء، وصف الجنرالات العسكريين المشتتي النظرات المصطفين خلفه مثل الطواويس رمزا للديكتاتورية العسكرية، التي حاربت اي مظهر للديمقراطية .

هل تصح هذه المقارنة؟ وهل النظارة السوداء كافية لاثارة المخاوف عند أنصار الدولة المدنية، ام انها مجرد هوس لدى القادة العسكرين ضروري للكاريزما والمنظر الجاد والقاسي؟

ان جزءا كبيرا وقطاعا واسعا من ابناء الشعب المصري ، الذين ابتلوا بحكم وسياسات الاخوان المسلمين، يتأملون في أن فوز عبد الفتاح السيسي بالانتخابات الرئاسية القادمة، سيفتح مجالا خصبا لتسير الحياة السياسية في مصر وفق اسس دستورية وطنية جاءت بها الثورة وتحقيق اهم شعاراتها " خبز .. حرية .. عدالة اجتماعية "، وان قطاعات من ابناء الشعب المصري، وقوى ليبرالية عديدة، تشعر بان عبد الفتاح السيسي والمؤسسة العسكرية سيكونا حريصين على بناء دولة مدنية، فهم اذ اطاحوا بحكم الاخوان المسلمين ، فأنهم قطعوا الطريق وبحزم أمام المخطط الدولي، بزعامة الولايات المتحدة الامريكية، الرامي، ومن خلال التدخل في اذكاء نيران واحداث "الربيع العربي" الى تأهيل جماعة الاخوان المسلمين، لتتولى شؤون العالم الاسلامي والعربي، معتبرين اياهم  وفق حساباتهم قوى اسلامية معتدلة، يمكن التفاهم معها بدلا من القوى التكفيرية المتشددة مثل طالبان والوهابيين!

 لقد هلل الشارع المصري كثيرا للقائد ـ المخلص ـ الجديد، بغض النظر عن كون ما تزعمه هو أمتداد للثورة او انقلاب، وراحت تنتشر صوره ـ بنظارات ودون نظارات ـ والاغاني، وظهرت حتى سندويشات جاهزة تحمل اسمه من غير الحلي والاكسوارات، بشكل جعل الامر يبدو محسوما له بالفوز في حال مشاركته في الانتخابات الرئاسية، اذا لم تحمل الانتخابات مفاجأتها خصوصا مع ظهور مرشحين لا يستهان بهم مثل حمدين صباحي (مواليد 1954)  الناصري وذو التاريخ الحافل بمقارعة حكم السادات ومبارك والاخوان المسلمين، والذي يحظى بتأييد عدة قوى يسارية وليبرالية. فهل استقالة المشير عبد الفتاح السيسي من موقعه العسكري، وعدم لبسه النظارات السوداء يعني انه نزع معها العقلية العسكرية في ادأرة أمور البلاد لأرساء  حلم الثوار وشهداء الثورة ؟!

تجربة شعبنا العراقي، بينت ان قائدا عسكريا، وضابطا وطنيا في الجيش العراقي مثل الزعيم عبد الكريم قاسم (1914 - 1963)، أنزه حاكم عرفه العراق حتى الان بشهادة خصومه، لم اجد له يوما صورة يرتدي فيها النظارات السوداء، واصبح رئيسا للوزراء، بعد ان قاد ورفاقه الضباط الاحرار صبيحة الرابع عشر من تموز/ يوليو 1958، تحركا عسكريا اطاح بالحكم الملكي صنيعة الاستعمار البريطاني، وتحولت حركة الضباط الاحرار الى ثورة بمساندة الشعب وقواه الوطنية، وانحاز في اجراءته الفورية للطبقات الفقيرة، وانجز الكثير من الاصلاحات الجذرية في فترة قصيرة تركت تاثيرها على مستقبل العراق، لكنه سرعان ما تحول الى "الزعيم الاوحد" للبلاد، فبدلته العسكرية، والروح العسكرية والمنطق العسكري، لم تساعده عل فهم اهمية ادارة الدولة بروح ديمقراطية تحتمل المرونة ووفق الدستور وقوانين التعددية الحزبية، وبالتالي ادى به الانفراد بالحكم الى استبعاد واضعاف مساهمات حتى حلفائه من قوى اليسار والديمقراطيين، وضيق عليهم ووجه لهم الضربات القاسية التي اضعفتهم، مما سهل للقوى المضادة للانقاض عليه في حركة غادرة، وجاءت بالتنسيق مع المخابرات المركزية الامريكية (CIA) وعبر مؤسسة الجيش التي حكم بواسطتها وعلى ايدي اقرب زملاءه ورفاقه في الجيش .

هل اختلفت الظروف والمعايير الان؟ هل سيخضع رجل مثل عبد الفتاح السيسي، تربى على المفاهيم والقيم العسكرية، للدستور المصري، ويراعي متطلبات وضرورات بناء دولة مدنية؟ دولة المؤسسات والقانون الذي يكفل الحريات والتعددية؟

التأريخ، يقول لنا، بأن الدبابة ومنطق البدلة العسكرية لا يمكنها ان تبني الديمقراطية. هذه الحقيقة ترسخت يوما بعد اخر، من ادولف هتلر( 1889 - 1945) الذي وصل الحكم بانتخابات شعبية، وببرنامج اصلاحي لاقى الدعم من  النقابات العمالية، فحملوه الى سدة الحكم، لكن سياسته في ايجاد المجال الحيوي لضمان رخاء المانيا، قاده وحزبه النازي الى اقامة حكم ديكتاتوري فاشي دموي، وأشعال نيران الحرب العالمية الثانية، وصارت معروفة جدا نتائجها الكارثية للعالم، التي لا تزال بعض من اثارها مستمرة حتى الان. كان الفوهرر هتلر موهوبا ومغرما بالقاء الخطابات بالحشود لاثارة حماسها والتأييد الاعمى له، وكانت مشهودا له في اساليبه في ترك تأثير سحري على الحشود، وفي كل استعراضاته، لم ينس هتلر العناية ببدلته العكسرية، ولكنه لم يعرف عنه استخدامه النظارات السوداء كمكمل للكاريزما المطلوبة للقائد، التي مارسها قادة عسكريين ديكتاتوريين مثل المارشال الكوري كيم جونغ أون ( مواليد 1983)، الفيلد مارشال الاوغندي عيدي أمين دادا ( 1925- 2003) ، المشير السوداني عمر البشير ( مواليد 1944) ، واخرين !

الطريف ان ديكتاتورا دمويا، مثل صدام حسين (1937- 2006) ، مجرم بحق شعبه وجيرانه، وان لم يكن متخرجا من اي مدرسة عسكرية ، لكنه ارتدى افخم الملابس العسكرية، ومنح نفسه اعلى الرتب والاوسمة، خلال فترة حكمة الدموية للعراق، لم يكن مولعا كثيرا بلبس النظارات الشمسية، وان لبسها فمن النوع ذات الزجاج الشفاف، ربما لكون المجرم صدام كان صادقا وواثقا مع نفسه كديكتاتور سفاح لدرجة لا يرى حاجة لحجب عيونه وتعبيراتها؟ اذ لطالما اعتبر علماء النفس عيني الانسان مفتاحا للشخصية، وللادب صولات وجولات مع العيون ولغتها في الحب والغرام والعداوة والصدود، وقالت العرب القدماء "إن العيون بها يعرف ما في القلوب وإن لم يتكلم صاحبها "، فهي مرآة الروح  ونوافذها، ولغة العيون لا تكذب، فتفضح انفعالات الانسان سلبا أو ايجابا وان لم يعبر عن ذلك لفظا، فهي اداة هامة في التواصل الانساني غير اللفظي، لذا يلجأ الكثير من الناس لاخفاء افعالاتهم وردود افعالهم، ولاضفاء شيء من الغموض والكاريزما على شخصيتهم بأرتداء النظارات السوداء. لم يكن المجرم صدام بحاجة لنظارات سوداء فنرجسيته كحاكم مستبد كانت بمستو عال لا يأبه بها لاخفاء اي من مشاعره .

بالتأكيد أن المشير عبد الفتاح السيسي ليس هتلر، وليس بينوشيه، ولا صدام حسين، فهو ربما يبدو اقرب الى نموذج شخصية الزعيم عبد الكريم قاسم، كضابط وطني حاول عبر اجتهاده وبمنطق العسكر بناء دولة وطنية، تحقق ما يراه هو الرفاهية لابناء شعبه، وان تطلب ذلك  مخالفة الدستور ووقوانين حقوق الانسان. المفارقة ان الشعب الشعب المصري يبدو لم يخطأ في حدسه بتشبيهه  المشير السيسي بالبكباشي (المقدم) جمال عبد الناصر (1918 - 1970)، الذي بدأ حكمه بوضع اول رئيس مصري بعد زوال النظام الملكي، اللواء الركن محمد نجيب (1901- 1984) تحت الاقامة الجبرية ، وتولى رئاسة الجمهورية عام 1956 بأستفتاء شعبي، وحارب الاخوان المسلمين لحد انهم حاولوا اغتياله عام 1954 ، لكن أليس جمال عبد الناصر هو الذي فتح سجونه لمعارضيه من قوى اليسار والديمقراطية في مصر الى جانب الاخوان المسلمين؟!

الكاتب الروائي والمناضل اليساري ابراهيم صنع الله (مواليد 1937) والدكتور رفعت السعيد (مواليد 1932)، وهو من سياسي مصري مخضرم، عارض انطلاقا من موقعه الفكري والسياسي في قوى اليسار كل حكام مصر، وكلاهما نالا الكثير من العسف من الانظمة المصرية، من سجن ومضايقات، في كتبهم ومذكراتهم، يروون قصة اليسار مع سجون عبد الناصر والارهاب السياسي الذي تعرضت له قوى اليسار من قبل اجهزة نظام البطل الشعبي والقومي، الذي اصدر قانون الاصلاح الزراعي وبنى السد العالي وامم قناة السويس وتحالف مع السوفيات ودول عدم الانحياز، لكنه لم يتقدم خطوة جدية واحدة بأتجاه الديمقراطية. يروي رفعت السعيد في مذكراته كيف كانت قوى اليسار المصري، وفي مفارقة عجيبة يغنون لبناء السد العالي وهم داخل في سجون عبد الناصر، الذي لم يتورع نظامه عن اغتيال شهدي عطية الشافعي (1913 ـ 1959) القائد المناضل والصحفي والاديب الشيوعي الذي يعتبر من رواد الحركة اليسارية في مصر والمناضل نضد الحكم الملكي والاستعمار البريطاني لمصر! وسواء ان فاز المشير (السابق) عبد الفتاح السيسي بالانتخابات الرئاسية المصرية، او فاز مرشح غيره، بسبب ظروف مستجدة ما، فأن تجارب الشعوب تخبرنا بأن العسكر ـ بنظارة سوداء أو بدونها ـ غير مؤهلين لبناء الدولة الديمقراطية، ومن هنا تبدو مخاوف الكثيرين مثلي، من انصار الدولة المدنية، مشروعة جدا !

8 نيسان 2014

 

* المدى/صفحة أرء/ العدد رقم (3054) بتاريخ

2014/04/10   

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.