اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

دعوى ضد إذاعة (صوت الناس)- قصة قصيرة// مارتن كورش تمرس

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

مارتن كورش تمرس

 

عرض صفحة الكاتب 

دعوى ضد إذاعة (صوت الناس)- قصة قصيرة

مارتن كورش تمرس

محامي وقاص

 

تخرج (لاوندو شليمون وردة) من كلية القانون في ثمانينيات القرن الماضي، متأملاً أن يعمل في حقل المحاماة بعد التخرج مباشرة، كيف لا؟ وهو في عنفوان شبابه. لكن الحظ لم يحالفه عندما اقتحمت بيته مفرزة من (الجيش الشعبي)؛ فارضةً عليه الالتحاق بصفوفهم.

 

فضّل الالتحاق بصفوف المعارضة على الالتحاق بصفوف من اقتحم منزله، حاملاً معه حاجتين؛ كتيب (دستور العراق)، وآلة الكمان التي كانت والدته تعزف عليها؛ إذ كانت أستاذة في قسم الموسيقى بأكاديمية الفنون الجميلة، وعضوًا في الفرقة السيمفونية العراقية، وألفت العديد من المقطوعات الموسيقية، وسجلت العديد من معزوفاتها في دار الإذاعة العراقية.

 

في السنة التالية لالتحاقه، وبينما هو يهيئُ البريد لكي يقدمه في صباح اليوم التالي إلى المسؤول عن مجموعته، تعرض وِكْرهم للقصف؛ فأصيب بشظية في عينه اليمنى، شظية دقيقة لا ترى بالعين المجردة.

 

لم يحزن عندما أدرك أنه فقد نعمة البصر في عينه اليمنى، بل كان يجيب مازحًا، كل مَن يسأله عنها: "واحدة تفي بالغرض، إني على علم اليقين بأن هناك مقاتلون يجدون صعوبة عند الرمي في إغماض إحدى أعينهم وإبقاء الثانية مفتوحة، لذلك تراني محسودًا من قبلهم! باعتبار من مثلي تسهل عليه المهمة أثناء الرمي ببندقية الكلاشنكوف، وتطبيق الفرضة على الشعيرة بكل سهولةٍ، لأني لا أحتاج حينئذ إلى أن أغمض عيني الصحيحة ما دامت شقيقتها مغمضة أساسًا. علما أنني معفى من المشاركة في القتال؛ لكوني ضمن الطاقم الإداري الذي يسمى (القلم)، ولم أمسك بيدي أية بندقية آلية".

 

لم يتحمل ذلك الوضع الذي كان فيه إخوته في النضال يقعون قتلى على يد الجيش، والعكس صحيح. حتى قرر أن يرحل عبر الحدود ويدخل سيرًا على الأقدام لعدة أسابيع أراضي جمهورية (تركيا)، ومنها إلى دولة أوروبية.

 

انقضت سنوات اللجوء بسرعة ليعود بعد عام 2003 إلى العاصمة بغداد، مسقط رأسه. عاد إلى بيت والديه وألقى بنفسه في أحضان والدته كطفل صغير وهكذا فعل مع والده الذي طعن في السنِّ، أما والدته فقد أحنى الدهر ظهرها فما عادت تقوى على العزف.

 

أخرج آلة الكمان من حقيبه وعلقها على الجدار لتنظر إليها والدته، ولم تتمالك نفسها حتى بكت قائلة لهما:

-    (ليت الشباب يعودا الآن الأن وليس يومًا.).

حضنها ومسح بردن قميصه دموعها وقال لها:

-    إن كنتِ يا أمي قد كبرتِ في السنِّ، فأنتِ شابة يافعة في عيون كل طلابك والمستمعين؛ لأن معزوفاتكِ ستظل ترن بنغمات عالية في أسماع الناس، والتاريخ شاهد.

-   

أصبحتْ كلما تحن إلى أيام شبابها حين كانت معلمة أمام تلامذتها، تقف أمام الكمان وتقول لزوجها:

-    حين أقف أمامها أشعر كأنني أقف على المسرح بين زملائي في الفرقة السمفونية العراقية وأعزف بكل شغف، خيرًا فعل ابننا يوم أعادها معه سالمًا.

-   

بعد عدة أيام عادَ إلى حقل القانون الذي أحبه بحيث لم تقوَ ساحة النضال على إبعاده عن متابعة كل جديد في حقل القانون، كأنه طبيب تعوَّد على متابعة الأدوية المنتجة حديثًا من أجل صحة مرضاه، فكانت له فرصة جيدة بفتحه مكتب محاماة في (الشارع/ 52) قرب (ساحة الواثق) في العاصمة (بغداد). استطاع العمل كمستشار قانوني لشركات وطنية وعربية وأجنبية، لم يهنأ طويلًا بعودته إلى مهنته وبغداد قد بدأت تدخل مرحلة القتل على الهوية، حتى أخذت بغداد (مدينة السلام) تصطبغ صفحات أيامها بالدماء، بينما دموع الأمهات تسيل حزنًا على فلذات أكبادهنَّ!

 

كان المحامي فرحًا بعودته إلى عمله وهو يمارس اختصاصه، بل كان المكتب يورد إليه دخلاً سمينًا! لكنه لم يهنأ، وعلى أثرها فقد عمله الذي ذرف عليه بعينه اليتيمة الكثير من الدموع وهو يغلق باب مكتبه أمام موكليه وطارقي باب مشورته القانونية، بسبب رسالة تهديد دُسَّت من تحت باب مكتبه.

 

اتصل ببعض زملائه الأَشُّوريين ليطلعهم على الأمر، نصحوه بالانخراط في العمل السياسي. وبينما هو في خضم اتخاذ القرار، استجد أمرٌ مفجع، إذ سقطت أمه مريضة طريحة الفراش.

 

أصبح يجلس لساعات طويلة في النهار والليل عند رأسها وهي ممددة على السرير، ينقل أنظاره بينها وبين والده الذي بدا حزينًا عليها. كان يصلي صامتًا، بل يتكلم في قلبه إلى الله وهو يشكو له حالته دون أن يتذمر أو ييأس، وإن بدت ملامح الحزن على وجهه الحِنطي.

 

لم ينسه الله، لقد أرسل لوالدته المريضة قارب النجاة على يد الصليب الأحمر الإيطالي (Italian Red Cross) ليتم علاجها في أرقى مستشفيات مدينة بادوفا (Padova) الإيطالية؛ فتعود وقد تشافت من مرضها.

 

وجد أن وضع بغداد أصبح ينتقل من سيء إلى أسوأ، وهي تفقد السلام والأمان وتغرق في مستنقع التفجيرات، وتصطبغ مياه نهرها الخالد بدماء أبناء الرافدين.

 

لم يمكثوا طويلًا في بغداد، فحملوا كل متاعهم دون أن ينسوا آلة الكمان، ونزحوا ليحط بهم مركب النزوح في مدينة (عينكاوا) التي كان يزورها في سنوات شبابه، أيام كان طالبًا جامعيًا يقضي العطلة الصيفية فيها بين أقربائه، وكانت المدينة تسمى وقتها (باريس العراق)! وهي مدينة صغيرة ضاهت في ثقافتها مدينة (بيروت) التي سميت هي الأخرى (باريس العرب). لقد استحقت مدينة عينكاوا تلك التسمية الثقافية التي لو كانت قد أطلقت عليها في غير وقت حكم الدكتاتور، لكانت تستحق أن تكون مدينة الثقافة الأولى في بلاد ما بين النهرين، إنها جميلة في عيون أبنائها المواظبين على دراستهم وتعليمهم، وفي عيون بناتها وهنَّ يبحثنَّ عن كل جديد؛ وكأنهنَّ ورود وأزهار يؤدينَّ الـ(بياسا) في الشارع المحاذي لـ(كنيسة مار يوسف).

 

حصل المحامي في غضون عدة أيام على وظيفة مستشار قانوني لإحدى الشركات التجارية. طلب مدير الشركة أن يتولى مسؤولية الشؤون القانونية فيها، لذلك أصبح كل أيام العمل الخمسة في الأسبوع يداوم في قسم الشؤون القانونية التي أصبح يُديرها. في ظهيرة يوم من أيام صيف سنة 2013، بينما هو جالس إلى جانب سائق مركبة الشركة التي تقله كل يوم ما بين بيته والشركة ذهابًا وإيابًا، عادت به مخيلته ربع قرن إلى الوراء، ليرى بعين مخيلته وهو يسير على ضفة نهر دجلة، في (كورنيش الأعظمية) يحمل حقيبة الكلية بنشاط وحيوية وفرح وسعادة، عائدًا سيرًا على الأقدام إلى القسم الداخلي، بعد أن تناول شطيرة (فلافل) كوجبة غداء.

 

أدار السائق مقود الراديو ليقف به على موجة صدحت منها مذيعة تذيع باللغة الأم عن تقديمه معزوفة موسيقية، اندهش عندما لم تُفصح المقدمة عن اسم مؤلف المعزوفة! إنه يعرفها وقادر على تمييزها من بين مئات المعزوفات، إنها من معزوفات أمه.

 

قطع مخيلته كي يصغي بهدوء حتى نسي نفسه فصار يدندن معها، لاحظ السائق جريان دموعه، على الفور سلَّ منديلًا ورقيًا وأعطاها له، شكره المحامي بهزة من رأسه وهو يمسح دموعه.

 

وضع السائق علبة المناديل أمامه أعلى واجهة المقاييس، لما رآه يبذخ دموعه بكرمٍ. وما أن وصلت المركبة أمام باب منزل والديه حتى كانت المعزوفة قد أشرفت على مقطعها الأخير.

 

لم يتركها، إذ لم يغادر مقعده في المركبة إلى أن انتهت، لتطل المذيعة مفصحة:

-    هنا (إذاعة صوت الناس).

-   

ظل المحامي مواظبًا على سماع ذلك البرنامج الذي كانت معزوفات أمه تطل منه كل ظهيرة، بينما هو خارج من دوامه في طريق عودته إلى البيت على متن مركبة الشركة، وتعوَّد السائق أن يضع علبة المناديل الورقية أمامه أعلى واجهة المقاييس، خشية على عينه الوحيدة من بكائه.

 

في مساء يوم لطيف الطقس جلس يتابع قناة عشتار الفضائية، وإذا بالمذيعة تعلن عن تقديم برنامج (طبيبك على الهواء)، على الفور اتصل بالمقدمة وشرح لها حالة بكائه، نصحه الطبيب بمراجعة طبيب متخصص بالعيون لكي يكشف على عينه اليتيمة خشية من أن تصاب بداء الماء الأبيض، وقد يتطلب الأمر إجراء عملية جراحية، فقال له:

-  بشرط أن تعيد النظر لكليهما!

-    مستحيل! إلا إذا أراد الله.

بسبب مشاغله الوظيفية أهمل عينه ولم يراجع الطبيب الاختصاصي، وظل مع حالته هذه في كل ظهيرة لعدة أشهر؛ يستمع ويبكي. تصور أن الماء الأبيض سيملأ عينه اليتيمة لا محال، بسبب بكائه وهو يستمع إلى معزفات أمه من خلال إذاعة صوت الناس. قرر بدون مراجعة الطبيب الاختصاصي، رفع دعوى ضد مدير الإذاعة.

 

لائحة الدعوى:

السيد رئيس محكمة الجزاء الموقر

المدعى عليه: مدير إذاعة صوت الناس إضافة إلى وظيفته/ العنوان الدائم- عينكاوا محلة دركه.

لقد عملت إذاعة صوت الناس لمدة ما يقارب السنة ولا زالت على التسبب في بكائي، وأنا أستمع كل ظهيرة إلى معزوفة من معزوفات أمي من خلال موجتها.

قاطعه نائب المدعي العام، قائلًا بحزم:

-    الإذاعة تبث لكل الناس وهذا ظاهر من اسمها، يعمل منتسبوها من أجل رفاهية المستمعين وليس الأضرار بهم، كان عليك أن تطفئ المذياع لكي لا تتضرر عينك كما تدعي أمام المحكمة. أو كان عليك أن تلجأ إلى القانون لحماية حقوق حفظ المعزوفات الموسيقية لوالدتك.

-    لم أقدر أن أطفئ المذياع لأنني كنتُ أستمع إلى معزوفات أمي، لذلك لم أقوَ على إغلاق المذياع ولا على إغلاق مسامعي، ثم أنها مسالة مشاعر وأحاسيس!

-    لماذا لم تقدر أن تفعل شيئًا لمن حملتكَ وأنجبتكَ وربتكَ. أ لست رجل قانون؟

-    الاستماع لعملها الموسيقي جعلني أنسى عملي كرجل قانون. كذلك لم ألجأ إلى القانون لحماية حقوق حفظ مؤلفاتها الموسيقية، خشية أن تقطع الإذاعة بث معزوفاتها. أنا هنا لكي أُحَمِّلَ الإذاعة مسؤولية إصابة عيني اليتيمة بالماء الأبيض! "وهو يشير بسبابته إلى عينه اليسرى.".

 

أجابه نائب المدعي العام بعد أن إستأذن من القاضي:

-    دعنا نتحقق من إصابة عينك كما تدعي، بعرضك على طبيب اختصاصي في معالجة العيون.

وافق القاضي على طلب نائب المدعي العام، وتم تأجيل النظر في الدعوى إلى يوم محدد.

حضر الخبير الطبي في يوم المرافعة ليقرأ على المحكمة فحوى تقريره:

-    ظهر من خلال الفحص الطبي على المدعي في مستشفى الفنانين للعيون، بأنه فاقد البصر كليًّا في عينه اليمنى، أما عينه اليسرى فهي سليمة وغير مصابة بالماء الأبيض ولا أثر لقطرة واحدة بمقدار الندى تدل على الإصابة!

 

عندها تدخل الوكيل العام لمدير إذاعة صوت الناس إضافة لوظيفته والحاضر كمحامي دفاع، قائلًا:

-    إن ما فعلته إذاعتنا للمدعي بالحق المدني، هو كما يفعله الطبيب الاختصاصي في علاج مرضاه، لذلك نُطالبه أمام محكمتكم بمقدار مبلغ العملية الجراحية لو كانت قد أُجريت لإزالة الماء الأبيض من عينه. يبدو من كلام المدعي بأن عينه اليسرى مصابة فعلًا بداء الماء الأبيض قبل أن يستمع إلى إذاعتنا، وبعد أن استمع إليها شفي من إصابته. أسأل محكمتكم الموقرة، أ لا يحق لموكلي إضافة لوظيفته بمطالبة المدعي بكل مصاريف العملية الجراحية كأنها قد أُجريت له وتحميله كافة أتعاب المحاماة؟

 

قبل أن يجيب القاضي، طلب المدعي إذْن المحكمة ليقول:

-    كنت قد رفعت دعواي لأمر ما، لكن يبدو أن أمرًا جديدًا قد ظهر للعيان. أنا مدين للمدعى عليه بما يدعى وكيله والإذاعة مدينة لأمي بحفظ حقوقها كمؤلفة موسيقية، لطفًا انسوا أمر عيني وأذكروا حق أمي.

 

قال وكيل المدعى عليه:

-    ما المطلوب؟

-    أن تذكر المذيعة اسم أمي كلما قدمت إحدى معزوفاتها، وأنا بدوري سأوفي أتعاب المحاماة ومصاريف القضية. يكفي أن عيني اليتيمة قد تشافت إن كانت قد أصيبت بداء الماء الأبيض بحسب قرار الطبيب الاختصاصي.

 

أجاب المحامي وكيل المدعى عليه مدير الإذاعة موجها كلامه إلى القاضي:

-    علمت قبل دخولي قاعة المحكمة بأن المدعي إضافة إلى أنه محامٍ، هو أديب يغني بمقالاته العديد من مواقع الشبكة العنكبوتية، أرى أن الإذاعة ستحتاج إلى موهبته، لذلك أقترح عليه أمام محكمتكم الموقرة عوضًا عن أن يدفع مصاريف الدعوى بأن يعمل مساء كل يوم من أيام العمل الخمسة في الأسبوع في الإذاعة لمدة سنة كاملة، حيث يقدم مقدمة نثرية قبل أن تبدأ إحدى معزوفات أمه.

 

عرض القاضي المقترح على المدعي لاوندو شليمون وردة، فوافق عليه، ثم قال الحاكم له:

-    لقد كسبت الدعوى أيها المدعي والمحامي وحصلت على حماية لحقوق بث المعزوفات الموسيقية لوالدتك من خلال إذاعة صوت الناس، كما تيقنتَ مطمئنًا من عدم إصابة عينكَ بداء الماء الأبيض.

 

أصبح اليوم يستمع المستمعون في مساء خمسة أيام من الأسبوع إلى السيد المحامي والأديب وهو يطل بكلمات شعرية شفافة كمقدمة لكل لحن معزوفة موسيقية؛ تكاد ترتقي إلى مستوى السمفونية؛ ألفته أمه يُبث من خلال إذاعة صوت الناس.

 

المحامي والقاص

مارتن كورش تمرس لولو

ملاحظة: القصة مستنبطة من واقع عشته شخصيًّا، مع تقديري لكل إذاعة في الوطن تتميز ببرامجها المفيدة ثقافيًّا.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.