اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

Beez5

حكاية وَنص: من أينَ المَهْرَبُ يـ.......ـا "صويحب"؟// محمود حمد

محمود حمد

 

عرض صفحة الكاتب 

حكاية وَنص:

من أينَ المَهْرَبُ يـ.......ـا "صويحب"؟

محمود حمد

 

الى (مظفر النواب) في الذكرى السنوية لرحيل جسده عنا!

 

عندما غيض الماء منذ أزل التكوين الرسوبي وانشطر دجلة عند شرق مدينة العمارة وجد النهر أخدوداً من التاريخ السحيق للأنهر الظامئة، فأعاد له الحياة وجعل الذاكرة حاضراً ممتداً دون انقطاع في بث الروح بكل (شيء حي) ...

 

يتجمع عند انشراحه عن دجلة (المندائيون) في معبدهم الذي يرتشف من النهر ديمومته ويمنح النهر قدسيته!

نشأت على ضفتيه أساطير عنبر، وحكايات خصب، وأغاني عشق، وروايات موت، وخرافات حلم وتساؤلات عن سر الخلق، وحركات ثائرة سرية تشكك بالمُقَدَسِ في سر الخلق، وانتفاضات جوع تندلع بصمت ويخمدها التخلف والاستبداد!

 

قبل انطفاء نهر الكحلاء في (هور الطمر)، استوطنت على ضفتيه عوائل الفلاحين المسحوقة والتأمت أخرى حول القلعة التي أقامها شيخ القبيلة عام 1948لإدامة إعاشة الجيش المُستَقدم لتمكين (الشيخ) الذي صار اقطاعياً من الاستقواء على الفلاحين الفقراء من أبناء عمومته، واتسعت في تلك الآونة (أسلاف) أكواخ الفلاحين (اللائذين) بالإقطاعي من بطش السلطة، ليس بعيداً عن ناحية (الكحلاء) لتشكل وحدة سكانية عشوائية حملت اسم التحبيب لإحدى وصيفات شيخ القبيلة (مسيعيده)!

 

كان نهر الكحلاء ممراً للمراكب الخشبية التي تنقل الرز كل يوم دون انقطاع من تلك البقاع إلى دجلة ومنه إلى كل البلاد...

 

ذات يوم وقف (حوشية) الشيخ يقطعون النهر على بعد أكثر من كيلو متر عن القلعة لمنع المراكب من المرور، دون أن يفشي أحد السبب لذلك!

ولشدة الفوضى التي سببها ارتباك وصول شحنات العنبر للأسواق في طول البلاد وعرضها... تناقل الفلاحون وتجار الحبوب وموظفو "الحكومة المخصيَّة" في سرهم ما يخفيه منع مرور المراكب قبل الوصول إلى قلعة الشيخ...

 

كانت الذريعة (حسب الحكاية التي نقلها لي والدي):

غفوة (الشيخ الصغير) ابن الأربعين يوماً الذي وضعوا (كاروكه) على شاطئ نهر الكحلاء أمام القلعة، للانتعاش بالنسيم البارد... وخوفهم من أن تفززه أصوات محركات المراكب أو حفيفها بالماء... فصاروا يمنعون قوافل مراكب التجارة النهرية من المرور في النهر طيلة اليوم لحين يقظة (الشيخ الصغير) العفوية من غفوته!

 

في ذات الوقت الذي كان يُرَسِخُ فيه الشيخ سلطة (قلعته الاقطاعية) بمساندة استبداد الحكومة...كان نفر من الفلاحين الذين أضاء الوعي عقولهم، شغوفين بسر التساؤلات وواقعية الشعارات القادمة من خارج أسوار الجهل المحصن بسلطة الخوف وبراثن التخلف ودجل رجال الدين في بيئتهم!

 

فتشكلت بينهم أولى الخلايا السرية للتنظيمات الفلاحية اليسارية المطالبة بحق الفلاحين بالأرض التي يستصلحونها ويزرعونها ويحصدونها!

 

مع مضي السنوات اتسعت شرارة وعي الفلاحين بحقوقهم، وازدادت نوبات السلطة القمعية عليهم، وشهدت السجون أعداداً متزايدة من الفلاحين المتمردين على سلطة الاقطاع ودولتهم المحمية بالمحتلين الانجليز!

في نهاية ستينيات القرن الماضي كنت منهمكاً في خضم شؤون وشجون أهل (الكحلاء) عندما عدت إلى (مدينة العمارة) والتقيت صديقي (عطشان الكحلاوي)...

 

شغلتنا أخبار تفرد السلطة المستبدة وتعسف عسسها بالفلاحين...فكانت تلك فرصة وسبباً لدراسة تاريخ وواقع وتطلعات الفلاحين في تلك الجغرافية المنسية من وطنننا... مثل غيرها... للمساهمة في تغييرها، لكن مسعانا قد أحبط قبل أن نوقد أول شمعه، وانتهى باعتقالي بوشاية من فلاح عهدنا إليه أن يكون (طارش) لنا إلى (أهل الكحلاء!)، واختفى (عطشان الكحلاوي) في (هور الطمر) مع أبناء عمومته إثر ذلك!  

 

فاجأتني زيارة صديقي القائد الفلاحي (عطشان الكحلاوي) بعد أربعين عاماً من انقطاع الأخبار بيننا، والذي جاء مرافقاً لابنه (فيصل) الذي مزقت جسده شظايا مفخخة وضعت تحت سيارة الاسعاف التي يقودها وسط (مدينة العمارة) عام 2007...

 

أزلنا غبار النسيان عن بعض ما لم نستكمل من أحاديث قبل أربعين عاماً... لكن (أبو فيصل) لم يكف عن التعبير عن حزنه وهو يتذكر حادث مقتل رفيقه القائد الفلاحي (صاحب الملا خصاف) على يد (أبو ريشه) الذي كمن له بين القصب وأرداه قتيلاً حال مرور (مشحوفه) أمامه نهاية عام 1959، ذلك الاغتيال الذي كان إشارة بدء الردة الاقطاعية على الفلاحين!

 

يُعَبِرُ (عطشان الكحلاوي) عن يأسه لما آلت إليه الأوضاع في المدينة التي جاء منها...ويردد متحسراً:

قليلون هم الذي يتصدون للطغيان أمثال (صاحب) في أيامنا هذه... بينما يتناسل أمثال (أبو ريشه) ويتكاثرون كالذباب بيننا!

 

عندما غادر (عطشان الكحلاوي) غرفة المستشفى أحسست بأني مُحاصَرٌ مثل أهلي بألوان الموت الممتد من الغدر بـ(صاحب) إلى الموت الكامن لكل أهل العراق في كل زاوية وكل لحظة...

صرت ابحث عن مهرب ينجيني وأهلي... لكني استفقت من نوبة الإحباط... فكتبت:

من أينَ المَهْرَبُ يـ.......ـا "صويحب"؟

آواني القصبُ الباردُ بينَ ضلوعه...

ألْقَمَني الجوعُ دموعه...

أفْحَمَني الصمتُ!

****

نَوبةُ موتٍ سوداءَ تُمَزِّقُ سِتْرَ "السِرِيِّةِ"... (1)

وقطيعٌ فولاذيٌ مُغْبِرْ يُطْبِقُ كَفَّيْهِ على أنفاسِ "الكحلاءِ"... (2)

من أين المهربُ يــــــــــا... "صويحب"؟!(3)

****

ماكُنْتُ لأمْضيَ بينَ الفلواتِ غريباً لَوْلا الأقدامُ العَرْيانةُ...

والصدرُ المُشْرَعُ للريحِ...

وقبورٌ دَفَنَتْ أهلي في كلِّ المُدُنِ الموبوءةِ بالجَّوْرِ!

عَوَزٌ قارِسٌ...

ونوايا يَقْطُنُها المَوْتُ...

ومواعظُ تَغْشِ الابصارَ...

ودبيبٌ يَنْفُثُ بَلَهاً في شريانِ "مَضايفنا"... (4)

وبلادي تَنْزُفُ خيراً للغرباءِ!

****

بِضْعَةُ صبيانٍ يَلْتَحِفونَ الفُقرَ بأطرافِ المُدنِ الملغومةِ...

نِباحُ شُقاةٍ بينَ الأنفاسِ يُلاحِقُنا...

كي لا نَخْرُجَ من خلفِ القصبِ اليابسِ للطرقاتِ الأسْفَلتيِّةِ!

قَدَمٌ جامحةٌ تَرْكِلُنا خَلْفَ جدارِ الليلِ الأزليِّ...

وعيونٌ زرقٌ تَرْمُقُنا مِن أطلالِ الوطنِ المنهوبِ...

حَفْنَةُ تَمْرٍ مُغْبِرْ في باحِ الحقلِ المُغْتَصًبِ الأهلِ...

تَنْخُرُها الديدانُ...

وبومُ المُحْتَّلِ!

****

رجالٌ...بؤسٌ...يَفْتَرشونَ القَمْراءَ بلا خبزٍ بَعْدَ غروبِ العُمْرِ!

صوتُ المذياعِ يُلاحِقُنا...أن نَحْسِبَ للقبرِ حسابَ الحَرْثِ لِحَقلِ العَنْبَرِ...

وأنا أخْفِقُ في أحصاءِ رفاقي المقبورينَ...

وأهلي المنفيينَ بِكُلِّ بِقاعِ الأرضِ!

فَهزائِمُ جُنْدُ المُحتَّلِ مَصائِبُ تَقْصِلُ رأسَ فَسائِلِنا...

تُقْحِمُنا في مَحْضورِ القَولِ...

وتُقْبِرُنا في لائحةِ المنبوذينَ بقاموسِ:

السُلطةِ...

والإرهابِ...

وجيشِ المُحْتَّلِ...

وكُتّابِ الأعمدةِ النفطيةِ!

****

طفلٌ في الستينِ يُكَفْكِفُ عن وجهِ مَدينَتِنا طوفانَ التَفْخيخِ بأجسادِ الرُضَّعِ...

وسَبايا يَصْرُخْنَ بهذا الليلِ الأبديِّ الأعمى...

غُمَّةُ بُغْضٍ تَنشِرُها الريحُ الصفراءُ الـ- خَنَقَتْ- "نوزادَ" قُبَيلَ صلاةِ الفَجْرِ...

وفناءٌ يَسري في أنفاسِ بلادي!

****

أمٌ ظامِئَةٌ للغائبِ تُحْصي قَتلاها المَنثورينَ بِلا أكفانٍ حَوْلَ النهرينِ...

تَجْعَلِهُمْ كُحْلاً...

وبَريقاً بينَ جُفونِ العينِ...

وفتاةٌ...طُهرٌ...تَرمقُ قُرصَ الشَمسِ بعينٍ يُفقِئُها الحزنُ!

شمسٌ تتداعى وَجَعاً...وهشيماً بينَ "جبالِ الكُوردِ" وشطآن "الفاوِ"!

****

جَدلٌ يَقْمَعُني في منعطفاتِ العُمْرِ الصاخبِ...

يَحجِبُني عن رأسي...

يَجْهِضُ أسراري...

يوغِلُني في حبةِ قَمْحٍ مَنْسيَّة...

عِنْدَ تُخومِ الأرضِ المَجْروفةِ بالدباباتِ "البنّاءَةِ"!

****

تَسَمَّرْتُ لِجذعِ النَخْلَةِ كيْ أستريحَ مِنَ الحُلُمِ...

انْطَوَيتُ في الحُلمِ لأسْتَعيرَ أقداماً مُضادةً للمُفَخخاتِ...

للرحلةِ في دروبِ العراقِ!

إنْسَفَيْتُ بالريحِ خِشْيَّةَ التَماهي في صليلِ الوعودِ المُجَنْزَرَةِ...

أرَّقَني الشوق إلى الحُلْمِ...

تَبَدَدَتْ النهاراتُ بِهِزَعِ الدَمِ الدافقِ!

****

تَنْتَهِكُ الأعاصيرُ "المُشِعَّةُ" السنابلَ في قرارةِ العراقِ...

تَفْزَعُ العصافيرُ من البَيْدَرِ المُفَخَخِ...

تَهرُبُ الفِتْنَةُ من أسارِ الأهازيجِ والمواعظِ ...الدُخانِ...

تَحْتَمي بجَريدِ النخلِ، وريحِ الشمالِ!

تَسري الكلماتُ الزُعافُ كالوباءِ في الروحِ...

تُبَعْثِرُ الأزمنةَ الغَضَّةَ في الذاكرةِ...

تَنفَخُ فيها شواظَ القصائدِ الحبيسةِ في الصدورِ...

تَعيثُ الرمادَ في شهيقِ الصباحاتِ الفَتِيَّةِ...

تُكَبِلُ الخطواتَ بالشوكِ الجارحِ...

تَغشو البَصيرةَ بالشكِّ...

واليقينَ بالاستخفاف!

****

في آخرِ الليلِ:

يُلَمْلِمُ السَلاطينُ عَمائِمَهُمْ...

والغُزاةُ سيوفَهُمْ...

والفُقراءُ بُطونَهُمْ...

والشُهداءُ قُبورَهُمْ...

واللصوصُ...غنائمَهُمْ...

والدجّالونَ لُحاهُمْ...

والمنافِقونَ فِخاخَهُمْ!

يَتَدَحرَجُ الغُزاةُ والمُلَثَّمونَ من قِمَّةِ الوَهْمِ إلى قاعِ الغَيظِ...

تَتَفَجَّرُ القبورُ بوجهِ السيوفِ...

والبطونُ بوجهِ اللصوصِ...

والحدائقُ بوجهِ المفخخاتِ...

والطفولةُ بوجهِ البوارجِ!

****

تَستَلقي الشوارعُ على ظهورها من فَرطِ الإعياءِ...

يستريحُ الناسُ في العراءِ بَعْدَ زوالِ (الوحوشِ)...

تَتَدفَقُ الموجةُ من عيونِ الصَخْرِ إلى السهول التَرْفَةِ دونَ حواجِزَ مُسلحةٍ!

يَحمِلُ الشعراءُ قصائدهمْ لغرسِ الزهورِ خَلفَ القطعانِ المهزومةِ!

يَسقطُ المطرُ مِدراراً!!

 

 (1) السِرِيَّة: منطقة في مدينة العمارة بجوار سراي الحكومة.. كنا فتياناً نلتقي حتى الفجر في أحد دورها الفقيرة قبل اربعين عاما، نمزج الحلم بالبؤس والحماس بالخوف نناقش " دور تحرير الرأسمال - في انقاذ محيسن الحمّال - من الأسمال".

واليوم يعاودها الموت مثل بقية أحياء المدن العراقية بعد أن نكّلت بها الحروب والمتحاربون عقوداً من الزمن.

وتفشَّت -أسمال محيسن- عبر تلك العقود حتى صارت زياً رسمياً لمعظم أهلنا.

(2) الكحلاء: أحد أنهار مدينة العمارة، يغذي ناحية الكحلاء التي اشتهر أهلها بالوعي الثوري المبكر، وزراعة الشلب، والضيافة، وصيد الاسماك، ومخاصمة الحكومات الفاسدة، والغناء المحمداوي الاصيل، وجمال فتياتها.

      

(3) صويحب: هو القائد الفلاحي- صاحب الملا خصاف - الذي اغتاله الإقطاع في ستينات القرن الماضي ومجده الفتيان وشاعرنا (مظفر النواب)، ودَثَرَتْهُ الحكومات، وخَلَدَهُ الفلاحون.

(4) مَضايفنا: " المَضايف" هي مجالِس الضيافَةِ في الرِيفِ العراقي، وملتقى التشاور والحوار بين ابناء القرية والعشيرة.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.