اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

Beez5

رواية (ذاكرة التراب)- (الفصل الثاني): حكيم العقارب!// محمود حمد

محمود حمد

 

عرض صفحة الكاتب 

رواية (ذاكرة التراب)- (الفصل الثاني)

 حكيم العقارب!

محمود حمد

 

تَفَرَّقَ (قطيع الأطفال والصبيان) وانقطعت (دوخة) عن المدرسة، ولا أخبار عن أختها (مُزْنَة)... كانت آخر مرة رآها فيها "عروة"، عندما تسللت من كوة في سور المقبرة نهار الجمعة لتوديع أخيها (عباس) عند قبره إثر إزاحة الحكومة لأكواخهم في (الخرابة)، وبدء رحلة تشرد جديدة للعوائل الفقيرة التي ينتهشها الإملاق!

 

فوجئ بها من بعيد مُنكبَّة على القبر تنوح...وقد قَطَعَتْ جديلتيها الغزيرتين اللتين كانتا تتراقصان على ظهرها كثعبانين فاحمين يتصارعان كلما هرولت أمامهم، ووضعتهما على القبر، واعتَصَبَت شعرها الأشعث بدشداشة أخيها (عباس) التي غرق بها!

 

عندما رآه (حارس المقبرة) يروم عبور سور المقبرة متوجهاً إليها، زجره ساخطاً وتوعده بإبلاغ أهله إن هو اقترب من المقبرة أو تردد على المستنقع.. قائلاً:

هذه المجنونة...تأتي عند الظهيرة كل يوم تبكي وتُحَدِّثُ أخيها في قبره عن همومها!

 

كان ينوي الإفصاح لها عن سر غرق اخيها عباس حيث كانا معاً يبحثان في المياه الضحلة عن بيض الطيور المهاجرة في اعشاشها العائمة على المسطح المائي، عندما باغتهم (فرهود) ملوحاً لهم بعصاه ومطارداً إياهم، لأنهم أتلفوا الدوشات (كمائن القصب) التي نصبها لصيد الطيور...حينها تمكن عروة من الهرب إلى اليابسة، لكن عباس من فرط خوفه سبح نحو المياه العميقة وغرق! 

 

بعد مغادرتها القبر، سار محدودباً بين القبور، فوجد على القبر طابوقة انتزعتها من سور المقبرة وكتبت عليها بخط يدها بلون سعف النخيل، بذات الألوان الشمعية التي أهداها لها (المعلم عيدي) كأفضل رسامة في المدرسة:

هنا يرقد (أخي عباس)!

عاد إلى كوخهم يعصف به الحزن والخوف والندم!

 

في صباح يوم الخميس من الأسبوع الأول للعام الدراسي الجديد...وبغياب (دوخة) واختها (مزنة)...حملوا "عروة" عاجزاً عن المشي على قدميه المتورمتين بفعل عصا الخيزران التي انهال بها عليه مدير المدرسة البطين (الأستاذ أبو أكرم)...بعدما تطايرت شظاياها على التلاميذ، وهو مُكَتَّف بذراعي (الفراش حلبوص) الرجل الأعور الجثيث ذو الرائحة النتنة، وسط ساحة المدرسة أثناء الاصطفاف الصباحي اليومي بعد مراسم رفع العلم... ألقوه ُعلى الأرض الأسمنتية وسط مناضد طلاب وطالبات الصف الذين أصيبوا بالذعر لحالته ( ليكون عِبْرَةً لغيره!)....كما قال لهم فراش المدرسة حين ألقاه بوحشية على الأرض!

 

تقدمت إليه (أروى) ابنة (الدكتور بهجت مدير الصحة المدرسية) التي تجلس إلى جواره...حاولت مساعدته على الوقوف لكنها لم تقوً على حمله...أدارت عينيها بوجوه الطالبات والطلاب على مرأى من (معلم الدين!) الذي أغلق الباب بجسده المترهل، فهَبَّ إليها الجميع ووضعوه على الكرسي إلى جوارها.

 

قَلَبَتْ (أروى)، صفحات دفاترها التي ملأها لها "عروة" بحقول زهور بلون قوس القزح، وزَيَّنَ لها هوامش كتبها بالطيور الملونة...حيث لا أحد في الصف يمتلك علبة ألوان سواها...لم يُفصح عن اسم الشخص الذي زوده بالألوان لرسم قصصه الخرافية على هوامش (كتاب الدين)، رغم قسوة التعذيب الذي تعرض له!

 

لما عرف المدير فيما بعد أن علبة الألوان تعود لابنة (الدكتور بهجت) ...ابتلع لسانه...خشية من جدها الذي تبرع بقطعة الأرض التي بنيت عليها المدرسة!

 

وقف (معلم الدين الاستاذ نجيب عبد الرحمن) عند الباب متوعداً إياه وغيره إن (أعادوها!) مرة أخرى...

 

لم يقوَّ على وضع قدميه الصغيرتين الحافيتين المُزْرَقَّتين على الأرض حتى نهاية الدرس الأخير...أخرجه (الفراش حلبوص) سحلاً من الفصل وألقاه خارج المدرسة...فيما ركض زملاؤه إلى أهله يخبرونهم بحالته!

 

نهضت (عَمَّتَهُ) العليلة (عوفه الجنديل) من داخل الكوخ مفزوعة وهي التي تولت تربيته منذ ولادته لمرض أُمه بفعل الولادة.

 

حملته بصعوبة على صدرها وهي متقطعة الأنفاس، حتى أوصلته إلى داخل الكوخ...وضعته بجانب أبيه الممدد منذ أكثر من عامين عاجزاً عن الحركة بسبب سقوطه إلى الأرض من مدخنة معمل الطابوق الطيني الذي يعمل فيه...ذلك الحادث الذي نُقِلَ على إثره إلى (المستشفى الأمريكي) في المدينة ليرقد ثمانية أشهر بلا حراك!

 

وبعد أن عجزوا من شفائه...طلبوا منهم:

خذوه إلى البيت ليستريح...

لقد قمنا بكل ما يمكن...

لم يبق سوى دعواتكم له بالشفاء!

 

ذهبت (عَمَّتَهُ) إلى المدرسة لمقابلة المدير، لكن (الفراش حلبوص) واجهها بالزعيق والشتائم ومنعها من الدخول إلى المدرسة...ظَلَّت واقفة أمام الباب والأطفال يدخلون طوابير إلى وسط الساحة... ترقبهم من وراء السياج المُشَبَّك...عندما وصل (معلم الرسم) متأخراً بعد غيبة طويلة قضاها في السجن لاشتراكه بالمظاهرات المستنكرة للعدوان الثلاثي على مصر...سلَّمَ عليها عند الباب وسألها:

ماهي أخبار ولدنا "عروة"؟!

اختنقت العبرة في صدرها دون أن تنطق...شحب وجه المعلم ودخل مسرعاً إلى إدارة المدرسة...لم يتأخر كثيراً حتى عاد إليها وطلب منها الدخول...وقفت عند باب مكتب المدير تتساءل عن:

(الجريمة!) التي ارتكبها هذا الطفل الذي يأتي إلى المدرسة خاوي الأمعاء كل يوم دون انقطاع؟!

بسط مدير المدرسة أمامها كتاباً مُلِئَت حافات أوراقه بالرسوم المتشابكة التي تمتد غالبا لتغطي مساحات من النصوص...صرخ بوجهها:

هل تعرفين أي كتاب هذا؟!

طأطأت رأسها للأرض خوفاً وحياءً...لكنها لمحت صفحات في الكتاب، كالتي تعرفها من (كتاب الله) الذي يتوسده أبيه منذ أن التصق بفراش المرض!

زمجر مرة أخرى مخاطباً إياها:

هذا كتاب الدين...هذا الغبي يعبث به ويشوهه بخرابيشه!

 

كان (معلم التاريخ) يجلس على كرسي قلق في نهاية المقاعد بمكتب المدير مبتسماً لما يجري أمامه، يتبادل نظرات السخرية مع (معلم الرسم) ...هامساً له:

كبار العلماء بدأوا حياتهم يخربشون على حافات الكتب الثمينة، بل والمقدسة!

 

أحَسَّتْ (عَمَّتَهُ) بأن ما كانت تخشاه على ابن أخيها قد تبدد عن روحها...فما يقولونه لا يعنيها...تمتمت مع نفسها بثقة:

أعرفه لا يفعل الغلط...لكنه مشاكس عنيد!

 

لم تمض إلاّ أيام حتى تدهورت حالة (عَمَّتِهِ) الصحية، ورقدت على حصير القصب العاري إلى جوار أبيه!

 

لم يكف عن مرافقة (أمُّهُ) حين تنقلها إلى المستشفى عند انتهاء الدواء، يخبرها الطبيب الإفرنجي بلكنته العربية الطفولية مبتسماً بوجهه، مُرَحباً به وكأنه يوجه الكلام إليه:

 (الحاجَةُ) ضعيفة...فيها فقر دم قوي...تحتاج تأكل طعام مغذي!

 

عادت (أمُّهُ) كعادتها عصر كل يوم من بيت (الحاج هاشم المعمار) الذي انخرطت بخدمتهم منذ أن انقطع (أبوه) عن العمل، تحمل معها قدراً صغيراً (فيه مرق) ورغيف خبز حنطة...لتضعه إلى جوار أبيه...يشير إليها بعينيه أن تعطيه للأطفال الثلاثة...لكنها ذلك اليوم وضعته إلى جوار (عَمَّتِهِ)...مدت (العَمَّةُ) يدها إلى قِدْرِ المَرْقَة بكسرة خبز، نادت عليهم ثلاثتهم، فأحاطوا بها كما اعتادوا، راحت تلقمهم الواحد تلو الآخر...حتى مسحت القدر بآخر كسرة خبز وأطعمتها لـ “عروة"!

 

التفتت الى أُمهِ قائلة:

رائحة الطعام شهية!

 

مع بدء موسم الأمطار...تتساقط البلوى عليهم مِدراراً، فـ (بواري القصب) المتهتكة التي تغطي سقف كوخ البردي) لم تمنع سيل المطر من إغراق الكوخ، وابتلال أسمالهم وأفرشتهم المُهترئة...لم يجدوا مرتفعاً في الكوخ أو خارجه يلجؤون إليه من بركة ماء المطر التي تغمر الكوخ وما حوله!

 

استمر المطر لأسابيع حتى امتلأت (دور الحكومة) غير المكتملة بجوار أكواخهم باللاجئين من سكنة أكواخ (الخرابة)، وهم معهم...لم يبق فِراشٌ أو لِباسٌ بمنأى عن ماء المطر...حتى دفاترهم وكتبهم المدرسية نقعت حَدَّ التَهَرُئِ بالماء!

 

حال سطوع الشمس وضعت أمُهُ كتبهم وأسمالهم على قوصرة جدار المبنى الحكومي بمواجهة أشعة الشمس...عندما جَفَّتْ...وجدوا دفاترهم وكتبهم ملتصقة أوراقها ببعضها!

 

كانوا يتحلقون حول الموقد الذي أشعلته (أُمُّهُ) تحت سقف مبنى الطابوق غير المكتمل الذي احتموا به...يحدق إلى (عَمَّتِهِ) التي ترتعش من شدة البرد ومن رسيس الحمى في عروق جسدها الواهن... شحب وجهها المُتَجَلِّد وبان الوشم على كفها الصفراء النحيفة أكثر زرقة...فيما كان (أبيه) خامداً تحت غطاء الصوف الذي جاء به إليه صديقه (صويحب) وزوجته...ذلك الرجل الضئيل البدن الخفيف الحركة المفعم بالنخوة...الذي كان يعمل مع أبيه في صناعة الطابوق الطيني بمعمل (الحاج غازي) أقارب (سِعْدة) التي أخذت (الخرابة) كنيتها من اسمها!

 

أمضى (صويحب) وزوجته ساعات طويلة حتى المغرب يحاول إسماع صوته لأبيه دون جدوى...تحدث مع (أُمهِ) عن (عَرّافٍ ذو كرامات!) يشفي العليل بطبابةٍ مُجربةٍ، فقرروا نقل أبيه في صباح اليوم التالي إلى (حكيم العقارب!) في الطرف الآخر من مجمع الأكواخ الذي أغرقته مياه الأمطار...ذلك (العارِفُ!) الذي يتداول سكان الأكواخ الغارقة الأخبار عن:

عِلْمهِ الغزير!

و(سِرِّ مكانته عند الله!) ...

لهذا:

غرقت كل الأكواخ والصرائف في (الخرابة) حول بيت (حكيم العقارب) دون أن تستقر قطرة ماء واحدة على سقف (كوخه) طيلة أيام المطر!

 

لم يتحرك "عروة" من فراشه للذهاب إلى المدرسة ذلك اليوم، مُدَّعياً المرض لكي يرافق أبيه إلى (حكيم العقارب)!

 

كان طابور الباحثين عن الشفاء طويلاً حول أكواخ القصب والبردي الثلاثة المتلاصقة التي يقطنها (حكيم العقارب) ...أنزلوا أبيه من على ظهر الحمار الذي استأجروه لنقله من كوخهم...دام الانتظار طوال ساعات النهار حتى الغروب.

 

حين أدخلوا (أبيه) إلى (مُعتَكف حكيم العقارب) تسلل معهم مختبأً خلف كدس الأفرشة المعطرة بالبخور... يراقبهم بخوف شديد يعصف بروحه ويرتعد له جسده... يتابع حالة المرضى الخارجين من جوف الكوخ محمولين على الأذرع دون حراك بعد (استطباب!) (حكيم العقارب) لهم!

 

طلب منهم (حكيم العقارب) أن يخلعوا ملابس (أبيه) كلها... راح يتطلع إلى جسد أبيه الذي لم يره من قبل، وقد نفرت العروق الداكنة من تحت جلده المتغضن الباهت اللون... قال (حكيم العقارب) لـ(صويحب):

اربطوا رجليه بالحبل وكَتِّفوه دون أن تتركوه يتحرك!

 

كان (أبيه) خامداً كالجثة بين أيديهم ، سوى حركة عليلة تحت أضلاعه المُكَشِّرة ، أحكَموا تقييده... عندها جاء (حكيم العقارب) بقنينة زجاجية مغلقة في داخلها عقرب فاحم يهاجم السطح الزجاجي بجنون داخل القنينة... فتح مغلاقها بعد أن حدد نقطة عند الورك، قلب القنينة على فخذ (أبيه) المتجلد الشاحب ، فنشبت العقرب ذنبتها بجسد (أبيه)... ارتعش من شدة الألم ، تشنجت أوصاله، صار يحرك رأسه ورقبته وعينيه كالمصروع ، سال اللعاب الأبيض من فمه... وغَمَرَ العرق جسده... ثم راح يتقيأ... تكاد ضربات قلبه تُسْمَعُ لمن حوله ، لكنه لم يطلق صوتاً أو آهة... فيما كان (حكيم العقارب) يتلو (سورة الفلق)... إلى نهايتها!

كي يكمل العقرب سُمَّهُ ويموتُ ويُضَمَّد على الورك الذي ازْرَقَّ وتَوَرَّمَ!

 

في تلك الآونة جاء (سيد جبار اليشَوِّر) صديق "عروة"، ابن (حكيم العقارب) ومعه (قطيع الاطفال والصبيان المُعدَمين) يبحثون عنه... تجمعوا خلف (كوخ النحيب!) ...مفزوعين يستمعون إلى حكايات (سيد جبار) عن مكرمات (أبيه)...قائلاً:

يتجمع (الجِنّ") الذي يخرجه أبي من أجساد المعلولين تحت سقف (الكوخ) على هيئة دخان أزرق، وقبل صلاة الفجر عندما يختم أبي تلاوة سورة البقرة يخرجون هاربين مذعورين إلى جحورهم فوق الغيم على هيئة جرذان بيضاء ذات رأسين ولها أجنحة كأجنحة الطير!

 

كان الأطفال مذهولين، خائفين من نزول الجرذان المُجَنَّحةِ من السماء لانتهاش وجوههم، إن هم لم يستعيذوا بالله من الشيطان حسبما حذرهم (سيد جبار) ...خرجوا متفرقين باتجاهات مختلفة دون أن يكلم أحدهم الآخر!

 

لم يترك أبيه... عندما حملوه إلى كوخ (صويحب) القريب من بيت (حكيم العقارب) ليعيدوه إليه قبل صلاة الفجر كي يُكملوا (التطبيب)!

 

ظلوا تلك الليلة ساهرين مترقبين أي حركة لـ(أبيه)، لكنه لم يَرِفُ له جفن أو تَدُبُّ الحركة بمفصل فيه... قبل طلوع الفجر أعادوه إلى (حكيم العقارب) ... الذي طلب منهم عشر دراهم معدنية... وضعها في موقده المتأجج حتى صارت تتلظى... بدأ يحملها بملقطه الفولاذي الطويل ويَصُفُّها الواحد تلو الآخر على طول ساق (أبيه)... يرفع ما يهفت منها، ليضع المتوهج بعده حتى السادس منها!

 

عندها صرخ أبيه كالغريق الذي ينتشل نفسه من الأعماق الخانقة، ثم هَمَدَ كالخرقة المبللة بين يدي (حكيم العقارب)!

 

بعدها أمضوا أشهراً يعالجون التقرحات التي خلفتها الدراهم المتأججة والعقرب السوداء... صار (أبوه) ينظر إليهم باستنجاد واستعطاف... يبادلهم الارتياح بنظراته دون أن يقوى على الكلام... شعروا بالفزع لقول جارتهم لأمهم:

هذه صحوة الموت!

 

راح (أبوه) يشير إليهم أن يُقَرِّبوا الكفن الذي تبرع به له صاحب معمل الطابوق... بعد أن سحبته عمتهم نحوها وتوسدته... دون أن تكف عن الدعاء:

أن يكون أجلها قبل أجل أخيها!

بدأت الزيارات المريبة تتزايد إلى كوخهم، كان الناس كل ساعة ينتظرون موت أبيه أو عَمَّتِه!

 

عقب تهديد الحكومة ووعيدها بإزالة الأكواخ المواجهة للسجن التي أتُهِمَت بإيواء السجناء السياسيين الذي هربوا يوم الأمطار العاصفة ، نشب حريق مباغت في الطرف الغربي من (خرابة سعدة) المواجه لدور الحكومة ، مُلتهماً أولاً كوخ (عائلة آدم الضرير) الذي كان ابنه (أحمد) أحد السجناء السياسيين الهاربين، وسرعان ما امتدت ألْسِنَةُ اللهب منه إلى الأكواخ المتهالكة كأكوام هشيم يابس في فضاء مفتوح ، فَرَّ الناس مفزوعين من ظلمة أكواخهم ، يتراكضون عُراةً في دُجنة الليل ، نحو المجهول ، يستغيثون بالسماء أن تُسقط مطرها مدراراً لإنقاذهم من غضب النار!

 

احتضنت أمهم (أبيهم) وحملته كالذبيح، وأخرجته من جوف الكوخ إلى العراء، فيما تجمعوا حول عَمَّتِهِمْ العليلة ليعينوها على الوقوف والاتكاء عليهم وعلى جارتهم الأرملة (حرية) التي هَبَّتْ لإنقاذهم حال صراخهم... قبل أن تصلهم النار التي راح شواظها يقترب منهم، وشررها يتساقط عليهم... وجدوا أنفسهم وسط صراخ وأنين مئات العوائل النازحة المرتعشة من شدة البرد... مرميين على رصيف (السجن المركزي) في الجانب الشمالي من (الخرابة)!

 

قبل بزوغ الفجر كانت الأكواخ بما فيها قد تحولت إلى كومة رماد ساخن، وسكانها بلا مأوى أو طعام!

 

تشبثوا بأمهم وأبيهم وعَمَّتهم متلاصقين مرتعدين من الخوف في نفوسهم وصرير البرد في أجسادهم... كانت أُمُهُم تتحسس بين الفينة والأخرى صدر أبيهم للاطمئنان على أن دفقات الروح مازالت باقية فيه، فيما كان هو في حضن عَمَتِه يغفو على ترانيم أنفاسها المتقطعة!

 

على امتداد سنوات الفاقة التي يعيشونها لم يسمعوا من قبل أن لهم (أقارب) في تلك المدينة أو خارجها، فلم يزورهم (أقاربٌ) من قبل... لكنهم فوجئوا ذات مساء شديد البرودة والجوع باقتحام ثلاثة رجال متجهمين إلى كوخهم الذي لم يكتمل بناءه بعد... نهضت (أُمُهُم) تعانق أحدهم وتسلم على الآخرين... أمضوا أكثر من ساعة يتكلمون بوجوه عابسة مع (أُمُهِم) فيما كان أبيهم ينظر إليهم بعيون كسيرة!

 

لم يعهدوا (أُمُهُم) مخذولة مثلما وجدوها ذلك اليوم، هي التي عُرِفَتْ بثباتها وتحملها لشظف العيش وقسوة الحياة عليها بصمت، منذ ولادتها يتيمة الأم، واجتراحها معاناتها مع زوجة أبيها التي أذَلَّتها وأُختيها مما اضطرَهُنَّ للزواج وهُنِّ صبايا!

 

أحس وإخوته أن أحد الرجال هو (أخيها غير الشقيق)، والآخرين أبناء عمومتها... كانت أحاديثهم تتقطع بنظرات خالية من الود إليه وإلى أخوته... لكن أحد الرجال ذو الجبين المُجَعَّدِ والعينين الشاردتين تحت حاجبين كثعبانين أرقطين متراقصين... صرخ بها ساخطاً:

لماذا لا يتركون المدرسة ويعملون ليساعدوك مثل بقية أولاد العشيرة؟!

ردت عليه والدموع تنهمر من عينيها متهدجة الصوت:

إذا طَرَقتُ باب أحَدِكم استجديكم...

طالبوني بما تريدون!

رحمة الله واسعة... وأولادي لن يتركوا المدرسة!

 

التفت "عروة" إلى (أبيه) الذي احتقن وجهه بالغيظ، وقد بدأ يحرك ذراعه المرتعشة لأول مرة منذ سنوات وهو يومئ للرجال الثلاثة أن يخرجوا... فيما كانت (عَمَّتُهُ) تحاول أن تنهض لالتقاط حجر كانت تُسَخِنُهُ وتضعه على خاصرتها لتخفيف آلامها... لكنها كانت هذه المرة تنوي قذفهم بها، خرجوا شاتمين (أُمُهَم) و(أبيهم)، لأنهم لم يستجيبوا لهم، ولم يجدوا ما يقدموه لضيافتهم... متوعديها:

سوف لن تجدي أحداً يرحمكِ...

وسَتُكَّسِّر الحياة رأسكِ!

 

احتضنتهم أمهم وأجهشت بالبكاء... قبل أن يرقدوا جميعاً مستسلمين لسلطان النوم ملتحفين بعضهم بأجساد بعض للاحتماء من البرد الذي ينهش العظام والجوع الذي يمزق الأحشاء!

 

تذكر إجابة (أُمُهُم) المفحمة لهم عندما كانوا يسألونها:

أليس عندنا أقارب؟!!

كانت تجيبهم بيأس مرير:

عندنا عقارب!!

 

 عند الفجر أحسوا بحركة غير اعتيادية في ظلمة الكوخ...كان موقع (أبيهم) خالياً، وجدوه يزحف على كوعيه وركبتيه نحو باب الكوخ...هبوا جميعاً إليه مفزوعين، أعادوه إلى مكانه...فيما أمسكت (أمهم) بمعصمه وقالت له بثقة وعيونها تغرورق بالدموع:

لن أُطأطأ رأسي لهؤلاء الأجلاف!

لا تخشى علينا يا (أبا فاخر) ...

كل ما نتمناه هو شفاؤك واستعادتك لصحتك...وبراء عَمَّتِهم من الداء الذي ألَمَّ بها!

جاء الربيع مبكرا ذلك العام...

 

طلب أبيه منهم أن يخرجوه إلى مشراقه الكوخ تحت رحمة الشمس...صار يُدْمِن التمدد كل يوم من الشروق إلى الغروب متلحفاً بدفء النهار!

 

ذات يوم تنادوا فرحين عندما وجدوه متكئاً على قوصرة الكوخ دون أن يساعده أحد...بدأت العافية تسري في عروقه...صار يتكلم معهم بضع كلمات...طلب منهم أن يأتوا إليه بصديقه (صويحب)...الذي لم يتأخر عليه.

 

جلسا طيلة صباح الجمعة يتحدثان ويقلبان وجهيهما للسماء التي ازدادت زرقة...

لما هَمَّ (صويحب) بالمغادرة قال لأبيه:

لا تقلق سأبلغه السلام!

صار (أبوهم) يستند إلى عصا وينهض بنفسه...حتى عندما جاء (صويحب) ومعه رجل ستيني وقور... استقبلهم (أبوه) دون عصاه بعناد...كأنه يريد أن يثبت للزائر إنه بكامل عافيته...جلسا إلى جوار (أبيه) في مشراقه الكوخ...لفترة وجيزة...

 

بعد أن غادر الرجل الستيني، وضع (صويحب) بضع دنانير تحت وسادة (أبيه) قائلاً له:

سأستعيد لك باقي الدَيْن منه!

 

بعد سنوات من تآكل جلودهم بالأسمال عادت أمهم من السوق ذلك اليوم بـ(زنبيل خوص) كبير مملوء بـ(دشاديش) جديدة، وراحت تتأكد من تطابق قياسها عليهم...ثم وضعت ثوباً جديداً إلى جوار (عَمَّتِهم)... ودفعت بيده (دشداشة ويشماغ) ليعطيه لأبيهم...نظر (أبوهم) إليها معاتباً وشاكراً واحتقنت عيونه بالدموع لمّا لم يجد في (الزنبيل) ثوباً لها!

 

في ذلك النهار طلب منهم (أبوهم) أن يبحثوا له عن العلبة المعدنية الصغيرة التي كان يحتفظ بداخلها بأوراق ميلادهم الرسمية الثبوتية...وبـ (رخصة قيادة السيارة) التي حصل عليها قبل مرضه بشهر واحد فقط!

 

فيما هم يبحثون عما أراد...تَكَوَّرَ “عروة" في حضن أبيه فرحاً...يشاوره وعيونه تُرأرئ نحو أخيه الكبير (فاخر):

اليوم في الاصطفاف الصباحي صفقوا له لأنه متفوق في المدرسة...وفاز بمنافسات شعراء المدارس!

تقدم الولد الكبير لأبيه يُقَبِّلُ يده، وانحنى الأب يقبل رأس ولده البكر باعتزاز فتساقطت دموعه على رأس الصبي...لكن الصبي قرص فخذ أخيه بقوة دون أن ينتبه إليه (أبوه)...مؤنباً ومتوعداً إياه لإفشائه سر تفوقه!

 

دون أن يكترث بفعلة أخيه به...واصل "عروة" حديثه لـ(أبيه)...لكن أخيه قاطعه مُفشياً سِرَّ" عروة":

يا أبتي هو سيشارك بمعرض المدارس وبمسابقات الرسم!

استعاد (أبوه) بعض عافيته، صار يخرج صباح كل يوم بحثاً عن عمل...

 

جاءهم يوماً يقود سيارة حوضية اختفى لونها من كثرة الوحل المتيبس عليها...تحمل رقم (دائرة البلدية) ... (سيارة تنظيف مجاري مياه الأمطار ومياه الغسيل والغائط) ...حيث جرى تعيينه سائقاً لها بعد أن توقفت تلك الخدمات لأربعة أشهر في المدينة منذ وفاة سائق السيارة العضب (عبد العال) الذي انزلقت به السيارة إلى قاع (مستنقع تفريغ المياه الثقيلة)، وانقلبت عليه، ولم يستطيعوا إخراج جثته إلاّ بعد أسبوعين من تحريك السيارة من فوقها، فطفت الجثة منتفخة مهترئة على سطح المستنقع الآسن!

 

هَبوا راكضين إلى (عَمَّتِهم) داخل الكوخ ليبشروها باشتغال أبيهم...

لكنهم وجدوها تغط بنوم أبدي عميق!

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.