اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

Beez5

(بشت ئاشان) .. ليلة الغَدْر.. وما ادراك ما ليلة..؟!// محمود حمد

محمود حمد

 

عرض صفحة الكاتب 

في الأول من أيار...

(بشت ئاشان) .. ليلة الغَدْر.. وما ادراك ما ليلة..؟!

محمود حمد

 

في زيارته لي ليلة أمس طلب مني (ياسين) أن استقبل رجلاً (اعرفه!) جاء من طرف أخيه (غمبار)... سيأتيني تلك الليلة الممطرة طالباً المأوى من (ذئاب السلطة!) ... قائلاً لي:

إنها تطارده من حارة إلى أخرى، منذ نزوله من سفح الجبل الوعر إلى الوادي الممتد إلى أحشاء المدن السهلية!

 

لم يجرأ أحد أن يفتح باب الدار لغريب يحمل أثقال الرحلة من مدن تبغضها السلطة، لكني المثخن الجراح من أسفار الدنيا... أيقنت أن الرجل اللاجئ من مدن اعشقها... لابد أن يكون رسولاً ينقل أخباراً تُخرجني من كهف العزلة ونياب اليأس!

 

وقف الرجل (اللابس فروة عنز!) برفقة (ياسين) منهكاً على عتبة المنزل يتأمل وجهي الشاحب المثقل بالهموم وغبار الجدران المنخورة بنزوات الجرذان... لم تكن ملامح الرجل المُخَبأ تحت جلد العنز غريبة عليَّ... ما أن حسر رأسه حتى عانقته بحرارة وصحت بصوت الشوق المخنوق:

(صالح)؟!

دعوته للدخول مع (ياسين) إلى المنزل بشغف المنتظر علاجاً يشفيني من الأوجاع المجنونة التي تنتهك أوصالي، وتستوطن قرارة صدري من فرط الخشية من عيون الرقباء التي تخترق حرمة المنزل ليل نهار طيلة سنوات عسيرة!

 

سألته عن أخبار صديقنا (مفيد وزوجته) الذين فُقِدا ليلة استباحة مسلحي (الاتحاد الوطني الكردستاني) الذين هاجموا مقرات (الأنصار الشيوعيين) في منطقة (بشت ئاشان) في الأول من آيار عام ألف وتسعمئة وثلاثة وثمانين... طأطأ رأسه وشحب وجهه ومسح دموعه بظاهر كفه حابساً صفيراً ونشيجاً في الصدر.

 

اكتفى باستعادة ما قاله كريم احمد (عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي) آنذاك:

     اوصى "نوشيروان مصطفى" مسلحيه... (خلوا وراكم حصادكم نظيف... لا تتركوا شيء ... اقتلوا كل من يصادفكم)!...

ويضيف كريم احمد:

     (كان القتل ضد الرفاق العرب بالأساس... وليس الاكراد... الاكراد كانوا يُعتقلون ما يُقتلون... الرفاق العرب كانوا يُقتلون رأساً... النساء والرجال... حقد شوفيني قومي ضيق)!

وصف لهم (صالح) تلك الساعات:

يومها كنا نتهيأ للاحتفال بعيد العمّال العالمي...

 

قُتِلَ خلال ذلك الهجوم المباغت علينا ما يقارب من مئة (نصير) معظمهم من أهالي بغداد ومحافظات الجنوب، وتشرد مئات منهم، ضاعوا في تضاريس الجبال ومنزلقات الثلوج، أو عند حدود الوطن الملغومة مع إيران، ووقع غيرهم في أسْرِ مُطارِديهم بعد أن تقطعت بهم السبل، ليتم إعدامهم رميا بالرصاص على الهوية، لكونهم من (العرب!) رغم أنهم كانوا مع قاتليهم في خندق واحد لمحاربة السلطة المستبدة!

 

سألته عن (أنور) (1) صديق الصبا ورفيق دراسة (المعرفة الممنوعة) ... الذي كان معهم في ذات الخندق لحظة الهجوم عليهم، وفَرَّقَتهم زخات الرصاص...

 

روى لنا(صالح):

ان (أنور) همس بأذنه في تلك اللحظات الحرجة التي بددتها لعلعة الرصاص... قائلاً له:

أرادوا لقتلنا أن يكون عربونا لبدء مفاوضاتهم مع (نظام البعث) في بغداد!

وأضاف (صالح):

في تلك الليلة الحالكة الظلمة لاح لنا (أنور) من بعيد حاملاً بندقية الكلاشينكوف ... متسلقاً الجبل الوعر... مُثقلاً بأمتعته وكتبه واوراقه باتجاه كوة يفضحها ضوء القمر المختبئ في الجانب الآخر من الجبل المعانق للغيم... يباعد بين ساقيه في صعوده بين الصخور متكئاً تارة على كعب بندقيته وتارة أخرى على الأسنان الصخرية التي يتستر بها من عيون مُلاحِقيه خلال انسحابه من الموقع الذي أشعل فيه المسلحون نيران رصاص بنادقهم بعد استباحته!

لَوَّحَ لنا من بعيد بحركته المسرحية الممازحة... مثلما عودنا عند افتراقه عنا في استدارة نفق (محطة مترو بوشكينسكايا) أيام تلقينا (المعرفة الممنوعة) في موسكو معاً!

كنا (أنور) وانا من مدينة فقيرة واحدة، وانحدرنا من طبقة مسحوقة واحدة، وانخرطنا في تنظيم مُلاحَقٍ واحدٍ!

 رغم الجفوة الظاهرية بيننا التي فرضتها بيئة علاقات العمل معاً، الا اننا كنا نكن الود والاحترام لبعضنا ونعبر عن ذلك في خلوتنا...

 

ذات نهار مُثلجٍ عام سبعة وسبعين وتسعمئة والف تحدث (أنور) بحرارة وحماس واعتزاز عن ("العريف حسن سريع" ورفاقه وانتفاضته... أمام القادمين إلى موسكو والمجتمعين تحت سقف واحد من أكثر من مئة بلد لمناسبة يوم العمال العالمي)...

يومها وضع لهم (انتفاضة "حسن سريع" في تيار "الثورات العفوية") التي يُفَجِّرُها الفقراء عبر التاريخ في معظم قارات العالم!

 

سرد لهم قصة ذلك الفلاح المُتَنَوِّر الثائر على سلطة عاتية تقف خلفها قوى الظلام والظلم في كل مكان من العالم... ذلك (البطل الشعبي) الذي استقر في ذاكرة الناس رمزاً لـ(البطل المجرد من السلطة غير سلطة إرادته ووعيه وسخطه على الظلم)!

 

اعتصر قلبي الحزن عندما تذكرت ذلك اليوم القارس البرودة في نهاية عام ألف وتسعمائة وثمانية وسبعين عندما حضر (عضو المكتب السياسي... أبو حازم)، والتقى بعدد من الطلاب والمغتربين العراقيين اليساريين ومنهم (أنور) و(صالح) وانا في موسكو... كانت دماء تسعة وثلاثين من العسكريين اليساريين الشباب مازلت مضطرمة على منصة الإعدام رمياً برصاص (حكومة البعث في بغداد) ... فيما تحدث (أبو حازم) بإسهاب وحماس للحاضرين المفجوعين بمقتل اصدقائهم... عن:

أهمية اتفاقية الصداقة بين الاتحاد السوفييتي و(حكومة بغداد)!

يومها كان (صالح) أكثر المتحمسين لحديث (أبي حازم) وأشدهم صرامة في الرد على المتسائلين والمنتقدين والمستائين!

 

خرجت و(أنور) من القاعة متذمرين ساخطين مكممي الافواه من ذلك اللقاء، فصرنا منبوذين من "رفاقنا!"... وكان (صالح) يواجهنا بملامح حادة قاطعة جارحة كلما التقانا!

 

لم تتغير ملامح وجه (صالح) الفولاذية تلك رغم مضي ما يقرب من عشرين عاماً على ذلك التاريخ، سوى غزو الشيب لشاربيه الكَثَّين واصفرار سحنته المتغضنة...

 

قبل أن يهم (صالح) بالخروج... تفحص وجهي المُتعب الشاحب... مخاطباً إياي بنبرة مُشفقة، وكأنه يُحَدِّثُ نفسه:

عرفت من صديقك (ياسين) إنك في ضائقة مالية منذ سنوات طويلة وعانيت الكثير في اختفائك من عيون السلطة، وليس لك مورد عيش لأولادك ولزوجتك، ففكرت أن أساعدك بمورد مضمون دون أن تخرج من البيت وتُعَرِّض نفسك وأسرتك للخطر!

لهذا جئت اليك بعرض:

(كتابة اخبار... اية اخبار عن جرائم السلطة في بغداد... لـ"إذاعة المعارضة" مقابل 100 دولار للخبر الواحد!) ...

وكرر اكثر من مرة وهو يبتلع ريقه بصعوبة:

(اية أخبار)!

 

احتضنته بحرارة وَوِدٍّ... وهمست في أذنه:

أنا أعرفك جيداً... وواثق أنك غير مقتنع بما تفعل يا(صالح)... لا شك أنك مدرك إن مِعول التلفيق لن يخدش النظام أو يهدد ملذات أزلامه... بل يهدم الوطن ويفتح الكهوف المظلمة ليستبيح منها الوحوش حياة شعبنا ووجود وطننا... فـ (دولارات الأخبار المزيفة... وأسعار الكذب المستتر... وخلط الحقائق بالأكاذيب) تخلق دخاناً تستخدمه السلطة لنفي أخبار الجرائم الحقيقية التي ترتكبها... فعندما تنفضح الأخبار المزيفة تلتبس أخبار الأفعال القمعية الملفقة المنسوبة للسلطة بأخبار جرائمها الحقيقية.... وسنخسر ثقة الناس بنا وبمصداقيتنا! 

 

خرج (صالح) خائباً يجر ساقيه كالكسيح... دون وداع... وتوقف فجأة عند الباب وعاد إليَّ محتضناً إياي بحرارة وصمت وقد اغرورقت عينانا بالدموع!

 

بعد أسبوع جاءني (غمبار) ووقف عند الباب معتذراً عن الدخول... وقال لي بصوت ناشج:

أُختُطِفَ (صالح) من قبل جهة مجهولة أثناء العودة إلى كوردستان!

****

لم تتوقف (حبيبة أنور) ... على امتداد اربعين سنة عن البحث عنه وانتظاره... لا تريد تصديق ما تسمعه عن موته... عسى أن يعود إليها!

اواسيها بترانيم نازفة من شغاف قلبي دون أن ابوح لها بها:

عسى أن تفشي الثواني المُعتَلَّةِ الآخر للدقائق الخرساء أسرار الناس الغائبين في الأمكنة المجهولة...

يتردد صوتها المثقوب في حنجرة الأرض...

يَخرجُ "أنور" من ثقب في رأسهْ...

دخلت منه رصاصة غَدرٍ قَبْلَهْ!

يتسلق كثبان الذاكرة الصخرية...

يتَشَبَثُ بالغيم العاهر!

يبحث عن نظرتها المحزونة...

بعد غياب العينين إلى مقبرة الوقت!

يُمسك أذيال الأصوات المفزوعة في سبع سماوات الله

تُطلقها أفواه الموتى!

من فرط الضجة يصنعها المحتفلون القَتَلَة بالنصر عليه!

يتعثر في درب الرحلة إلى مملكة الأروح!

 

(1) (أنور) الشهيد (كاظم طوفان)، الذي استشهد في جريمة الغدر على يد مسلحي الاتحاد الوطني الكردستاني في (بشت ئاشان) بالأول من آيار عام 1983.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.