اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

Beez5

حكاية ونَص: طِفلٌ قُرويٌّ يقرأُ ألواحَ الطينِ!// محمود حمد

محمود حمد

 عرض صفحة الكاتب 

من مجموعة (مرثيات سومرية)

حكاية ونَص: من أوراق سنوات المحنة التي لا تنقطع...

طِفلٌ قُرويٌّ يقرأُ ألواحَ الطينِ!

محمود حمد

 

بعد أن أدمنتُ متابعة أخبار الموت المتواتر المتنقل في بلادنا، صرت انقب في المنشور من الوقائع والمستور من الحقائق...بحثاً عن بصيص أمل قد يوقف عاصفة الموت التي أوقدها الاحتلال و(الحكام المستوردون!) بهشيم الوطن والإنسان الذي خلفه نظام الاستبداد!

 

صباح يوم (2007 / 1 / 8) قرأت ما نشرته الصحف المحلية عن تقرير لوزارة الخارجية الأميركية يفيد بأن نصف الأعمال الارهابية التي وقعت في عام 2006 بالعالم، حصلت في العراق حيث وقع فيه 6630 عمل إرهابي، أي بمعدل تسعة عشر عمل إرهابي في اليوم حصدت أرواح العراقيين، وبمعدل 33 جريمة قتل في كل يوم، على امتداد أيام السنة!

 

دون أن يذكر التقرير بأن دائرة الموت كانت تدور (بحماية مئات آلاف الجنود الأمريكان المدججين بالسلاح والكراهية)!

 

احتقنت روحي بالأسى وتعاظم سؤال طالما شغل فِكْري:

لماذا يستهدف الإرهابيون بمفخخاتهم الفقراء في أسواقهم وفي تجمعات بحثهم عن الرزق؟

هل لأنهم بلا حماية ولا قدرة لديهم للدفاع عن أنفسهم؟!

أم لأنهم لا ينتمون لعقيدة الموت والخراب...كونهم بُناة الحياة؟!

أم لأنهم هدف "سهل" يستطيع الإرهابيون من خلاله قتل أكبر عدد من الضحايا الأبرياء لإثارة الفزع وفق سيكولوجية الصدمة في عقيدة (فقه التوحش)!

أم لأن أهل السلطة متورطون في جرائم الإرهاب؟!...لذلك لا تقترب منهم العبوات الناسفة؟!!

لماذا كلما تناكف (المتحاصصون) حول غنيمة السلطة... تنفجر العبوات الناسفة في الأسواق فتطفئ حياة العشرات واحياناً المئات من النساء والأطفال والرجال الذين لم يترك البؤس فيهم ما يغوي "عزرائيل"، فيتولى (الجهاديون رُسل الله!) إشعال النار فيهم كحطب يابس؟!

 

انتبهت إلى الخبر العاجل على شاشة التلفاز، وخرجت من فضاء تَفَكُرِي ...عندما ظهرت على الشاشة بطاقة (الاستشهادي!) الذي فَجَّرَ نفسه وسط تجمع لـ(عمال المياومة)، وأظهرت لقطة سريعة أشلاء العمال البائسين المُقَطَّعة والمشتتة على الأرض، وبرك الدماء التي تغطي الرصيف والشارع، حيث كانوا ينتظرون من قبل بزوغ الفجر من يأتيهم ليسعفهم بفرصة عمل ليوم واحد كي يعودوا إلى أطفالهم برغيف خبز!

 

شعرت كأن غمامة ثقيلة سوداء تلبدت على ذاكرتي...وانا احاول استحضار صورة (الاستشهادي!) الذي ظهر على شاشة التلفاز!

 

بعد دقائق أعيد إذاعة الخبر...نعم لم اكن متوهماً...إنه (مصعب) ابن جارنا البقال (عبد الغني) ...الذي كان يشكو دون تحفظ لمن يأتي إليه للتسوق من سيرة ولده المراهق، ويعبر له عن عجزه من منعه المبيت خارج المنزل مع أشخاص لا يعرفونهم وفي أماكن مجهولة...وعن خشيته عليه من أحاديثه أمام أمه حول (تكفير أبيه وأمه والناس من حولهم!) ...وعن استيائه من شكواه التي لا تتوقف أمامهم عن (هدر حقوقه!) وتعبيره الصريح عن كراهيته للآخرين إلاّ (نَفَرٌ) لا يُفصِح عنهم!

 

ولم يكف (عبد الغني) عن قلقه على ولده من غربته عنهم رغم عيشه في كنفهم...وفزعه منه في الفترة الأخيرة عندما كان يسمعه يدعو لـ (إزالة الرؤوس بقوة السلاح!) ... لأنهم (كفار وأنجاس!) ...دون خشية أو حياء من أمه وأبيه!

 

فجأة ظهر (عبد الغني) في لقاء تلفزيوني معبراً عن صدمته وندمه لتستره على ولده الوحيد، ظنَّاً منه أن ما كان يسمعه من ابنه (مصعب) هو مَحْضُ ثرثرة فتى مراهق لا يعني ما يقول... وأن سلوكه العدواني العنيف في المنزل تجاه أمه وأبيه لا يعدوا كونه هيجان صبياني أجوف لا يمتد أثره خارج جدران المنزل... لكن ما تركه خلفه من تسجيل لوصية (المجاهد في شهر الغزو والجهاد!):

إن دماءنا رخيصة من أجل (انتزاع سلطان الله المغتصَب ورده إلى الله وطرد المغتصبين له!)

هز كيانهم!

 

استحضرت ما كتبه سيد قطب في كتابه (معالم الطريق) الذي يكرسه لفكرة (قهر المجتمع والانتصار عليه!)، لأنه (مجتمع كافر!) في عقيدته...

تلك العقيدة التي وضعت جميع المجتمعات في دائرة (الكفر والرِدَّةَ عن دينِ اللهِ) ...بما فيها المجتمعات (الاسلامية) التي يعيشون فيها...حيث يقول: 

(تدخل في إطارِ المجتمعِ الجاهلي تلكَ المُجتمعاتُ التي تزعمُ لنفسِها أنها مسلمة، لا لأنها تعتقدُ بألوهيةِ أحدٍ غيرِ الله، ولا لأنها تُقدِّمُ الشعائرَ التَّعَبُّديةَ لغيرِ الله، ولكنَّها تدخلُ في هذا الإطار يعنى الإطارَ الجاهلي والرِدَّةَ عن دينِ اللهِ؛ لأنها لا تَدينُ بالعبوديةِ للهِ وحدَهُ في نظامِ حياتِها)!

قبل يومين تلقيت من صديقي (صفوان) سؤالاً عبر الشبكة العنكبوتية:

من يجعل شاباً في مقتبل العمر يختار الموت انتحارا ليقتل عشرات الناس الذين لا يعرفهم؟

وأحيانا يعرفهم ومن بينهم أهله وذويه؟!

فكتبت إليه ملخص الحوار الذي دار في منزلي ليلة أمس مع عدد من الأصدقاء حول ذات الموضوع:

في البيئات المحلية المهمشة والمغلوب على أمرها، ينظر السكان إلى الجماعات الإرهابية أو الجماعات المتطرفة العنيفة، على أنها خط دفاعي عنهم ضد التهديد بالعنف من جماعات أخرى مختلفة عنهم، تهدد وجودهم أو مصالحهم أو أمنهم!

وفي ظروف بلادنا يجدون أن تلك الجماعات الإرهابية تشكل حماية لهم من الدولة التي يهيمن عليها خصومهم الطائفيون!

لذلك لا يستبعد أن بعض العوائل في تلك المجتمعات المحلية تدفع بأبنائها من الفتيان للانضمام إلى صفوف الجماعات الارهابية أو تتستر على انضمامهم لها!

وخاصة عندما تضعف الدولة...

وفي الفترات التي تنحسر فيها الحاضنة المجتمعية للجماعات الإرهابية بين السكان، ويكون من العسير عليهم تجنيد البالغين...يلجؤون إلى تجنيد الأطفال لمواصلة عملياتهم الإرهابية على الرغم من تناقص الدعم السكاني لهم، ويستخدمونهم كمفخخات انتحارية متنقلة لتنفيذ عمليات إرهابية صادمة!

مستغلين هشاشة وعيهم واغوائهم إلى عقيدة:

(الموت كسبيل لحياة أُخرى أفضل...ينعمون فيها برخاء العيش ويستمتعون بمضاجعة حور العين ويتناولون العشاء مع الرسول)!

 

وتبدأ رحلة الاستدراج تلك باغتراب أولئك الشباب عن أنفسهم، واحتقارهم لكينونتها ولذاتها المستقلة، واستمتاعهم بالانخراط في الجماعة والذوبان فيها، بحثاً عن (نفس) جديدة مُتَخَيَّلة، (نفس) تحتقر الحاضر (الكافر والفاسد) وتنتحر من أجل العبور إلى العالم الآخر المُتَخَيَّل...

عالم الأبدية الذي لا عناء فيه!

في تلك الظروف يخضعونهم لشحن نفسي ضاغط دون فكاك، وعزلة مطبقة عن الآخرين، ومسخ عقلي مثقل بالتهديد والوعيد...

فيخضعون لإرادتهم مستغلين وهن عقولهم وطيش عواطفهم، وغياب القدرات الفكرية الاستقصائية التي تفصل بين الحقائق والأوهام!

وكذلك نتيجة ضعف المنظومات القيمية التي تمنعهم عن أذى النفس والإضرار بالآخر!

وختمت رسالتي...

لكن رغم كل ما تخلفه تلك الأعمال الإرهابية...هناك:

طِفلٌ قُرويٌّ يقرأُ ألواحَ الطينِ!

 

طفلٌ قُرويٌّ في الصَفِ الأولِ يَفتحُ صَفحاتَ التاريخِ بقمراءِ "الحلةِ" (1) ...

يَعبرُ في وجلٍ قِنطرَةً من قَصَبِ البَردي...

يَقطِفُ سُنبلَةً يابسةً من حقلِ العَنْبَرِ...

يَنثُرُها فَوقَ سكونِ الغَيمِ الراكدِ...

يَمطُرُ خِصْباً في مَدياتِ الحاضرِ!

يَفتحُ نافذةً في جدرانِ "الوركاءِ"(2) ...

برمشِ العَينِ!

يَمسحُ أثقالَ الآلافِ السِتَّةِ من أعوامِ الهَجْرِ المُتواتِرِ...

يَلمَحُ إنساناً عُريانًا من سومر...

تَحْتَ لهيبِ الشَمسِ الحارقِ!

****

يَتَهَجّى...

يُبْدِعُ أوَلَ حَرْفٍ في تاريخِ الإنسانِ الساعي بين تَضاريسِ الأرضِ...

يوشِمُ حاجاتٍ...صوَراً...

فَوقَ جُفونِ الألواحِ الطينيةِ!

يَرقِبُ "بَيتَ الألواحِ" (3) بـ(سومر)...

تَنهَبُهُ قطعانُ لصوصٍ من أهلي وجنودُ المُحتَلّين!

يَتَوسَلُ "اومِّيا" (4) كُلَّ "الأنوناكي" (5) ...

بَعْدَ "دُعاءِ المَفجوعِ" لرَبِّ الأربابِ:

"أنْ يُنقِذَ إرْثَ الأجدادِ...

ولُقمَةَ عَيشِ الأحفادِ...

وحياةَ بناتِ بلادي والأولادِ"!

****     

يَشْهدُ والدَهُ يُحْمَلُ أشلاءً من تَحتِ حُطامِ السياراتِ المَحروقةِ...

يَلحَظُ إصبِعَهُ مُنفَرِداً يومِئُ نَحوهُ...

يَنحَبُ حُزْناً...

يَتَذكَرُ ذاتَ الإصبَعِ يَحميهِ...

مِنْ جَورِ “سُعادٍ" زوجُ أبيهِ!

يَهرَبُ مُرتَعِداً للأُفُقِ المُغلَقِ بالدباباتِ الوَحشيةِ...

وسيوفِ الذَبّاحين...

يَبحَثُ عن جَدَثِ الأُمِّ المَنسيِّ...

لا يَعرِفُ دَرباً نَحوَهُ...

يَتَذَكَرُ آخرَ "جمعة"...

حَسَراتَ الأخت المهضومةِ...

وبكاءَ أبيهِ...

ودُموعٍ ساخنةٍ فاضَتْ فوقَ أديمِ القَبْرِ المَتروكِ "وَديعَة"!

****

لَمْلَمَتْ "الوَثبةُ" (6) أطرافَ عباءتِها...

حُضُناً للطفلِ القُرَويِّ القادِمِ من "أوروك"...

ضَمَتْهُ بِدِفءٍ للصَدرِ المُثقَلِ بالآهاتِ...

تَتَلَمَسُ جَبهَتَهُ المَعروقَة...

تَسألُهُ...أنْ يَحذَرَ من ثُعبانٍ يَزحَفُ سِراً تَحتَ رصيفِ "المُتَنبي" (7)!

****     

"مَعروفٌ" (8) طَمْأنَها:

هذي نَوبَة عَصْفٍ مُرْتَدَةٍ...

لا تَسفي إلاّ القِشَّ اليابسَ...

والأقدامَ المُهْتَزَّةِ...

أوْقَدَ غَليوناً من تَبِغِ الأهلِ بكوردستان...

ونادى للطفلِ الراقِدِ في أكنافِ "الوَثبةِ":

لا تُفْشي أسرارَ "الألواحِ الطينيةِ" للغرباءِ...

تَشَبَّثْ بشواطئِ دجلةَ والوركاء"!

****

يُشَدِدُ بعضَ حُروفِ الكلماتِ:

مُذْ خَلَعَتْ " ابنةُ فِهرٍ" (9) أكفاناً سوداً...في مَطلَعِ قَرنِ التَغييرِ...

اليومُ تَعودُ إلى كابوسِ الأكفانِ...

وأنا في ذاتِ الوَقفَةِ أرنو لشروقِ الشَمسِ...

صَوتٌ يأتيني من رِمْسٍ...

يَدعوني للصَمتِ الأبَديِّ...

وآخَرُ يَتَدَفقُ من روحي..

يُقْحِمُني وسطَ التيّارِ...

أخلد لليَقظَةِ...

لا تُغْمِض عَيناً خُلِقَتْ للنورِ بِرَغمِ الظُلمَةِ!

 

(1) الحلة: مدينة بابل التاريخية وموئل المعرفة في زماننا.

(2) الوركاء :(اروك).. أشهر مدن السومريون.

(3) بيت الألواح: اسم المكتبة عند السومريين قبل ستة آلاف سنة.

(4) اومِّيا: وتعني مدير المدرسة قبل ستة آلاف سنة في سومر.

(5) الأنوناكي: مجمع إله السماء والأرض في ملحمة قصة الخليقة البابلية (إنوما- اليش).

(6) الوثبة: ساحة الوثبة المعروفة في بغداد التي يتوسطها تمثال الرصافي الكبير.

(7) المتنبي: شارع المتنبي الشهير بالكتب وبائعيها ومشتريها من كل أنحاء العراق.

(8) معروف: هو الشاعر العراقي معروف بن عبد الغني الرصافي.

(9) ابنة فهر: المرأة...التي قال فيها الرصافي: أسفري يا ابنة فهر فالحجاب ليل طويل...!!!!

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.