اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• الأنتفاضة وحكاية الثلج الأسود..! (7) - الليل في أتروش...

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

صباح كنجي

مقالات اخرى للكاتب

الأنتفاضة وحكاية الثلج الأسود..! (7)

 الليل في أتروش...

 

انسحبنا إلى أتروش وهي مركز ناحية مهم في قضاء الشيخان، كان قد أفرغ من سكانه وتحول إلى موقع يعسكر فيه فوج من الجيش العراقي، وزعت قواته بين القلاع والحصون والربايا المحيطة بالمدينة الصغيرة، التي استقدم إليها المرتزقة من بدو الصحراء واسكنوا فيها خلال السنوات الماضية.. الذين انسحبوا مع الجيش وترك البعض منهم ماشيته فيها بعد أن تعذر عليه سحبها أثناء المغادرة..

توزعنا على عدد من البيوت الفارغة.. توجه حسو ميرخان مع عدد كبير من المقاتلين إلى القلعة الجنوبية ليعسكر فيها، وذهب قادر قاجاغ مع تمر كوجر إلى بيوت في أعلى القرية، وتوجهنا نحن إلى دار صغيرة من غرفتين في الوسط منها .. التحق بنا للنوم والتنسيق فرج مرزا وجهور سليمان من كوادر الحزب الديمقراطي الكردستاني ممن ارتبطوا بنا بعلاقة صداقة وأمين بابا شيخ من الإتحاد..

لم يكن في القرية أية وسيلة للحصول على الطعام، وما وجدناه كان مجموعة بقرات وعجول سائبة.. بادر احد البيشمركة من حدك لمسك عجل سمين ونحره ليوزع لحمه على المجاميع في تلك الليلة، كانت القسمة كالعادة على الطريقة العشائرية لحدك.. الكمية الدسمة للمسئولين وهذا نقص لم يتداركه القادة الذين عملنا معهم و تعرفنا عليهم في فترة الأنصار باستثناءات قليلة.. وبدأنا نشوي اللحم لساعات متأخرة في ذلك الليل ونناقش أوضاعنا كشيوعيين من أجل اتخاذ قرار نهائي ينسجم مع طبيعة الأجواء الجديدة..

فسقوط الشيخان وعودة قوات النظام إليها جاء نتيجة صفقة سرية لها علاقة بزيارة مكرم الطالباني التي تحدثنا عنها فيما سبق، وأيضا للضغوط التي مورست على الأطراف الكردية من جهات مختلفة.. قلت للأنصار: ليس لدينا.. ولا للأصدقاء في حدك و أوك.. أية معلومات عن أوضاع دهوك.. ولا ندري إن كانت قد سقطت هي الأخرى أم لا؟..!.. لا توجد أية وسيلة للاتصال السريع الآن.. بقاؤنا في أتروش لا معنى له، ولن يبعد المخاطر عنا.. بالعكس يجعلنا هدفاً سهلاً لقصف المدفعية والطيران.. لكن بيشمركة حدك سيبقون فيها بتوجيه وأمر من قيادتهم.. قد يكونوا منخرطين في صفقة مفاوضات جديدة مع النظام وهذا يزيد من حجم الخطورة علينا.. أما أوك فغالبية مقاتليه كانوا من سوران.. سوف يعودون إلى مناطقهم في أربيل والسليمانية..

التطورات سريعة وعاصفة.. لا يجوز أن نتأخر.. علينا أن نختار الطريق والوسيلة التي تنقذنا من احتمالات التطويق.. بعد نقاشات شارك فيها الجميع اتخذنا قراراً بالتوجه عبر المسالك الجبلية نحو العمادية كخط خلفي تداركاً لاحتمالات سقوط دهوك وعودة قوات السلطة اليها، بعد انقطاع اتصالنا نحن وحدك مع قياداتنا المتواجدة في زاخو..

هكذا انطلقنا في اليوم التالي* مغادرين أتروش نحو كارة.. كانت جميع القرى مهدمة.. لا يوجد أي أثر للبشر فيها منذ الأنفال.. في معبر (كلي كاني ماسي - وادي عين السمك) الذي يجري في أسفله نهر صغير، توقفنا أمام بركة السباحة لنصطاد السمك.. قررنا استخدام قاذف أل أر بي جي سفن لهذا الغرض.. حاولنا إطلاق قذيفة منه نحو البركة.. كررنا المحاولة لأكثر من مرة.. اكتشفنا أن القاذف عاطل والإبرة لا تصيب الكبسولة.. لهذا قذفناه في النهر وتخلصنا من عبئه الثقيل.. مكتفين في تغذيتنا على ما حملناه من أكياس مغذية من مستوصف أتروش والفيتامينات التي جلبها كفاح لنا قبل أن نغادر لتعوض النقص في التغذية بحكم تطورات الأنتفاضة وملابسات الوضع الذي حشرنا فيه.. وواصلنا مسيرنا نقتربُ من سلسلة كارة التي تواجهنا..

عند ما حل الليل... كنا قد وصلنا لموقع للجيش في مواجهة قرية جماني كانت إحدى رباياه محفورة في الأرض، قررنا دخولها للمبيت فيها اتقاء للبرد.. أثناء تقدمنا من المدخل خرج كلب ليهرب بعد أن فزع من وجودنا المنافس له وقرر الابتعاد وترك المكان لنا صاغراً.. بتنا ليلتنا في تلك الربيئة المدفونة بالارض في اليوم التالي واصلنا طريقنا نحو آفوكي لنرتقي كارة في الثاني من نيسان..

صعدنا شيئاً فشيئاً نحو القمة... الطريق من أسفل وادي آفوكي إلى القمة يستغرق ساعتين من المشي المتواصل في هذا المسلك الجبلي الوعر الممتد بين تعرجات صخرية حادة، تمر مجاورة لكهوف يمكن استخدامها للاستراحة عند الشعور بالتعب، أو البقاء والمبيت فيها في حالة هطول الأمطار والثلوج بكثافة أثناء هبوب العواصف الشديدة..

في هذا المعبر الجبلي، الذي كنا نسلكه سابقاً، حدث وأن مررنا بحالات لا يمكن نسيانها بين قصف لطائرات، أو من قبل مدفعية الجيش التي كانت تراقب الجبل من قلعة كانيكا المواجهة لكاره.. و أيضا هنا.. في هذا الطريق بالذات تم اغتيال أول نصير شيوعي (هرمز ستيفان- أبو إيفان) من قبل عصابات المخابرات العراقية المندسين في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني.. أثناء توجه ثلاثة أنصار هم.. (أبو داود وناظم وأبو إيفان).. بتاريخ9-11- 1980 في مهمة حزبية.. حيث استشهد أبو إيفان وجرح ناظم.. بعد أن أطلق عليهم النار العميل احمد ميركتي من كمين لا يبعد عنهم سوى مسافة قصيرة..

وهو ذات المعبر الذي سحبنا فيه مجموعة جرحى ربيئة سي كيري في العمادية أثناء اقتحام الربيئة في أجواء صعبة للغاية تمثلت بكثافة الثلوج التي كانت تعيق الحركة، وتعدد إصابات البعض ووصلت مع (ملازم سلام- حميد دخيل) من بعشيقة لأكثر من خمسين جرحاً في مختلف أجزاء جسمه.. في حينها اجتمع الناس من قرى بري كارة قبل شروق الشمس لإيصالهم إلى القمة.. كانت مهمة الذين معي استقبالهم ونقلهم إلى مقر مراني للعلاج..

وأيضاً هو ذات المكان الذي اخذت منه الآلاف من العوائل الكردية المحاصرة مع عوائل الأنصار الشيوعيين في مراني.. الذين غيبوا في عمليات الأنفال لاحقاً بعد العفو الكاذب الذي اصدره النظام.. ولم يكتشف مكان دفنهم الى اليوم..

كنت أتذكر هذه التفاصيل وغيرها من الحوادث وأنا اقترب من الحوض المفتوح الذي سيواجهني بعد أن أنفذ من المسلك الوعر الحاجب للرؤيا في عمق الجبل.. فقط عند الوصول إلى هذا السطح المكشوف يمكنك أن ترى القمم الشاهقة المعانقة للسماء مقبعة بأكاليل الثلوج كالعرائس تتأهب من أجل صورة تذكارية.

في هذا المكان المرتفع.. عند هذا الحد تعودنا الانتظار لحين وصول بقية المتسلقين.. قبل ان نهبط نحو الجهة المواجهة لبري كارة في صفحة العمادية وجبل متين الذي يوازي كارة في شموخه وارتفاعه..

من هذه الفسحة المكشوفة.. التي نرى فيها بياض الثلج يلمعُ حتى في فترات دخول الصيف، حيث كانت بعض واجهاته التي لا تلوحَها أشعة الشمس تحتفظ بالثلوج المتراكمة سنة بعد أخرى.. توقفت مندهشاً غير مصدق ما أرى.. كدت أشك في نظري.. قلت بداية: لعلي أصبت بحالة خاصة تمنعُ وضوح الرؤية تؤدي بي لمشاهدة اللون الأسود.. لكني حينما اقتربت أكثر من هذه الطبقات السوداء المتراكمة في قمة الجبل.. بعد أن لمستها بيدي... اكتشفت أنها طبقات من الثلج الأسود!!.. دهشت وصدمت.. فصحت:

ـ يا للهول.. يا للفضاعة..

من سيصدق يوماً... حينما نقص عليه حكاية الثلج الأسود.. في زمن المجرم صدام.. الذي أحرق آبار النفط ولوث أجواء المنطقة إلى درجة أن الثلوج التي سقطت على جبال كردستان كانت سوداء.. سوداء.. ثلوج سوداء.. في قمة كارة التي مررنا بها في ذلك اليوم العصيب من أيام الانتفاضة.. يا.. لأسفي لم يكن معنا في تلك اللحظات أية كامرا لتصوير طبقات الثلج الأسود...

وقفنا مشدوهين لفترة من الوقت ننظر المشهد المأساوي.. ذرفت فيها دموعاً تساقطت حباته فوق ذلك السواد، وواصلنا بقية الخطوات نتقدم نحو الحافة لننزلق نحو الممر الهابط المكتسي بطبقات سميكة من الثلج تغطي المهبط حتى أسفل الوادي.. الذي يستغرق أكثر من ساعة ونصف للنزول منه.. كانت مشاعري تحت تأثير ذلك المشهد الأسود.. لا أدري كيف جلستُ على الثلج في حالة لا وعي لأجد نفسي انزلق بسرعة قصوى نحو الهاوية..

كنتُ ازحف على الثلج في سرعة يصعب التحكم بها بعد أن أصبح الاحتكاك صفراً.. وبدأ قانون التعجيل يتحكم بالسرعة ويزيدها متراً بعد آخر.. أدركني الموت وقلت هذه هي النهاية.. الشيء الوحيد الذي تمكنت من فعله في تلك اللحظات.. أن أطبق رجلي الممدودة بقوة مع بعضها ولا افتحها كي لا تخترق صخرة أو نتوء بطني وتمزق أحشائي في حالة الاصطدام بها، والثاني استخدامي للبندقية كمجداف اغرسها في اليمين تارة واليسار تارة أخرى.. كي اخفف من سرعة الانزلاق و الانحدار غير المسيطر عليه..

بعد اقل من دقيقة وجدت نفسي في أسفل الوادي سليماً معافى غير مصدق.. فأطلقت رصاصتين نحو السماء في إشارة لسلامتي.. وأخذت اجمع الحطب لأشعل النار وانتظر الآخرين يهبطوا من القمة.. بعد ساعة ونصف اجتمع شملنا من جديد على النار غير مصدقين بقائي حياً..

توجهنا بعدها بين سلسلتي الجبل نحو معبر (سي برا- الجسور الثلاثة) في وادي زيوا المواجه للعمادية ومنه انطلقنا نحو مزارع صبنة.. لم يكن لدينا أية معلومات عن تحركات الجيش، فقررنا المبيت وسط مزرعة تواجه العمادية وجدنا فيها كبره صغيرة كان فيها القليل من السكر والمواد الغذائية، ورغم هطول الأمطار تحملنا تلك الليلة بعد أن أوقدنا النار نتدفأ بها... في اليوم الثاني بدأنا نتقدم نحو العمادية بحذر شديد..

في العمادية أدركنا أن دهوك و زاخو قد سقطت بيد قوات الجيش من جديد كانت المدينة مهجورة.. غادرها السكان.. وبقي الشيوعيون فيها ليحافظوا على ممتلكات الناس ويحرسوها.. الأبواب مفتوحة والبيوت عامرة.. لم تسجل أية حالة سرقة.. المقر نشط .. بعد أن استحممنا وتناولنا وجبة غذاء دسمة اجتمعنا مع بقية أنصار العمادية بينهم عدد من كوادر محلية دهوك.. كانت وجهتهم ترك المدينة دون قتال.. حاولنا إقناعهم بالبقاء.. وبدأنا نرابط في قمة مشرفة على المدينة.. كانت الطائرات السمتية تجوب أجواء سرسنك و بامرني وتقصف تلك المناطق.. المسافة بين العمادية و بامرني تزيد على العشرين كيلومتراً.. لكن الأنصار فيها قد حسموا وجهتهم في ترك المدينة.. فقررنا بالاتفاق مع سردار آميدي و برفان و جارو و جكرخون أن ننتقل إلى موقع في كلي زنطة ونجعله مقراً لنا.. أخذنا نعد العدة لهذا الأمر.. جلبنا سيارة زيل عسكرية ووضعنا فيها الأفرشة وعدد من أكياس الطحين والمواد المختلفة بما فيها علب الزيت والسمنة و البقوليات والعدس مع صناديق عتاد وقذائف ومستلزمات أخرى واتفقنا مع سردار آميدي على اللقاء في مدخل كلي بالنده.. الذي كانت قوافل الجموع البشرية تغادر في الطريق المتجه نحوه..

في العمادية انفصل عنا وغادرنا أمين بابا شيخ مع مجموعة أوك الذاهبة إلى السوران.. سرنا نحن مع الجمهور نحو كلي بالنده.. كانت الأشياء المتروكة على جانبي الشارع تمتد في شريط طويل بينها الحقائب والملابس والمواد الغذائية.. حاولت أثناء دخولي لدار القائمقام أن أخذ الراديو منه لكي نسمع الأخبار.. لكن رفاق العمادية احتجوا على تصرفي واضطررت تحت إلحاحهم لأعادته إلى مكانه.. هكذا أصبحنا من جديد بلا واسطة اتصال بالعالم.. في الطريق وجدت كيس نايلون معبأ بقطع لحم طازجة لديك رومي مقطع، كان قد ترك من قبل من سبقنا في السير فقررت حمله...

 

حينما وصلنا مدخل كلي بالنده واصلت الجموع البشرية طريقها نحو الحدود التركية وبقينا ننتظر سردار.. لم يأتي.. بتنا ليلتنا هناك في العراء... شوينا قطع اللحم.. في اليوم الثاني جاءنا سردار.. قلت له أين المكان المتفق عليه وهل وصلت الحاجيات التي شحناها في الزيل أم لا ؟..

قال:

ـ لم أرى السائق... لا أدري.. لقد ضاع عني..

حاولت التفاهم معه لكنه ناور.. وتركنا وحيدين.. لم يأتي احد من أنصار العمادية معنا ولا أدري إن كان سردار قد ناور عليهم أيضا فمعرفتي به كانت محدودة ولم أستطيع أن احكم عليه في تلك الظروف.. أصبحنا نواجه مصيراً صعباً.. لا طعام ولا غذاء ولا أية وسيلة تساعدنا على البقاء.. كل ما امانا هو جموع مغادرة.. جموع تملأ الطريق الجبلي الواسع المفتوح لناقلات الجند في زمن الطاغية في تلك الجبال الوعرة.. هاهي الآن تكتظ بالهاربين المغادرين للقرى والمدن نحو المجهول.. فالطريق التي أمامهم خالية من السكان والحدود مع تركيا ليست بعيدة.. ماذا سيكون مصير هؤلاء؟!... في ذات الوقت بدأت محطات العالم تتناقل أنباء الهجرة البشرية الجديدة.. في اليوم التالي بعد أن هدنا الجوع ولم يبقى لنا خيار.. وبعد أن غاب سردار ومن معه قررنا الانخراط وسط الجموع المتدافعة المتوجهة نحو الحدود.. لم يكن السير سهلاً وسط الجمهور المتدافع.. البعض كان بملابس مدنية ومرتدياً الجينس وهناك من حمل شيئاً على ظهره وعلقه بخيط أو حبل صغير بين كتفيه فأخذ يحز اللحم من أكتافه.. وثمة من يتقدم ناقلا أمه أو أبيه بواسطة الحمير والبغال.. أما القادمين مع سياراتهم الشخصية فكانوا يمرقون وسط الحشد كالسلحفاة.. مما اضطرهم لتركها على جانب من الشارع.. هكذا وصل طابور السيارات إلى مدى لا يمكن وصفه.. شاهدت البعض من أصحاب العربات يتوقف وينظر مع ذويه إلى صف السيارات المتراصة ليختاروا إحدى سيارات الذين سبقوه .. يدفعوها نحو هاوية الوادي كي يوقف عربته مكانها.. هكذا يأتيه الدور لاحقاً ممن تأخروا في الوصول بسبب الازدحام..

شاهدت أيضا إقطاعياً ورئيس عشيرة من العاملين في سلك الجحوش في لحظة ذل يتوسل كادحاً شريفاً من أهل القرى، لمبادلة سيارته المار سدس ببغل يحمل أمه العجوز مع حاجياته الضرورية.. كي يستقله هذا التافه الذي جلب معه الأموال والمجوهرات الثمينة.. لكن المواطن الكردي الشهم رفض ذلك وأصر على مواصلة السير مع بغله دون أن يعير كبير الجحوش اهتماماً يذكر..

في هذا الطريق صادفتنا أهوال وحالات لا يمكن نسيانها..ابتداء من ليلتنا الأولى التي بتنا بها داخل السيارات التي تركها أصحابها..

الكتل البشرية المتحركة، التي كانت تسير في الطريق الجبلي وهي تعاني من الجوع والتعب والإرهاق ومن ملاحقة طيران الاستبداد البعثي لها في هذه المناطق النائية، واجهت في ذات الوقت أعباءَ إضافية من جراء تقلبات الجو وغزارة هطول المطر الذي كان يتكرر نزوله لأكثر من مرة في اليوم..

في الليل الأول من سيرنا وسط الحشود توقفنا لنبيت في عدد من السيارات المتروكة.. كنت احمل معي عدداً من الشموع وزعتها على الأنصار كي يشعلوها داخل السيارات للتدفئة.. لكن بعد ساعات شعرنا بالانجماد.. كان البرد لا يحتمل.. ولم يكن لنا وسيلة للحصول على الدفء.. عند الفجر وبعد أن واجهتنا صعوبات في القدرة على التحمل .. قلت للذين معي هيا لنخرج ونتدفأ بالنار.. تصوروا إني اسخر أو امزح.. من أين النار ونحن في هذا الوادي الخالي من الحطب في هذا الليل الكالح.. قلت سنبحث عن دواليب السيارات الزائدة ونحرقها لنتدفأ بها.. راقت الفكرة للجميع وبدأنا بحرق أول دولاب وهكذا توزع الأنصار على حلقات النيران واجتمع حولنا آخرون.. وبعد ساعات واصلنا سيرنا مع الجموع التي بدأ عليها الإعياء... كانت بالنسبة لنا اليوم الثالث في العراء من دون طعام.. ليس أمامنا خيار آخر المطلوب مواصلة السير دون توقف.. كانت حالنا أفضل من الذين خرجوا مع عائلاتهم خاصة الذين معهم عجزة وشيوخ.. أما المرأة التي معها طفل رضيع فوضعها أسوء مما يمكن وصفه بالكلمات.. السير الطويل مع الجوع والتعب والخوف يحول الرضيع مهما خف وزنه إلى كتلة ثقيلة يصعب حملها ومسكها بسبب تشنج الأطراف والأصابع.. وكانت مقدمات الكارثة... مشاهدتنا لعدد من الشيوخ والعجائز ممن تركهم أبناؤهم في الطريق يواجهون مصيرهم.. هكذا شاهدنا أولى الحالات.. شاب يترك أبيه أو أمه بسبب عدم مقدرتهما على السير وعدم مقدرته على حملهما.. المنظر يتداور .. بات مشهد المتروكين يتكرر بين الحين والآخر ونحت نواصل سيرنا..

وصلنا معبر مائي كان يرتفع فوقه جسر بدائي من أغصان الخشب المنسوجة لتصبح معبرا يربط طرفي الطريق الذي يخترقه مجرى نهير صغير بين الصخور.. الجسر يرتفع عن الماء بأكثر من مترين.. والناس تسير فوقه لتعبر نحو الضفة الأخرى لتخط أولى خطواتها في الأراضي التابعة لتركيا.. انه مفصل حدودي غير مرئي..

في هذا المعبر البدائي الصغير الذي كانت تمر من فوقه الأجساد التعبة والمرهقة وفي لحظة يأس قلّ نظيرها صادفنا أول حالة إنسانية تعكس هولاً حل بموكب السائرين المخذولين.. حينما وقفت أم وصلت منتصف الجسر لتتأمل مجرى المياه المنحدر بين الصخور وقررت في لحظة تعطلت فيها الأحاسيس الإنسانية التجرد من عاطفة الأمومة فأرخت يديها التي كانت تشبك بهم طفلها الرضيع ومع ضمه لصدرها للمرة الأخيرة ألقته نحو الماء من ذلك الارتفاع وصرخت صرخة إدانة وهي تتجاوز الجسر لتلقي بنفسها في الأرض تبكي وتولول.. لا أستطيع حمله.. لا أستطيع حمله.. واستسلمت لنحيب قاتل لكل من سمعها في تلك اللحظات..

كنا بالصدفة بالقرب منها في الطرف الثاني من الجسر ننتظر على بعد امتار منها لنعبر للجهة الثانية الفاصلة بين العراق وتركيا من ذات المعبر الخشبي الصغير المعلق بين طرفي الحدود.. شاهدنا الماء في مجراه السريع بين الصخور يتلقف الطفل.. العجيب أنه لم يغطس وبقي يطفو كأنه يلعب ويلهو مع موجات الماء التي تجرفه نحو حتفه.. في ذات اللحظة وجدنا كفاح يلقي بنفسه في الماء يلاحق الطفل وينتشله.. كانت المفاجأة والذهول قد عقدت لسان الجميع.. بصمت تقدمنا نحو الأم التي احتضنت رضيعها لنواسيها ونرفع من معنوياتها كي تواصل السير معنا بعد أن تعهدنا لها بمساعدتها قدر المستطاع.. بدأنا نسير في الأراضي التركية الخالية من السكان بتوجيه من الشرطة والجيش التركي الذي كان يراقب الحشود ويوجهها لمواصلة السير عبر مسالك تؤدي للعودة إلى الأراضي العراقية في الجهة الموازية لقضاء هكاري في منطقة جلي..

 

صباح كنجي

ـــــــــــــــــــــــــــ

ـ  مقتطف من حكايا الأنصار والجبل..

ـ المجموعة التي عبرت كاره في ذلك اليوم كانت مكونة من الانصار التالية اسماؤهم .. فرهاد شيخكي .. أمين بابا شيخ.. كفاح كنجي.. بير الياس إيسياني- ابو خدر.. رافي زيوان.. صباح كنجي

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.