اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

Beez5

رواية (ذاكرة التراب): (الفصل الثالث)- (ثريا) مضيئةٌ في ليلةٍ ظلماء!// محمود حمد

محمود حمد

 

عرض صفحة الكاتب 

رواية (ذاكرة التراب): (الفصل الثالث)

(ثريا) مضيئةٌ في ليلةٍ ظلماء!

محمود حمد

 

رغم هجير الظهيرة في العراء المُقفر عند الركن البعيد لجدار معسكر القوات البريطانية غربي نهر دجلة، كان الأطفال والصبيان الحُفاة يتدافعون للحصول على فُتاتْ الموائد التي يلقيها الطبّاخون الهنود إلى مكب النفايات هناك بعد كل وجبة طعام لجنود الاحتلال!

 

تتعالى أصواتهم بهجة، يتسابقون لجمع ما تصل إليه أيديهم لملئ قدورهم العتيقة التي استبد بها السخام والصدأ... متجاهلين الشتائم التي يطلقها عليهم العسكري ذو العنق الطويل الأحمر كعنق الديك الرومي... ذلك الجندي الذي لم يُستَبدَلُ منذ سنوات، كغيره من العساكر الذين يُستَبدلون في موقع المراقبة المطل على قطيع الأكواخ البائسة، الذي تَوَرَّمَ في (منطقة الشبانه) إلى جوار المعسكر عقب احتلال المدينة وإنشاء المعسكر في الثاني من حزيران 1915!

 

لم تمض سوى سنوات قليلة لم يتذكر مداها... تلك التي ابتنى أبيه لهم فيها كوخاً من القصب والبردي بجوار كوخ عمته (نوفه الجنديل) في أطراف (منطقة الشبانة) في ذلك (السَلَف) المبتلى بالوحول والعويل كل ليلة لفقدان عزيز يُختَطفُ عمرَه مرضاً أو جوعاً، بعد ترحيلهم إثر حملة الحكومة لإزالة أكواخ (خرابة سعدة) من جنوب المدينة!

 

خرج أبيه قبل الفجر ككل يوم بحثاً عن المكان المحكوم بالصدفة... عندما جاءت (الشرطة العسكرية البريطانية) برفقة ضابط مركز شرطة المدينة (عزرا وردة) مُعلناً بلهجة عربية مفككة عبر مكبرات الصوت:

انتهاء مهلة إزالة مئات الأكواخ القريبة من المعسكر!

 

بعد شهرٍ من اختفاء عسكري بريطاني إثر خروجه من باب المعسكر، وانقطاع أخباره، رغم حملات التفتيش التي لم تستثن حتى منازل خدم المُحتلين... دون أن يغفل (عزرا وردة) تكرار وعيده واختتامه بالتهديد:

سنجرف الأكواخ... صباح بعد غد الجمعة!

 

جمعوا أسمالهم ووضعوها في عربة يجرها حمار... كانت تنقل العاجزين من الرجال والأطفال والنساء المهزومين، ومعهم محتويات الأكواخ بعد سريان شائعات تقول:

سيحرق الإنجليز الأكواخ بمن فيها عند منتصف الليل!

 

تشردت العوائل البائسة في الشوارع وفي خرائب المدينة، وداخل المباني المهجورة، وبين أجداث المقبرة... وضعوا صرائرهم إلى جوار نخلة على ضفاف دجلة يترقبون ما يدور في ذهن أبيهم الذي يتحدث همساً منذ أكثر من ساعة مع جارهم (زاير رمضان) بعد عودته من المدينة باحثاً عن موطئ عيش لهم لا تطردهم الحكومة منه!

 

رافق أباه في بحثه عن جارهم (فجر عبيد) الذي تعرفوا عليه منذ كان من بين (النيسانيين!) الذين ذهبوا معهم في شهر نيسان قبل سنوات للحصاد في حقول الحنطة بـ(قضاء شيخ سعد)!

 

حال التقائهم به، أرشدهم (فجر عبيد) إلى القلعة الطينية التي آوى إليها مع أسرته وأقام له فيها كوخاً... شاكراً (الحاجة خيرية) صاحبة القلعة ومالكة البساتين المحيطة بها...

الذي وعد أبيه بالحصول على فرصة له كـ(ناطور) في قصر قيد الإنشاء قريبا من القلعة!

لم يشأ (فجر عبيد) المرور بهم أمام القصر الفخم الذي تغطيه أشجار عالية ونخيل باسق، فقطعوا الشارع مباشرة إلى القصر المجاور (قيد الانشاء) الذي يُسمع من داخله صدى مطارق النَجّارين...

 

وقفوا إلى جوار سيارة جيب زيتونية قديمة توقفت للتو عند الباب... نزل منها رجل سمين أعرج اصفرت شارباه من كثرة دخان السجائر التي لم تفارق شفتيه... يقال له (الجلبي)... كان الرجل يتطلع إلى قصره وهو ينفث دخان سيجارته الغليظة نحو السماء... ما أن رآهم حتى أشار بيده بالموافقة قبل أن يتحدثوا معه، وكأنه أمر متفق عليه بينه وبين (فجر عبيد).

 

جلسوا على رصيف القصر الأمامي إلى جوار السياج الفاصل بين القصرين... أشار (فجر عبيد) بصمت إلى القصر الفخم العتيق بعيون زائغة من شدة الخوف...متلفتاً يميناً شمالاً... مُحَذراً:

لا تقتربوا من (قصر الباشا)!

 

أطلق (فجر عبيد) زفرة من قرارة روحه... كأنه يحدث نفسه بصوت مسموع:

لم يرتكب إثماً أو جريمة... أطلق عليه الرصاص بدم بارد وطلب من سائقه (الأعجمي) أن يشحط الجثة إلى خارج القصر، ويرميها على الرصيف كي لا تلوث حديقته!

 

لم يكن المرحوم (البُستاني موسى المعَرْيَّن) يعرف أن تحت قدميه نبتة صغيرة تلقاها (الباشا) هدية من (متصرف اللواء) ... ذهب (موسى) ضحية سحقه تلك النبتة بقدمه دون أن يدري!

 

ترك خلفه أربعة أطفال صغار توفي أحدهم من شدة البرد بعد مقتل أبيه بشهرين لأن (الباشا) طردهم من الكوخ الذي كان يأويهم في أطراف بساتين (الباشا)!

أشار (فجر عبيد) بعينيه إلى شجرة داخل (قصر الباشا) تعلو أفانينها السياج:

هذه النبتة التي قُتِلَ (موسى) بسببها... هو مات وهي باقية!

 

في اليوم التالي أقاموا لهم (كوخاً) من القصب والبردي في قلعة الحاجة (خيرية)...

عندما اشتغل أبيهم كسائق في بلدية المدينة... طلب منه أن يكون بمحله في النهار (ناطوراً) في قصر (الجلبي) بعد أن يعود من المدرسة... صار يأخذ دفاتره وكتبه ويجلس في حديقة القصر... يُبدد وحشته بمراقبته الطيور المتنوعة الألوان والأحجام والأصناف، التي أقام لها (الجلبي) قفصاً كبيراً في زاوية الحديقة الواسعة!

 

بعد أن توقف العمل في القصر لعجز صاحبه عن الإيفاء بديونه للمقاولين... صار القصر ملعباً لـ “عروة" ولإخوته الصغار... الذين غالبا ما كانوا يلحقون به... يتعالى صدى أصواتهم في حجرات القصر الكثيرة الفارغة المختلطة بزقزقة العصافير بين الأشجار والنخيل...

 

ذات يوم انتبه إلى نافذة تشرف عليهم من أعلى (قصر الباشا) تُفتَح بحذر، تتحرك الستارة من خلفها... يسمعون من خلفها أصوات كركرات طفولية مكبوتة، لا تغلق النافذة إلاّ عندما يأتي أبيهم إليهم ويعودون إلى (كوخهم) في القلعة!

 

ذات ظهيرة وقفت سيارة أجرة في باب (قصر الباشا)، نزلت منها امرأة عجوز تبدوا عليها ملامح الخدم، معها حقيبة ثقيلة وصرائر من القماش... هَبَّ إليها "عروة" دون دعوة، وحمل لها أثقالها... دخل لأول مرة إلى فناء (قصر الباشا)، فطلبت منه زاجرة أن يضع أغراضها ويخرج بسرعة قبل أن يراه (الباشا)، ظهرت صبية بعمره من باب القصر الداخلية محتفية بالمرأة العجوز... تعالى صوت فتيات مبتهجات في الداخل، أشارت إليه العجوز بيدها طاردة إياه كأنها تَنُشُّ ذباباً يلحق بها!

 

عاد إلى مجلسه إزاء قفص الطيور.. يقرأ بشغف لامتحان التاريخ عن (زنوبيا ملكة تدمر) التي قادت مع زوجها (أُذينة) المُكَنّى (رئيس المشرق) عصياناً على الإمبراطورية الرومانية... تَمَكَّنا خلاله من السيطرة على معظم سوريا... خلفت زوجها في الحكم بعد وفاته، لأن ابنها (هبة الله بن أذينة) لا يزال حينذاك طفلاً رضيعاً، فتسلمت مقاليد الحكم وقادت جيوش (مملكة تدمر) في غزوها لمصر وآسيا الصغرى لفترة من الزمن قبل أن يتمكن (الإمبراطور أورليان) من هزمها وأسرها ونقلها إلى روما حيث سرعان ما توفيت لأسباب غامضة!

 

شعر بانقباض في روحه، كاد يبكي لمصيرها!

نسي الامتحان وراح يتخيل (ملكته زنوبيا!) ... يرسمها على هوامش الكتاب بمشاهد مختلفة...

 

في أوج غيبته مع (الملكة زنوبيا) ... نادت عليه أخته الصغيرة... تسأله إن كان معه كتاب الرياضيات لأن (ثريا ابنة الباشا) طلبته منها من خلف الجدار... لم يكن الكتاب معه لكنه طلب منها الانتظار... ركض كالنمر إلى القلعة التي تقع خلف البستان المجاور للقصر وعاد بالكتاب من كوخهم مسرعاً... في اليوم التالي تلقى عقوبة وضرباً مبرحاً من مدرس الرياضيات لأنه لم يكن معه الكتاب!

 

تسللت (الصَبِيَّةُ ثريا) من باب قصرهم إلى معتكفه أمام قفص الطيور، شكرته على الكتاب الذي احتضنت أوراقه وردة حمراء نضرة... ظلت واقفة لثواني، دعاها للجلوس على بساط الحديقة الأخضر... يحَّدِّثُها عن الطيور وعوالمها... انتبه إليها وهي تتصفح كتاب التاريخ وتتأمل رسومه على هوامشه!

 

صارت تأتيه كل يوم عند قيلولة أهلها وغياب أبيها (الباشا) في رحلاته الكثيرة... كانت (ثريا) ذكية في الرياضيات ومصغية حالمة، يحكي لها قصص التاريخ كما يرويها الكتاب المدرسي، ويضيف منه لأحداث التاريخ ما ليس فيه... فيما كانت تَسِّرَّه همساً:

إنها لم تكن تستمتع بكتاب التاريخ من قبل كما هي اليوم!

 

سمع صراخاً أنثوياً في (قصر الباشا) لم تكترث له (ثريا) لكنه قفز من مكانه بحركة لا إرادية... أمسكت يده وأقعدته قائلة بصوت مخنوق بعبرة:

هذه أختي الكبيرة (نورية)... وِلِدَت مقعدة ومُعاقة عقلياً... تدهورت حالتها بعد وفاة أمي قبل خمس سنوات... منذ ذلك الحين... كلما استيقظت من النوم تتذكر أمي فتصرخ وتنادي عليها!

 

عقب وفاة أمي تولت رعايتها أختي الكبرى (كريمة) المعلمة في (مدرسة الملك فيصل الثاني النموذجية للبنات) ... تساعدها في ذلك (ستارة) المربية التي حَمَلْتَّ أنْتَّ أغراضَها لها!

 

عندما ولِدنا وجدنا(ستارة) في القصر واحدة مِنّا... كانت المرحومة أمي تقول إنها جاءت بها من إيران قبل أكثر من عشرين سنة عندما كانت أمي تعالج هناك من مرضها... ثم جاءت بأخيها (غلوم) سائقاً لنا!

 

تلفتت نحو قصرهم خشية من مجهول، وقالت بصوت هادل:

سيأتي أخي الكبير (غيث) وزوجته وأولادهما يوم الجمعة من بغداد، يمكثون معنا طيلة العطلة الصيفية... ألاّ أنه سيعود إلى عمله طياراً بالخطوط الجوية بعد أسبوع لانتهاء إجازته... أنا فرحة لمجيئهم... عندما يأتون تصير أيامنا أجمل...تُضاءُ جميع مصابيح القصر، نلعب دون أن يزجرنا أحد... نمرح في الحديقة ونلتقي بصديقاتنا!

 

تزايد عدد الأطفال والصبيان والصبايا العابرين من (قصر الباشا) إلى حدائق قصر الطيور... يمضون معظم الوقت يلعبون مع الطيور ويعبثون بمواد البناء المتناثرة داخل وخارج المبنى... صار مُلزماً أن يدخل معهم في حجرات القصر خشية عليهم ومنهم... بعد أن انضمت إليهم (سعاد) ابنة صاحب (قصر الطيور) ذات العشر سنوات!

 

ذات نهار استدرجوه إلى اللعب معهم بعد أن كان متردداً خوفاً من غضب (أمه) عليه... التي توصيه كل يوم أن يتجنب الاقتراب من (قصر الباشا) ومن فيه!

ذات يوم شاركهم لعبة الاختباء...

 

وجد نفسه مع (ثريا) خلف باب مغلق... احتضنها واستسلمت بين يديه... غمره شعور لم يألفه من قبل... أحس كأن روحه تغتسل من الحرمان، قلبه يتنقى من الخوف، وعقله وجسده يرتعش حَدَّ الغيبوبة... فأدمنا على (لعبة الاختباء!) طيلة العطلة الصيفية!

لكن...

عندما سافرت عائلة أخيها... انقطعت (لعبة الاختباء)!

 

بعد انتهاء الامتحانات للمرحلة المتوسطة... كان يتابع خفق أجنحة الطيور الملونة في فضاء القفص الذي تُكَلْكِلُ عليه شجرة التين اليانعة الفخمة... امتلأت أنفاسه بعطر جسدها... وهي تقف خلفه معقودة الذراعين بحركة مثيرة... أمضيا ساعات يتحدثان عن أحلامهما المراهقة حتى المساء دون حراك...حَذَّرَتهُ من عيون سائقهم (غلوم) المريبة، ووشاياته بأقرب الناس إليه... همست في أذنه وهي تبتسم ابتسامة خجولة:

غداً الجمعة والجميع يتأخرون في اليقظة!

 

جاء مبكراً إلى القصر، وجد النافذة في الطابق العلوي لـ(قصر الباشا) مفتوحة، والستارة تتأرجح بحركة جسد خلفها... ترك باب الحديقة موارباً وجلس في الركن الذي اعتادا السمر فيه، دخلت مُسرعة وصعدا إلى مخبئهما الذي افترشا فيه بابا خشبياً لم يُرَكَّبْ في مكانه بعد... لم يدركا الوقت الذي مضى حتى الغروب... إذا بصخب يملأ حجرات القصر الفارغة، صوت أجش ينادي عليها، وقع أقدام ثقيلة تصعد السلم الجرانيتي، فتيبس الدم في عروقهما... قالت له وقد انقَضَّت قبضة الخوف على عنقها:

هذا صوت أبي... وخلفه السائق الكلب (غلوم)!

تمتمت بأنفاس فزع متقطعة:

اهرب إلى السطح... سيقتلك!

قفز كالهر إلى السطح... لمح (الباشا) يهرول عبر نافذة لم يُرَكَّبْ زجاجها بعد، وبيده مسدساً... أحس بأن الأقدام المتسارعة تصعد باتجاه السطح وصوت السائق (غلوم) يعلو خلفه:

سأُمسك به لك يا (باشا)!

 

تفحص "عروة" منافذ الهروب الممكنة من السطح، لم يجد سوى الأنابيب الحديدية لتصريف مياه الأمطار... انزلق بإحداها إلى الحديقة الخلفية ومنها إلى البستان الممتد إلى أطراف المدينة من جهة، وإلى القلعة الطينية حيث يعيش أهله من جهة أخرى.

 

لكنه ظل مُكَبَّلاً بالحاجة إلى الاطمئنان عليها...تسلل إلى الحديقة العامة المقابلة لـ(قصر الباشا)، يرصد المشهد من كوة في سياج الحديقة... كانت (ثريا) تسير مرتجفة وخلفها (الباشا) مرتعداً، يتبعهم السائق (غلوم)... زعق به (الباشا) وزجره بحركة من يده... لاذ إثرها (غلوم) بالفرار إلى خلف مرآب السيارات داخل القصر!

سمع "عروة" إطلاقة نارية داخل القصر مزقت سكون المكان، انهار على الأرض... ثم استجمع قواه وهرب بعيداً إلى مكان مجهول لـ(الباشا)!

 

أمضى النهار تحت فيء الجسر الحديدي المحني الظهر، كأم رؤوم فوق نهر دجلة... عندما أسدل الليل ظلمته سار وسط البستان المؤدي إلى القلعة، ونفذ من فتحة في جدارها الطيني الخلفي السميك إلى الباحة... بانت له صريفة أهله مهجورة، وسكان الأكواخ التي تحيط بكوخهم متجمعين حول الكوخ ومعهم الحاجة (خيرية) وقد خَيَّم الحزن على الجميع واكتست وجوههم بالحيرة... عاد إلى البستان وسار هائماً باتجاه أطراف المدينة!

 

ساقته خطواته لملاذٍ كانت (دوخة) تأخذهم إليه ليستريحوا به بعد عناء التشرد في الطرقات المقفرة، تحت فيء أشجار (مقبرة الإنجليز) التي شيدتها بريطانيا، على ضفاف نهر دجلة، بين أعوام 1914 و1920، واكتملت عام 1923، لتضم رفاة أكثر من 5000 جندي من (المملكة المتحدة) وجنسيات أخرى قتلهم ثوار العشائر!

 

وقف تحت ضوء المصباح أمام حائط المقبرة الذي دونوا عليه أسماء المدفونين فيها... سمع صوتاً ينادي عليه أن يخرج من المقبرة، عرف أنه صوت حارس المقبرة الذي يُسَلِّمُ عليه كل يوم في ذهابه وإيابه من المدرسة...لأنه والد صديقه (ألْماز المعَرْيَّن) ...

 

اقترب منه الرجل النحيف الفارع الطول ذو الوجه الأبلق المجدور، مُستغرباً من وجوده بالمقبرة في هذا الوقت المتأخر من الليل...اضطر أن يفصح له عن بعض حكايته...

اندهش لاهتمام حارس المقبرة (داوود) به وعطفه عليه... قائلاً له:

يجب أولاً أن يعرف أهلك مكان اختبائك ليطمئنوا عليك...

فهم يعتقدون أنه قد قتلك كما قتل أخي (موسى) الذي كان بستانياً عنده!

وطلب منه أن يجلس في غرفة حراسة المقبرة، وسيعود إليه بعد بعض الوقت... مضت ساعات طويلة عليه... يتأمل فيها الصلبان المصفوفة بعناية تحت أشجار النخيل... يتهجأ أسماء العسكريين الانجليز المدفونين في أرض غريبة عن مواطنهم!

 

بعد منتصف الليل عاد (داوود) بملامح خشبية لا تقرأُ فيها علامات الرضا من أخاديد الإحباط... لم يذكر له ما يمنحه الطمأنينة...لكنه أبلغه أنه ككل يوم "عادة" يغلق أبواب المقبرة عند العاشرة مساءً ويعود إلى بيته...

ودعاه للذهاب معه الى البيت!

 

في البيت أسَرَّ لصاحبه (ألْماز) بـ(حبه!) لها وخشيته من (الباشا) عليها، وقلقه على مصيرها، بعد أن سمع دويّ رصاصة من داخل القصر أثناء هروبه!

 

في صباح اليوم التالي اتخذ صديقه (ألْماز) من الشارع الذي يجثم فيه (قصر الباشا) ملعباً له، واستقر خلف فجوة جدار الحديقة العامة التي دَلَّهُ عليها "عروة"... عند الظهيرة لمح من بعيد أربع فتيات يصعدن السيارة ومعهن حقائب كبيرة... إحداهن تطابق الأوصاف التي سمعها منه... لكنها ليس كما قال له:

أجمل فتاة في العالم!!!

لأن الفتاة الانجليزية التي تشغل روح (ألْماز) ويلاحقها كل يوم أحد، عند زيارتها للمقبرة التي يحرسها أبيه وهي تجر خلفها كلبها الصغير لزيارة قبر جدها (أجمل منها!).

 

بعد سنتين انتقل إلى العاصمة للدراسة وانقطع عن المدينة مغموراً بالتساؤلات التي فجرتها في رأسه نوبات المحن وإضاءات الكتب التي انغمر بقراءتها، وحوارات الأصدقاء المشككين ببديهيات ومقدسات مجتمعهم، وانزلق لمنحدرات وسفوح العمل السياسي المعارض للسلطة، وهو ابن السادسة عشر من العمر!

 

تلاطمت عليه أمواج الأزمات العامة وتواترت نوبات الملاحقات الأمنية له، فتَجلَّت الأيام والسنوات له عن أصدقاء جدد استقروا في النفس، صاروا جزءاً من مكنون الذاكرة، وأفرزت أجواء الخوف له خصوم معروفين وآخرين مجهولين، كَبُرَت سني عمره حتى فاقت مداها الزمني، وشاخت عواطفه الفتية تحت ثقل (العَقْلَنَةِ) التي فرضتها عليه أزمنة التَفَكُّرِ في أقبية العمل السري المعارض...دون أن ينقطع حنينه وبكائياته على أهلة ومدينته وطفولته ومراهقته التي لم تترك (الملاحقات!) في ذاكرته منها سوى الحرمان وعتمة الأيام... إلاّ (ثريا) مضيئة... تخبو تارة وتسطع ابتسامتها بوجهه تارة أخرى كلما تَقَرَّبت إليه فتاة في حلك أزمنته!

 

بعد ما يقرب من ربع قرن أمضاها في الاختفاء والظهور المؤقت شبه العلني بعيداً عن أعين السلطة وهجير سنوات الغربة، عاد إلى مدينته يسأل عنها... وجد (قصر الباشا) مهجوراً... لكن صديق أبيه (الزاير رمضان) زارع الزهور في شارع دجلة حيث يقع القصر، مازال يواصل غرس الزهور وسط الشارع رغم انحناءة ظهره وبطءِ حركته... الذي أخبره:

غادروا المدينة جميعهم وتفرقت بهم السبل...

منهم من ذهب إلى البصرة وغيرهم إلى بغداد، وآخرين هاجروا إلى خارج البلاد قبل عشرين سنة بعد حادث اغتصاب سائقهم (غلوم) لابنتهم الصغيرة (ثريا)!

شعر بشواظ نار تتأجج في روحه...

سأله عن مصير (غلوم)؟!

أخبره إنه مات قبل عشر سنوات في السجن بعد أن تجاوز السبعين سنة من العمر!

سافر إلى البصرة لزيارة شقيقه... مهموماً بحادث الاعتداء على صِباه، رغم أنه لم يعرف أي شيء عن حياتها، ومآلها، وأين تكون.

عند وصوله إلى المدينة التي عُرف أهلها بانشغالهم بشؤون المعرفة قدر انشغالهم بأسباب الرزق... أمضى يومه الأول يتجول في معالمها المستقرة في ذاكرته... وجوهاً، صوراً، أحداثاً، بحثاً عن:

أزمنة مبدعة هجرها صنّاعها، أماكن خصبة هُجِّرَ عنها بُناتُها، حكايات لم تبرح الذاكرة ارتحل أهلها إلى الغيب! 

 

في المساء عندما دخل (نادي الميناء) عسى أن يلتقي بمن تبقى من الأصدقاء... قَلَّب نظره في الفضاء الأخضر يُنَقِّبُ في غشاوة الضوء الخافت الذي يَلُفُّ المكان عن وجوه يعرفها...شخصت عيناه إلى الطاولة المستديرة التي يغمرها قَطَرِ الرطوبة...تحت النخلة التي تتوسط الحديقة، حَدَّق إلى الوجوهٌ الذابلة التي غزتها الشيخوخة قبل الأوان... وجد بينها بعض ماضيه...فتقدم نحوهم...

 

عند انضمامه إليهم طرقَت مسامعه ذات الأحاديث الملتبسة التي كان طرفاً فيها قبل سنوات طويلة وأمست مُخَبَّأة في ذاكرته...كانت الحفاوة صاخبة والقناني فارغة... والوجوه ملونةٌ... انهالوا عليه بذات السؤال الذي يصفعه به كل مَنْ يلقاه من أصدقاء الأمس الذين تناهى إلى مسامعهم خبر اعتقاله ومقتله... كان (مقداد) (مفوض الأمن السابق الذي صار صحفياً يسارياً!) أكثرهم إلحاحاً وأشدهم فضولاً في استنطاقه... يكرر عليه بشفاه رخوة من فرط الثمالة:

كيف أنت؟!!

كـكـيكـ...ف. أأانت؟!

ذلك السؤال الذي ينهال عليه... كأنه يُضمر اندهاشا غير محمود:

كيف ما زلت حيّاً؟!

كأن البعض يستكثر عليه بقاءه على قيد الحياة إلى تلك الساعة التي يلتقونه بها، يؤججون في نفسه مجامر اليأس والملل من حياته المُعَفَّرة بالإحباط، المُثقلة بالهزائم، المُكَبلة بالخيبات... يُذَكِرُهُ ذلك بقول (لبيد بن ربيعة العامري):

قُضِيَ الأُمورُ وَأُنجِزَ المَوعودُ

وَاللَهُ رَبّي ماجِدٌ مَحمودُ

وَلَقَد سَئِمتُ مِنَ الحَياةِ وَطولِها

وَسُؤالِ هَذا الناسِ كَيفَ لَبيدُ!

 

أُتْرِعَتْ الكؤوس من جديد... تَقلَّبَت الألسن من أخبار السياسة الصادمة إلى نصوص الثقافة المشاكسة، مروراً بالنواح على أطلال العُشق المُهَمَّشِ المندثر في حياتهم، حَدَّ انفلات أسماء من كانوا يهيمون بِهُنَّ عن ألسِنَتِهم... أو اللواتي يخشون التشبب بِهُنَّ ... ومن بين الحاضرين من ذَكَرَ اسم (ثريا) بفعل عمله معها!

 

عرف أنها تعمل في فرع بنك رئيسي...

 

تبددت الثمالة من رأسه وغادرهم متذرعاً بالصداع الذي فاجأه... ساحَ على امتداد ساحل شط العرب، مُستسلماً لذاكرة صِباه، جالساً متفرداً بنفسه على الشريعة المُقابلة لـ(قصر آغا جعفر) ذو الشناشيل الخشبية المزركشة بمهارة فنان مجهول.

مع بدء الدوام في صباح اليوم التالي كان أول الواصلين إلى البنك... دخل الصالة الفسيحة والأنيقة للمبنى الكونكريتية ذو الطابق الواحد...كانت الموظفات منشغلات وراء المكاتب المرصوفة بثلاثة خطوط متراتبة متوازية... امتلأت أنفاسه بعطر أنثوي مثيرٍ حالما دخل إلى الصالة رغم زحام المراجعين... صار يُنَقِّبُ بين الوجوه عن ضالته... يستحي أن يسأل عنها...مستعيراً حِيَّلَ المراهقة في فِكْرِهِ لافتعال سؤال ينتشله من حيرته!

 

انقبضت روحه فجأة عندما سأل نفسه:

ربما تكون متزوجة فيُحرِجُها؟!

أو تكون فَظَّةً غليظة القلب... فتَزجِرهُ أمام الملأ فتَحرِجُهُ؟!

 

كان في كل مرة عندما يقترب من حافة المنصة الزجاجية التي تفصل الموظفات عن المراجعين... ويأتيه الدور، يتخلى عن دوره لمن يأتي بعده... غَيَّرَ طابور الانتظار أكثر من مرة، كلما وجد أن الموظفة التي تجلس لتسيير معاملات الواقفين في الطابور لم تكن هي، لأنه لم يجد صورتها في الذاكرة موجودة بين الفتيات الأنيقات خلف الألواح الزجاجية...تَراجَع للمرة الرابعة... وأبصاره تمسح بحذر وجوه الفتيات البعيدة والقريبة.

 

تقدم إليه أحد حراس البنك وانفرد به، مستجوباً إياه بجفاف...لكنه ما أن شخصت عينا "عروة" إليه وحَدَّق به شزراً... حتى بهتت ملامح (الحارس) ظَنّاً منه أنه من أهل السلطة والسطوة...فقال له بأدب مُتذلل:

أنا في خدمتك... هل تبحث عن شخص ما؟!

أفصح له عن مراده بنبرة آمرة... أخبره (الحارس):

(ابنة الباشا) مجازة اليوم وستحضر صباح الغد! 

 

ذهب في صباح اليوم التالي بذريعة فتح حساب في البنك، لكن حارس البوابة كان شخصاً آخر...

 

حال دخوله البوابة احتدم الشوق إليها في روحه، تقدم إلى موظفة الاستعلامات وسألها عنها... أشارت إلى غرفة زجاجية مُحْكَمَة المداخل تتوسطها فتحة صغيرة أنيقة للتواصل مع الآخرين... عُلِّقَتْ عليها لوحة نحاسية (مدير الفرع).

تقدم بخطوات مترددة ووقف أمامها وهي تسند رأسها إلى كفيها... تَفَحَّصَ أصابعها، لم يجد ما يوحي أنها متزوجة... تأملها وهي تُبحِر في ملف يبدو أنه شائك...

دون أن ترفع رأسها سألته بنبرة آلية:

أوراقك وهويتك أخي رجاءً!

قدم لها الهوية المدنية القديمة وفيها صورته يومذاك!

حَملَقَتْ بالصورة للحظات ونظرت إليه مصدومة من شدة الدهشة والاستغراب...

كأن ميتاً يخرج إليها من قبره...

انطفأت يديها على الطاولة... وعلِقَت عيناها المتسائلتين بعينيه التائهتين!

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.