اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

Beez5

أوراق "مؤيد نعمة"... أقوى من بشاعة الحكام!// محمود حمد

محمود حمد

 

عرض صفحة الكاتب 

حكاية ونَص:

أوراق "مؤيد نعمة"... أقوى من بشاعة الحكام!

محمود حمد

 

الحكاية:

في مطلع سبعينيات القرن الماضي، عندما حضرت للعمل في جريدة (طريق الشعب) قبل صدور العدد (صفر)، أبلغني الأصدقاء أن هناك رفيق لي يشاركني طاولة العمل، ويختلف معي في أوقات الحضور... يأتي ويخرج قَبْلي عادة... ولا يترك أثراً منه سوى أحاديث رفاقه عن حدة ذكائه وسرعة بديهته وهدوئه!

 

ذات مساء اقتضت حاجة العمل أن احضر مبكراً، فالتقيت (مؤيد نعمة) ... شريكي بالطاولة!

كنت اتأمل بإعجاب ما يرسمه (مؤيد) للجريدة كل يوم قبل أن تُرسل تلك الأبجدية النقدية التشكيلية المتحركة بقوة من سطح الورق إلى مِرجَل التَفَكِّر عند من يُصغي إليها ببصيرته، لأن المرء يجد في تلك الرؤى والمواقف الكامنة في الرسوم تعبيراً عن دواخله واحتياجاته ومواقفه، التي يعجز عن صنعها بنفسه، او حتى التفكير بها بهذه الجرأة، أو بهذه اللغة التشكيلية الفائقة الرقة، الشديدة العصف!

 

عندما عرفت أن (مؤيد) خَزّافاً، رحت استحضر من مخزون معرفتي مديات إبداع كُلٌ من الخَزّافين الكلاسيكيين والمُحَدِثين، بمن فيهم... أكثرهم جرأة على تفكيك المفاهيم والذائقة الشكلية للمنتج الخَزفي، فكانوا يصطفون في مخيلتي على هيئة مجموعتين:

الأولى: أولئك الذين أبدعوا في صنع ما ينفع للاستهلاك بصبغة جمالية فائقة الإتقان...

والثانية: الذين أبدعوا في تقديم لوحات فنية تشكيلية تُعَبِّرُ عن مفاهيم وأشكال جمالية تثير الدهشة، لكنها تبقى مُحَتَجزة في قاعات العرض الفارهة دون أن تنفع المستهلك الثري أو الإنسان البسيط!

لكني وجدت في (خزف مؤيد) مالم اجده عند غيره...

هو ذلك (الفن التحريضي الساخر) المفعم بخصب الجمال وقوة التأثير على بصيرة المتلقي، (خزفٌ) ذو طاقة إبداعية تفرض رؤيتها على فضاء المكان، وتستقيم ثراءً في حركة الزمان، وترسخ في الذاكرة!

****

عندما زلزل الاستبداد حياة العراقيين وأطلقت السلطة (غزوتها!) على المختلفين معها، ووضعتهم في مفترق الاختيار بين جحيمين:

إما الإذعان لاحتلال عقولهم وتجريدهم من مقومات حريتهم، أو قطع رقابهم!

 

تشتت الجَمْعُ، وتَقَطَّعَت سبل التواصل بين الأصدقاء، وصاروا مُبَعثَرين بين ذَبيحٍ على الرصيف، أو مُختطفٍ من الطرقاتِ، أو مَفقودٍ في مَجاهل أقبية تعذيب السلطة، أو مُشَرَّدٍ في المدن التي يستوطنها العسسُ، أو مُختبئٍ تحت الأرضِ، أو مهاجرٍ يُقتَلُ عند الحدودِ!

 

في خضم هذا الرعب والشك وانعدام الثقة المتفشي بين الناس وفي النفوس، التقيت بـ(مؤيد) بالصدفة في الطريق، كـ (طريدين تلاحقهما ذئاب السلطة!)، وجلسنا تحت فيء نخلة بعيداً عن عيون الرقباء نستعرض أسماء من فُقِدوا من الأصدقاء ومصائرهم، نتفكر بالبحث عن منافذ للإفلات من (طوق إرهاب السلطة!) التي تَكْمُنُ لنا في كل مكان، أملاً منا في الخلاص وعوائلنا من كُرَةِ نار الاستبداد المتدحرجة!

 

رغم غبار الإحباط الذي تلبد على ذلك اللقاء، ألاّ أن (مؤيد) لم يفقد روحه المرحة وهدوءه الصوفي المَهيب ومفردات نقده اللاذعة!

****

بعد انقطاع ما يزيد عن عشر سنوات عن ذلك اللقاء... عرفت أن (مؤيد) مازال في بغداد يجترع وأسرته مرارة الحصار ويواجه بروحه الرقيقة توحش السلطة!

فقررت زيارته...

استقبلني (مؤيد) بحفاوة واندهاش، لأنه كان يحسب أني في عداد الموتى!

 

رغم التحفظ والتردد الذي عادة ما يشوب لقاء صديقين (مطلوبين للسلطة!) بعد انقطاع طويل في مثل تلك الظروف الملوثة بالتسقيط والتخويف والتجويع والوعيد، التي أشاعتها السلطة بين الناس وحتى بين الأسر:

سلوكيات الشك بالآخر، والتواطؤ مع السلطة للغدر بأقرب الناس للمرء، وخيانة العقل لذاته، والإذعان لعبادة (الصنم القائد!)، والضعف أمام وعود الجلادين ووعيدهم!

كان اللقاء حميمياً... تاركين خلفنا أوجاع السنوات المنصرمة وعيون الرقباء خارج جدران المنزل... يحكي لي (مؤيد) بمرارة بعض ما وجده من عسف بحقوقه، وابتزاز لجهوده، وامتهان لكفاءته خلال رحلته اليائسة البائسة إلى الأردن، مما اضطره للانكفاء والعودة إلى رمضاء بغداد، بعد أن أكتشف أنه استجار بالنار!

****

منذ ذلك اللقاء... لم تمضِ أوقات عليَّ لم يكن (مؤيد) حاضراً معي فيها في غربتي، يطرق علي النافذة في ليالي القحط المظلمة، ليضيء لي عتمة النفس برسومه الناقدة النافذة كالسهام مخترقة جدار الزيف الحالك إلى فضاء الحقيقة!

كنت امني النفس أن التقيه مرة أُخرى بعد زوال (الغُمَّةِ)... كما كان (مؤيد) يُكَنّي (السلطة)!

لكن (مؤيد) باغت الجميع ورحل!

وبقيت(أوراقه) تحكي لي فكتبت:

أوراق "مؤيد نعمة"... أقوى من بشاعة الحكام!

العالم يسخرُ مِنّا ...

و(مؤيد) فينا يسخرُ من هذا العالم ...

كنا نتحاور حول صحائف بردي ...

قبل قدوم العصر الدموي!

ننقب عن درب في جوف الليل الغامض ...

يقطعه حقلُ الألغام ...فحيحُ العسس الكامن بين الجدران!

نقطن في عش "العقرب" ... (1)

تحرسنا الأوهام ...

وأحداقُ "أبو شمخي"! (2)

يسأل "سعدون" (3) أنى نعطي وجهتنا ساعة يسري الدفء بأوصال الأفعى؟!

لحظة تلدغنا "العقرب"؟!

****

ويجيب (مؤيد):

نصنع من صوت الريح سفينا تنجينا من هذا الطوفان الدموي الزاحف ...

أو نكتب شعراً في تأبين الأحياء!

****

امرأةٌ من بابل هجرت جدران الألواح الطينية ...

تغوي جلجامش ...

تطلب ثوراً مجنونا من "آنو" ...

ليعيث فساداً في أرض النهرين!

يغمرها الغيم البارد ...

وَخْزاتُ (مؤيد) ...

تنهض خالية من آثام الرحلة ...

تُنشئُ عشقا ...خصبا ...

في (أوراق مؤيد)!

*****

طفلٌ عريانٌ من حارات "الكوفة" ...

يفلت من أكداس الموتى عقب سقوط الحلم الجارف ...

يسأل أرتال الحُفَرِ الصارت وطنا للأهل ...

يتيبس برداً ...

يبحث عن حضن في هذا الكون القارص ...

يلقاه حميماً ...

شمساً ...

في (أوراق مؤيد)!

****

سلطانٌ من قيح... جائر ...

يُفقئُ أحداق التاريخ بنصل الزيف ...

يبقر أحشاء الوطن المقبور بعرشه ...

يكتم أنفاس الأحزاب السرية ...

والقطعان العلنية ...

يسقط مفضوحا ...

في (أوراق مؤيد)!

****

عاشقةٌ من جلمود "كلالة" ...

خُطِفَت من عَبِق الحِنّاء إلى عرض الصحراء ...

تولول ...

تسأل عن جرح يؤويها ...

ترقد آمنة ...

في (أوراق مؤيد)!

****

جريدٌ من نخل البصرة مفجوع ...

يحمله "الزنج" ضلوعا للثورة ...

مهدا للحلم المائر في أكواخ الفقراء ...

يصير رفيفاً ...

نسغاً ...

في (أوراق مؤيد)!

****

شمسٌ يافعةٌ تبزغ ...

في أحداق الصبية ...

شفقاً لزمان ممطر ...

يحجبها ليل المحتلين النازف ...

يُطفئُها غيم البترول الحمضي الحالك ...

تتلألأ ...

تسطع في (أوراق مؤيد)!

****     

دروبٌ للفجر الباسم بين شفاه الأطفال الرضع ...

تسري في أرواح الفقراء ...

يقمعها البارود اللابس لحية ...

وفتاوى الدجالين المكفوفين ...

تمسي سالكة في (أوراق مؤيد)!

****

حقلُ زهورٍ يتضوع من أنفاس صبايا "عنه" ...

يرشف خيراً من ناعور “حديثة" ...

يرسل وِداً للمدن المعلولة جنب النهرين ...

يصبح شعراً فوق حفيف الماء بـ “خور البصرة" ...

يتكاثرُ نخلاً في (أوراق مؤيد)!

****

فلاّحٌ تائه من أبناء الغراف ...

بخوف يسأل عن أحوال العنبر في ذاكرة الجوعانين ...

رغم حفيف الألغام المكفوفة بدبيب خطاه ...

يتعبُ ...

يغفو بعد هجير الرحلة ...

في (أوراق مؤيد)!

****

أقوامٌ تخرجُ في الصبح جهاراً ...

تهتكُ أستار السلطة ...

تفضحُ عورتها ...

توقدُ غيظاً في صدر المدن المفجوعة ...

لتعود إلى (أوراق مؤيد)!

 

(1) كان مبنى "دار الرواد" حيث تطبع (جريدة طريق الشعب) في سبعينات القرن الماضي ايام كنا نعمل سوية، ملاصقا للغرف السرية في مباني مديرية الأمن العامة، حيث يغيب أصدقاؤنا كل ساعة خلال تلك الأشهر التي امتدت عقودا!

(2) أبو شمخي: الفلاح "المجهول" الأمين والشجاع...الذي تمسك بحراسة "دار الرواد" حتى لحظة غزو الوحوش واستباحة المطبعة. فيما هجرها غيره من اللامعين والمشهورين!

(3) سعدون: ذلك الشاب الموهوب المتقد صمتا، ومهارة، وصراحة، وحزما. الذي كان ملجأنا ومنقذنا حين تخوننا المكائن في المطبعة أثناء الشروع بطبع الجريدة. والذي اختطفه وغيبه عنا وحوش سلطة (الموت المتناسل) و(الشعارات المجوفة)

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.