اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• الرحيل المؤلم لعاشق الحرية..

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

صباح كنجي

 مقالات اخرى للكاتب

الرحيل المؤلم لعاشق الحرية..

 

الرحيل المؤلم للمخرج والصحفي، الصديق هادي المهدي، لا يشكل صدمة وفاجعة كبيرة لمن عرفهُ أو سمِعَ به من الناحية العاطفية وفي المقدمة منهم  زوجته الفنانة ميديا معروف وبقية أفراد عائلته و اصدقائة، بقدر ما هو جريمة بحق من عشق الحرية والحياة وتطلع إلى الشمس..

هادي المهدي لم يكن مخرجاً أو فناناً مسرحياً وكاتباً مبدعاً، أنتجَ في مراحل صعبة العشرات من المسرحيات والأفلام والمسلسلات والبرامج الجريئة والكتب ناهيك عن مساهماته الصحفية. بل كان إنساناً.. إنساناً في غاية البساطة والوضوح..

تعرفتُ عليه في دمشق في أجواء الغربة التي منحتنا نصف حرية والكثير من المعاناة.. كنا نلتقي ونتحاور وجمعتني به علاقة صداقة بدأت في أروقة مقهى الروضة مع صديق آخر هو المخرج ناجي عبد الأمير الذي كانَ قد غادر العراق أيضاً من جراء التعسف والقمع مع العديد من المثقفين والفنانين الذين كانت دمشق محطة مفروضة عليهم..

في دمشق مارس هادي العمل الصحفي وبدأ في كتابة المقالات لعددٍ من صحف المعارضة التي كانت تدفع بالقيراط.. إذ كنا نواجه خطر الجوع والطرد من السكن في حالة عدم توفير الأجار المطلوب في كل شهر.. مشكلتي كانت اخف وطأة من هادي.. كنت قد استأجرت غرفة الصديق الدكتور العراقي علي هاشم وفي حالة عدم استكمال مبلغ الإيجار كان بالإمكان ترحيل بقية المبلغ للشهر التالي.. أما  هو فكانت زوجته ميديا مرافقة له وكان بالإضافة إلى ذلك يعمل في مجال الإخراج الذي يتطلبُ في سوريا البعث أن يصرف المخرج من جيبه على العمل ناهيك عن التفكير بالحصول على مبلغ من المال من جهده الإبداعي في هذا المجال..

على سبيل المثال كانت صحافة المعارضة العراقية في أجواء الغربة و شحت الأموال تدفعُ لمن يكتب عن المقال بحدود 1500 ليرة سورية بينما تدفع صحف الدولة السورية لمن يكتب فيها مبلغ150 ليرة فقط، وهذا لا يسدُ أجور التاكسي في حالة اضطرارك لإيصالها إلى مبنى الجريدة..

مع ذلك فقد غامر مهدي عاشق الحرية الذي لم تكن تحد من تطلعاته الحواجز والموانع إلى إخراج عدد من المسرحيات في دمشق.. وأذكر انه حينما بدأ بالتهيؤ لعرض مسرحية (دائماً وأبداً) التي تطلبت منه عملاً وجهداً مستمرأ لأكثر من شهرين مع الممثلين الذين تدربوا على بروفاتها بشكل منتظم، قد أعطاني عدداً من البطاقات لأوزعها مجاناً للعراقيين الذين لا يملكون إمكانية شراءها، وفي حينها أثناء العرض واجهته مشكلة غير عادية.. كان الإحراج بادياً عليه..

إذ بدأ موعد العرض لكن الممثل السوري زكي كورديللو احد الشخوص الخمسة للمسرحية مع نضال سيجري وبقية الممثلين المؤدين لأدوارهم كشخوص مهمشة في المجتمع وبالذات زكي الذي يؤدي دوراً مهماً وصعباً لمهمش يعاني من حالة تلعثم وتأتأة، لم يحضر في تلك الساعة إلى مكان العرض، وبعد دقائق من الانتظار الأصعب قررَ هادي البدء بعرض المسرحية احتراماً للجمهور، وحسم الموقف ليؤدي هو الدور..

لكن بعد دقائق توقف هادي ليعلن ويوضح معتذراً للجمهور:..  أن الممثل كورديللو الذي تأخرَ لسبب لا نعرفه قد حضرَ.. لذلك سأدعكم معهُ.. لنبدأ من جديد... وهكذا تقدم الممثل كورديللو ليعتذر للحضور من جراء حادث سَيْر أدى لتأخيره.. وقد أبدع كورديللو في تقديم الشخصية المقهورة، المستلبة، المهشمة، المهمشة، المكسورة المصابة بالتلعثم والتأتأة بأسلوب جميل ومحكم أذل المشاهدين.

قلت لهادي مستفسراً بعد انتهاء العرض..

ـ كيف كنت ستقدم هذه الشخصية هل كنت ستنجح مثل ما نجح في أداءها كورديللو؟..

ـ قال من المستحيل أن يؤدي ممثلين نفس الدور بنفس الدرجة من الإجادة بالتأكيد كنتُ سأتجاوز الكثير مما أداه كورديللو بإبداع يحسد عليه.. وحدثني في حينها بألم أيضاً عن المبلغ البائس الذي خصصته وزارة الثقافة للعمل والممثلين..

كان هادي رغم هذا الشح المالي يتجاوز كل العقبات ومستعد للتضحية في سبيل الآخرين وحينما دعوته لجلسة شرب في غرفتي التفت ليسألني.. الأ تملك تلفزيون؟..  قلت لا.. قال بعفوية: سأكتب ثلاثة مواضيع جديدة ليكون ريعها لتلفزيون لك وعليك استكمال الباقي.. لكن المشكلة حُلت حينما وصلني دعم مائة دولار من أبو عمشة خصصته لشراء تلفزيون قديم من جوزيف ابن الفقيد توما توماس، وبات هادي في حل من وعده لي..

هكذا كان مستعد أن يعطي من حوله ما في جيبه، واجزم أن ذلك كان على حساب وضعه ألمعاشي وتستطيع ميديا أن تكتب عن هذا الموضوع و ما واجههم من صعوبات في دمشق في تلك الفترة التي أبدعوا فيها رغم تلك المعاناة، فقد كان عطاء ميديا لا يقل عن هادي، إذ اشتركت في عدد من المسرحيات واعتقد كانت واحدة منها من إخراج الصديق ناجي عبد الأمير  أبدعت ميديا في دورها بشكل ملفت للنظر أشاد به المختصون والنقاد السوريون في أكثر من صحيفة و محفل في حينها..

هادي  لا يمكن اختزاله في حدود الفن والإبداع المسرحي أو العمل الصحفي.. هادي الإنسان كان جمرة متقدة تشع ضياء وأملاً.. بسيطاً وصريحاً يقول كلمته دون لف أو دوران..  ينتقد بشجاعة.. ويواجه السيئين وإساءاتهم.. يرفض المساومات ويتقدم في الرأي والموقف.. كان دائم الانفعال والتوتر رغم ملامحه الهادئة.. مارس حقه في المعارضة وانتقد سلطات القمع وأخطاء الأحزاب وممارسات المعارضة الخاطئة كان يوزع انتقاداته دون توقف من دون غطاء بالرغم من عدم انتمائه لطرف أو فكرة محددة.. كان هادي ينتمي إلى اللاانتماء بمعنى من المعاني لا يمكن تحجيمه و تأطيره في حدود مفهوم محدد لجهة محددة..

يخالط الشيوعيين وهو قريب منهم وله صلات عميقة ببقية الأطراف من قوميين وتقدميين كرد وعرب والى حد ما مع بعض الإسلاميين وتجمعه معهم علاقات شخصية طيبة دفع ثمنها غالياً منذ أن كان طالباً في أكاديمية الفنون، إذ جرى اعتقاله وتعذيبه بحجة علاقة لأبيه وشقيق له مع حزب الدعوة،  أشد ما آلمه في ذلك الوقت اكتشافه الرهيب وتشخيصه في المعتقل لأستاذ له في الأكاديمية يعذبه كأي صعلوك من صعاليك الأمن والمخابرات..

كانت حالته في هذا مناقضة لحالة معكوسة وردت في كتاب القسوة لعامر بدر حسون حينما استرسلت المناضلة المعتقلة لعامر عن حكاية اعتقالها وتعذيبها في ذلك العهد وأن جلاداً بينهم اغتصبها هو طالب جامعة تدرسهُ المناضلة المغتصبة..

كان هادي دائم الحديث عن هذه الحادثة القبيحة التي تركت في نفسه أثراً عميقاً خاصة بعد أن فقد أبيه وشقيقه في دهاليز الأمن بحجة تعاونهم مع حزب الدعوة وانعكس هذا على عمله وإبداعه الذي كرسه لمواجهة الظلم والتعسف والدفاع عن الكادحين والمهمشين والمتابع لما أنجزه من أفلام ومسرحيات ومسلسلات يجد هذا الهاجس يؤرقه ويدفعه لمواجهة المغتصبين للحرية غير عابهاً بهوياتهم واتجاهاتهم وميولهم سواء كانوا من بين المستبدين أو متخفين بين تنظيمات المعارضة وأروقة الدين من المعممين المزيفين..

بعد رحيل الدكتاتورية شهدناه يواجه زيف الحرية عبر نشاطات إبداعية وبرامج متنوعة بدأت بقفشات مسلسله الذي عرض في تلفزيون كوردسات وبرنامج صورة نيكتيف من قناة الفيحاء والبرنامج الشهير في راديو تموز .. وكل هذا لم يمنع هادي من النزول إلى ساحة التحرير ليشارك ويقود جزء من توجهات الشباب الداعية للتغيير ورغم اعتقاله وتعذيبه فقد واصل السير بيقين يدفعه رسوخ قناعته في أداء الدور العاشق للحرية ولم يرى أجمل وأفضل من ساحة التحرير لتقديم عرضه القادم..

كان هادي كعادته يعد نصه بنفسه ويخرجه وفي هذه المرة اختار جموع الثوار ليكونوا مشاركين له في العرض.. كان المشهد.. كل المشهد طبيعياً..  سطوع الشمس أضاء المسرح.. الدم.. دم المخرج هادي.. كان الماكياج.. والممثل رفض بديلا من الدوبلير.. وقرر أن يؤدي المشهد الأخير بنفسه، تقدم  وصرخُ في وجه الاستبداد..  لا تتوهموا.. هذا ليس نهاية العرض..  هذه هي البداية..  ـ سنعود من جديد..

نعم يا هادي قتلوك.. قتلك السفلة الواهمون.. قتلك شرذمة من المستبدين.. قتلة وأفاقون هم خليط من عهد قديم مضى.. ودعاة طغاة يتشبهون بأسلافهم يعبثون ويتمادون.. مستبدون مغلفون من سلاطين السلطة وعبيد رأس المال..  توهموا انك بعد تلك الرصاصات الغادرة ستغيب و لن تعود..

لكنك ستعود..  أجل ستعود.. رمزاً  للحرية ..  يرفرفُ في ساحات التحرير..

ستعود.. أنا واثق هذا ليس نهاية العرض.. أنها البداية..

 

منتصف أيلول 2011

ـــــــــــــــــــــ

بعد رحيل مهدي قرأت الكثير مما كتبَ عنه.. البعض من تلك الكتابات يفضحُ قتلتهِ من أعداء الحرية.. والبعض كتبَ ملتبساً بأمر هادي من جراء نشاطه مع المنتفضين واصفاً إياهُ بالبعثي تارة، ومن أعوان الخشلوك في أخرى، وو كان هناك من يتهمه بالعمالةِ للبعث السوري..

مهدي.. لم يكن إلا.. مهدي المستقل/ الكادح/ الثوري/ المتنور/ المواجه/ والفنان والمثقف التنويري الذي يرفض بيع نفسه مهما كان الثمن.. وما عداها ليس إلا هراءً..

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.