اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• معلم في القرية/ 13: من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

ألناشر محمد علي الشبيبي

 

 معلم في القرية/ 13:

             من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)

 

ثم نسيَ نفسه

المفوض عبد الستار، صاحبي الذي أحببته كثيراً. خصوصاً في حادث الفيضان وما حصل لطفل الملاحين.  صحبته كثيراً قضيت معه سهرات، أنا وصديقاي مرتضى و"محمود مصطفى" [سبق وذكرته]، نسهر ونتجرع كؤوس الخمرة نزيح المتاعب عن كواهلنا، ونبعد السأم الذي نعانيه من جمود الحياة التي نعيشها، وركود الأفكار، وثقل سلطة الإقطاع التي تبدو لنا إن سلطة الدولة تستمد قوتها منها، وتقوم لخدمتها.

يبدو عبد الستار لطيفاً جذاباً، ومتزناً ونزيهاً. ولكن أمراً واحداً لفت نظري. إن زوجته كثيرة الغياب عنه، فهي تارة في مركز قضاء أبي صخير، عند صديقتها زوجة معاون شرطة القضاء، وتارة عند أهلها في بغداد. وحين تكون في بيتها، لا تبدو معارضة لسهراتنا، إنها تقوم بمساعدتنا على أكمل وجه. تُحضر المنقل والعشاء، ولا تأخذ حصتها من الراحة والنوم إلا بعد خروجنا. وإنه ليثني عليها كثيراً، ويقص علينا نماذج من سيرتها ومشاركتها له. خصوصاً أيام كان يعيش في الشمال ويتنقل بين النواحي هناك في الطرق الصعبة التي يقطعها على ظهور البغال متعرضا للمهالك على يد "المتمردين" من الأكراد. وهذا سر حبه لها مع كونها عقيماً. لم نسأله، ربما كان سبب العقم منه لا منها. هذا المفوض الذي بدا غيوراً عند حادث طفل الملاحين، وتذمره من انحراف صاحبينا –المدير والمعلم- أقترف جرماً في رأيي هو أكثر بشاعة وشناعة.

منذ أشهر قليلة أنتقل إلى دائرة البريد فتى بغدادي، جلب معه زوجته. ولم يمض على زواجه منها شهران، وقد تركت الدراسة بعد الصف الثاني المتوسط. نشأت في محيط بغداد الذي يختلف عن محيطنا هذا في مفاهيم الحرية وطموحات المرأة الحديثة وتطلعاتها. إنها غريبة عن هذا المجتمع ذو الوجهين، وجه التظاهر بالحشمة، والالتزام بالتقاليد، التي منها احترام المرأة –كمخدّرة- ووجه مستور يختفي تحته نهم الرجال من الإقطاعيين وأبنائهم في قضايا الجنس بشكل مضحك ومؤسف ومقزز!

ولعلها –لقلة تجاربها- لم تسئ بالناس ظناً، ربما كانت تحسب هذا المجتمع الذي انتقلت إليه أشبه شيء بمجموعة الطالبات اللاتي عايشتهن في عهد الدراسة. كما إنها لم تفهم الفروق بين مجتمع كمجتمع بغداد، وناحية المشخاب. فكانت لا تهتم بالحجاب إذا خرجت للسوق، أو زيارة بعض من تعرفت عليهم، مثلما تبتسم لمحدثها في الطريق.

كل هذا حرك الذين في قلوبهم مرض. الذين لا يفهمون المرأة إلا على أسس لا تأتلف ومفاهيم الإنسان الحديث، ومفاهيم الحرية التي هي ضد الاستغلال والتمييز. كانت إذا خرجت لبعض شأنها استهدفتها نظراتهم، وأسمعوها كلمات تشير إلى ما تنطوي عليه صدورهم، وعقولهم المحدودة!

جاءني صاحبي المفوض ذات يوم وحدثني عن جمالها ولطفها ورقتها. ثم راح يؤكد لي أمكانية الحصول عليها!؟

إن ردع هؤلاء شيء ليس بالأمر اليسير. إنه لا يصدق ما يدعيه شاب مثلي من تجنب اللذة المحرمة. بل إنه يتخذ منه مادة للسخرية، وموضوعاً لنقد فلسفة "الحب العذري" الذي لا يوجد إلا في بطون الكتب. وهو يفسر جميع حركات هذه الفتاة بأنها دعوة صريحة. إنها مغازلة!؟ فلم يسعني إلا أن أحذره –على الأقل- لأنها جارته، ثم إنه متزوج!

واليوم صادفني أحد أفراد الشرطة، فاخبرني بشماتة: إن صاحبي بات الليلة البارحة في غرفة التوقيف. وشرح الحادث.

قال كان المفوض الليلة البارحة منفرداً في بيته، حيث كانت زوجته غائبة كالعادة. فوسوس الشيطان –لعنة الله على الشيطان- فسطا على جارته، زوجة عامل التلفون، حيث كان زوجها خفر في الدائرة. لو لم تستغث مستصرخة لتم له اغتصابها. فقد أدركتها أم جارهم –مأمور الاستهلاك- فأنقذتها من براثن الذئب!

وأبدى مدير الناحية اهتماما كبيراً، فزجه بالتوقيف.

لم أفكر بزيارته. ماذا أقول له لو زرته؟ سيرحل هذا اليوم منقولا إلى ناحية "مليحه" [مليحة ناحية بين الشامية والديوانية] أما زوج الفتاة، فقد أقام الدعوى، على أساس ما أجراه مدير الناحية من تحقيق.

كل سلوك ينطوي تحته سرّ. تغيب زوجته الكثير عن البيت لابد أن يكون ناجماً عما تعرفه من سلوكه. ولا أعتقد إن هذا الحادث سيكون رادعاً له. ولكن ما ذنب زوجته؟ وكيف يكون أمن الناس إذا كان المسؤول عن أمنهم أمثال هذا؟

 

هفوة محرجة جداً

كانت زيارتي لأهلي هذه المرة ذات حدث غير متوقع. قضيت بقية ليلة الجمعة في أرق حتى الصباح، وقلق بدرجة عالية، لكن لست أدري لِمَ يهفو قلبي في لحظات من ذلك القلق، وكأنه يبتهج من أمل يلوح فيحل المشكلة؟ لست أدري كيف تورطت، وجازفت، إنها مجازفة لا يصدق أحد إني أقوم بمثلها.

قصدت صديقي "مرتضى" ورجوته أن يسارع فيواجه والدها لخطبتها والاتفاق على حل. وقد قام حسب الطلب إلا أن مساعيه ذهبت أدراج الرياح. لقد قوبل أسوء مقابلة. وعلى أي حال، يجب أن أضع الخطة بجد هذه المرة. ألم أتحول من مسلك الروحانيين إلى الوظيفة لهذه الغاية؟

وعدت عصر الجمعة شارد الذهن، فكري يشرق ويغرب. ثم انتهى في اليوم الثاني كل شيء. ذهب القلق، واندمجت بشؤون التدريس. عدا فترة وجيزة قبل النوم، حيث أستسلم للخيال، فأتصور المستقبل، وكأن قد تحقق كل شيء، الزواج ، والاستقرار، والاستقلال أيضا. ولم أذهب في نهاية الأسبوع إلى أهلي. ريثما أتأكد من حلول السلام وسكون العاصفة.

وتوجهت إلى قرية "أم عرده" [ قرية تقع على نهر يسمونه "السوارية" متفرع عن نهر المشخاب] في زيارة لأصدقائي السادة، مسافر وأخوته، حسين وعبد الله الياسريين. ومن الصدف أن أجد هناك الشيخ فريق مزهر الفرعون. وصادف أيضاً جلوسي كان إلى جانبه وجرى الحديث بيني وبينه عن ثورة العشرين. عن أهم محرك لها وعن أهم وقائعها.

كان حديثه بالطبع منحازاً أكثر إلى تصوير دورهم "آل فتلة" وحسن بلائهم فيها، دون أن ينسب للآخرين ما يشين. ثم ذكر لي إنه وضع كتاب عنها ضمنه –حقائق ناصعة- كان يدونها في حينها عنها، وإنه شفعها ببعض الصور. وكان معه صورة لأحد رجال الدين [هو الشيخ عبد الرحيم الظالمي من عشيرة الظوالم التي كان لها دور بارز في الاشتباكات ضد الانكليز في العارضيات] الذين شاركوا في المعارك ببطولة فذة. كان جالساً جلسة مصلي وعلى ركبتيه بندقيته. ويبدو في الصورة إنه في طول لا يزيد على طول بندقيته.

وعرض علي أن أشارك في أمر الكتاب، فأراجعه من ناحية اللغة والنحو، وإنه مقابل هذا يضع أسمي على الكتاب مع حصة أخرى. كدت أقول له موافق، ففي الحقيقة ليس في الأمر ما يضر. لكن السيد حسين أشار عن بعد، بحاجبه بالرفض. فقلت للمؤلف دعني أفكر... وقدمت له نسخة من روايتي "رنة الكأس" التي تسرعت وطبعتها قبل نصف السنة ["رنة الكأس" صدرت عام 1936 طبعت بمطبعة الغري في النجف سلمت معظم نسخها إلى صاحب المكتبة الوطنية ببغداد عبد الحميد زاهد، وادعى بعد حين إن مخزن مكتبته أحترق وبضمن ما أحترق روايتي!]. كانت مواضيع متفرقة، ألقيتها في أمسيات جمعية الرابطة الأدبية  في النجف حين كنت أحد أعضائها [انتسبت إليها وكانت قد خصصت يومي الجمعة والخميس لإلقاء نتاج أدبائها. وانتخبت مديراً لأدارتها ثم استقلت منها]. ولا أدري كيف تكونت فكرة طبعها فربطت بين تلك المواضيع، ودفعتها للمطبعة. قدمت إلى صحفنا في العراق وبعض الصحف في مصر ولبنان. فكتبت بعضها تقريظا مقتضباً، أما بعضها فأشار إلى جانب التقريظ إلى ما فيها من ركة وضعف في الأسلوب وجهل بفن الرواية والقصة.

تأثرت أول الأمر كثيراً، ثم أدركت أن تأثري، معناه إني أستجدي التشجيع. الواقع إني لست وحدي من كتاب القصة والرواية في هذه الفترة من يجهل قواعد فن القصة. أكثر الذين مارسوا كتابتها مثلي. ولكننا صورنا مشاعرنا اتجاه أهم ما كان مبرزاً في تلك العهود. مسألة الفلاح، المرأة، البطالة، حرية الفكر، التربية. خصوصاً وإن توجه بعضنا كان مجدداً بطبيعة التزامنا والقيود المتوارثة تجاه الآباء وسيطرتهم من جهة، وإمكانياتنا المادية من جهة مما جعلنا ضعفاء عاجزين عن التمرد والانطلاق الذين أهم ما تحتاجه النهضة الفكرية. وأنا خاصة، فقد كنت مشدوداً وبجمود إلى توجهات أبي، الذي كان يهمه أن أكون رجل دين يتقرب بي إلى الله [كلمة كان يرددها دائماً كلما عاتبني على دخولي –الوظيفة- ويزيد فيقول لجوءْك إليها يدل على عدم ثقتك بالله؟!]. كان لا يسمح لي بمغادرة البيت إلا بعد أن أنهي كل ما يخصه من خدمة. أهيئ القهوة، والشاي عصراً، فأسقيه ثلاث من أكواب الشاي الصغيرة. شرب كل كوب يستغرق عشرين دقيقة. ثم أهيئ المصابيح، أجلو زجاجها، وأعبئها بالنفط، وأتهيأ للخروج شرط أن لا يكون قد حضر زائر من أصدقائه.

ذات مرة تهيأت للخروج، فصاح بي، وأخذ يؤنبني. وبدون قصد وجدتني قد كتبت ثلاثة أبيات من الشعر، عن أهمية المجالس، وبعكسها ملازمة البيت والوحدة ، والأبيات هي:

إن المجالس درسٌ                  أولا فتفســــير درس

أو لا فإطلاق نفس                  كانت بضيق وحبس

وعلم ســاكن بيت                             لا أشــتريه بفــــلس

 وحين عدت ليلاً، وجدت صديقه الحميم الشيخ عبد المحمد  قد حضر معه بعد الصلاة، وهما صديقان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر إلا نادراً. والشيخ عبد المحمد من أسرة في النجف تعرف بآل زايردهام، وهم من قبيلة بني لام في العمارة. أغلبهم فقهاء، ورجال دين محترمون. وبعض أبنائهم لقب نفسه بـ "الخالدي"، ومنهم الدكتور مهدي صالح لقب نفسه بـ "المخزومي". وكان عبد المحمد من تلاميذ الشيخ ملا كاظم صاحب "المشروطة" واحد أركان زعامة السيد أبو الحسن المرجع الديني المعروف. حين سلمت بادرني الشيخ قائلاً ومتبسماً.

- بكم تشتري علم أبيك!؟

تلعثمت، ولم أحر جواباً. ولكن الشيخ أبدى رأيه مشجعاً والى جانبي في مسألة المجالس. وقال: "إنها مدرسة، إضافة إلى إنها واجب اجتماعي."

وذات مرة أيضا عندما أقام أبي مجلس تعزية في ذكرى وفاة الأمام موسى بن جعفر، حضر الشيخ جواد الجواهري، ثم الشيخ عبد الرضا الشيخ راضي. عندما أستقبلهما قالا بعتاب مداعب: لم نجئ من أجلك جئنا –وأشارا إليّ- إلى هذا. وأجاب هو معتذراً ، إنه مكاني ولابد من عائق. ومنذ هذين الحدثين لم يعد يعارضني [كان أبي يقيم مجلس تعزية لمدة 6 أيام يتبارى فيه رجال المنبر الحسيني باعتباره واحد منهم وكذا يفعل بالمناسبة معهم].

منذ أن عينت بوظيفة معلم عام 1934 ولحد ألان لم أستطع اقتناء الكتب التي أنا بحاجة لمطالعتها، والتغذي بمعلوماتها. كان راتبي أول الأمر يسيراً جداً. ستة دنانير فقط. في السنة الأولى كنت مستخدماً. وحين عينت معلماً تحت التجربة بـ "ثمانية دنانير" صرت أشتري بعض الكتب، كتاباً واحداً في الشهر. الكامل للمبرد، البيان والتبيين للجاحظ، رسائل الجاحظ، بعض كتب طه حسين، وأحمد حسن الزيات، فاوست للشاعر الأماني "جوته" وأقرؤها بنهم وسرعة. وقل أن أستطيع تمحيص الرأي الصائب من الخطأ فيما أقرأ. هذا يعود إلى أسس تربيتي وثقافتي. فهي دينية مغلقة، وكنت أتمرد عليها تمرد جاهل مكبل. لم أكن أستطيع شراء أكثر من هذا، لأني كنت أقدم لأبي بعضاً من راتبي، والى أخويّ وأمي وأختيّ. لم تكن مساعدتي لأبي ذات أهمية. إنما هي كرمز لعلاقتي به، واعترافي بفضله عليّ. وبعد عام من تعييني عُيّن أخي "حسين" معلما في إحدى مدارس النجف الابتدائية لللغة الإنكليزية.

حسين كان أكثر مني جرأة، لم يقدم شيئا من مرتبه لأبيه، واكتفى بمساعدة أمه وأختيه. وأهتم أكثر بملبسه وتنظيم غرفته الخاصة، وأعطى جانب ثقافته اهتماما أكثر. فكان يكثر من شراء الكتب.

سوف أعمل على الانتقال من هذه الناحية. فإنه يشاع إن الحلة وكربلاء سوف ينفكان عن الديوانية. إني أختار الكوفة، مادمت في نية تحقيق مسألة الزواج، والامتحانات النهائية على الأبواب [كانت الحلة وكربلاء مندمجتين مع الديوانية باسم منطقة يديرها مدير معارف كان هذا عام 1937-1938].

 

شيء عن مدرستي وعلاقاتي

على الرغم من إني عشت في قرية سوق شعلان معلما مدة سنتين دراسية، وفي هذه الناحية "الفيصلية" هذا العام "1936/1937" فإني لم أتطرق لذكر طلبتي في هاتين المدرستين. نشاطهم المدرسي،، خلقهم، الظروف السيئة والجيدة التي تحيط بهم، علاقتي بهم. مدرسة الناحية هذه مهمة، ويوليها المسؤولون بمختلف مسؤلياتهم ودرجاتهم اهتماما خاصاً. فالناحية ملتقى القبائل القاطنة قريباً منها جداً. والعشائر الأخرى على بعد المسافة بين بعضها البعض، تلتقي وتتماس بشدة، سواء على صعيد التعادي أو التوادد والتعاون في مسائلها العامة واتجاهاتها السياسية. تجلى هذا بوضوح في كل حركة تقدم بها إحدى الحكومات العراقية المتعاقبة. فرغم أن "داخل الشعلان" وموطن عشيرته أقرب ما يكون إلى عبد الواحد سكر، فإن الظاهر كان يبدو إنه يناصر "خوام" زعيم الظوالم، بينما يؤيد مهدي آل عسل وهو إبراهيمي فخذ الخبيطات، عبد الواحد سكر.

في مدرستي هذه ستة صفوف، ولا يتجاوز عدد معلميها عشرة. بنايتها واسعة جداً، ونواقصها بالنسبة لما يجب كثيرة، ومع ذلك فهي من ناحية بعض اللوازم خير من كثير من مدارس النجف مثلاً. فهي مزودة بمختلف الخرائط الجغرافية، وبحاجات وأدوات مختبرية، وبوسائل إيضاح للصفوف الأولى، ودرس اللغة الإنكليزية.

وأبناء الريف على العموم أشد إقبالا على التعلم من أبناء المدن. وإن كانوا يتفاوتون في الاهتمامات والقابليات. فأبناء الفلاحين –حسب ملاحظاتي- ومتابعتي، كانوا خيراً من أبناء الشيوخ في التلقي، والاهتمام والأدب. في حين لم أجد من أولئك ما يسئ إليّ أو إلى غيري من المعلمين. إنهم يحترموننا، ويتوددون إلينا كثيراً. كأن يطالبوننا بقبول دعواتهم وزياراتهم، وكنا نرفض، تجنباً لما يمكن أن يحدث نتيجة حساسيات الشرطة والحكام على السواء.

بعض المعلمين كانوا يتملقون المدللين من أولاد الشيوخ  وارتبطوا مع آبائهم بصلات، وزيارات متبادلة . كان أولئك يزورونهم في الفندق، ولعل مركز اُسر أولئك المعلمين الطبقي هو الباعث على تلك الصلات. فإن بعض هؤلاء المعلمين كان من أبناء وجهاء النجف، بينما كانت صلاتي بهم عن طريق زياراتي لبعض المعلمين في قرى مجاورة. وتتراوح أسباب التقدير بين ما لمسوه في شخصي من خلال أحاديثي الأدبية، وبين ما أحمل من رائحة مكان الشيخ الشبيبي كواحد من العاملين بالأمس في ثورة العشرين، وكونه أحد رجال الحكم، بغض النظر عن اتجاهه في التحزب القائم آنذاك.

إن بعض أولياء طلبتنا لا يهتمون بهذه الأمور، فكثير منهم ينجذب إليك لأنك معلم أبنائه. ويزيد احتراما حين يشعر بأهمية معلومات المعلم، وإدراكه لأوضاعهم. وأبناؤهم في أحاسيسهم يتبعون آباءهم تماماً ويحكونهم.

حين نزور بعض هؤلاء بدعوة –وهذا نادر- نجد صدى تلك في صفوف الطلبة، على شكل ابتسامة عريضة، ووشوشة، وتجمعات غير اعتيادية. يبدو عليهم الانشراح والبهجة بوضوح، ربما لأن أكثرهم عَمّهُ خَير تلك الزيارة. فالقروي حين يزوره موظف أو أكثر، يهيئ من المطبوخ وغيره، ما يكفي لعدد كبير، يعده الحضري تبذيراً.

ذات مرة التقيت بأحد وجوه بعض القرى التي زرتها بدعوة، كانت زيارتي لها لوجود صديقي "مرتضى" [هو الشاعر مرتضى فرج الله، وصاحب الدعوة السيد حسين السيد حمود الياسري، من قرية أم عردة التابعة لناحية الفيصلية]، وكان هذا الرجل قد أعد لي وليمة ضخمة دعا إليها جميع معلمي مدرستهم. لهذا لم أجد بداً حين التقيت به في النجف من أدعوه للغداء. كان الوقت قريباً من الظهر، ولكن أمي استطاعت أن تهيئ ما يلزم. وحضر الصديق "مرتضى" وكان ما يزال معلماً في مدرستهم، وحين ودعت الضيف، لم يكتم ما في نفسه عن الصديق مرتضى، فبعد الشكر وأسباغ الثناء علي قال: "صاحبك –أي مرتضى- مردشوري موش معلم؟!".

وحين حدثت مرتضى: "إن ضيفنا يبدو إنه يرغب لو بادلته التكريم، وقد كان يهتم بكم –معلمي مدرسة قريته-" . أجاب: "إنه أقطاعي ملاك، ماذا أملك أنا ذو الراتب الضعيف والعيلة؟ ما عليك يا عزيزي بعنعناتهم هذه. الفلاح يكد ويفلح وهم يحصدون. والله لو أن الظروف تبدلت وحددت الأرض المخصصة له، ليقوم هو بفلاحتها لرأيت إذ ذاك حقيقة كرمه".

قلت: هذا صحيح، ومهما يكن من أمر، فاني أنظر المسألة من ناحيتي، مسألة كرامة، فلا أحب إلا أن أرد تكريما بتكريم.

 

يتبـــــــــــــــع

ألناشر محمد علي الشبيبي

السويد 2010-09-14

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.