اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

يوميات حسين الاعظمي (1165)- ميانة البنجكاه قتلتك يا يوسف

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

حسين الاعظمي

 

عرض صفحة الكاتب 

يوميات حسين الاعظمي (1165)

ميانة البنجكاه قتلتك يا يوسف

 

      منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين، وتحديدا في عام 1978 تسلّمتُ ادارة فرقتنا الاثيرة (فرقة التراث الموسيقي العراقي) التابعة الى دائرة الفنون الموسيقية بوزارة الثقافة والاعلام. ثم اضيف بعد حين فرقة التراث الاخرى التي تاسست حديثاً الى ادارتي ايضاً (فرقة الظل للفرقة الاولى) وفي ثمانينيات القرن المنصرم، بدأنا باقامة مهرجان فني تحت مسمى (مهرجان المقام العراقي) واتذكر اننا وصلنا في تسلسل اقامته الى تسعة (9) مهرجانات للمقام العراقي..! حيث توقف الامر في نهاية الثمانينات. وفي المهرجان الرابع الذي اقيم بمناسبة ما سمي بـ(رد العدوان) حين شارك معنا المطرب الكبير يوسف عمر لاول مرة رغم انه كان قد شفي نسبيا من مرضه توّاً، بعد عملية جراحية كبيرة اجريت له في رأسه بمستشفى ابن البيطار. وقد كان وزير الثقافة والاعلام لطيف نصيف جاسم قد رعى هذه الحفلة والمهرجان مع بعض الشخصيات الاخرى. فكان لمشاركة الفنان يوسف عمر اثر كبير على نجاح هذا المهرجان، الامر الذي ادى بالسيد الوزير ان يدعو كل المشاركين في المهرجان بعد ايام قلائل الى مكتبه بالوزارة يوم 1/تشرين2/1984. وخلال جلسة الاستقبال هذه، اقترح الوزير اقامة حفلة خاصة للفنان يوسف عمر تكريما له. وبعد ان اقيمت امسية التكريم هذه التي ادت في النهاية الى توقف مسيرة الفنان يوسف عمر تماماً..! كتبتُ مقالة عنها وانا متأثرا بما حصل خلالها وبعدها تحت عنوان (ميانة البنجكاه قتلتك يا يوسف) ولا اتذكر اني نشرتها سابقاً، وهذه هي المقالة.

*******

ميانة البنجكاه قتلتك يا يوسف

      (((اخذت دائرة الفنون الموسيقية على عاتقها مهمة اقامة هذه الامسية التكريمية التي حدد تاريخها في 16/11/1984. وقد حضر المحتفى به الفنان يوسف عمر رغم مرضه الذي لم يشفى منه تماما بعد. حيث شاركت مجموعة من الشباب من مغني المقام العراقي في قوام هذه الامسية، ولكن فناننا المحتفى به أبى إلا أن يشارك في امسية تكريمه.

 

      مقام البنجكاه ينتمي الى مقام الرست(رست السوزناك، الجنس الاول رست والثاني حجاز) مع التذكير ان مقام الرست استقراره العلمي على درجة الـرست (دو) الواقعة في الخط الاول الاضافي تحت المدرج الموسيقي، ومقام البنجكاه غالبا ما يؤدى من قبل معظم مغني المقام العراقي مصورا على درجة الـ فا، أي الواقعة في الفراغ الاول من الاسفل في المدرج الموسيقي(الخطوط الخمسة الموسيقية) المسماة علميا درجة الجهاركاه. في حين ان الفنان يوسف عمر اعتاد غناء مقام البنجكاه على درجة النوى منذ بواكير مسيرته الفنية، أي على درجة الصول الوسطى الواقعة على الخط الثاني من اسفل المدرج الموسيقي، وهي طبقة غنائية عالية نسبيا وصعبة في الاداء على معظم المغنين المقاميين. وبالتالي فان غناء مقام البنجكاه على هذه الطبقة صعبا بصورة اكيدة، خاصة وان يوسف عمر يمر بظروف صحية محرجة..! ولكنه رغم كل ذلك أبى إلا أن يجازف ويغامر ويشارك ويغني مقام البنجكاه كعادته مصورا (رست على درجة النوى..!) وكأنه يريد أن يقول لنفسه ولكل الجماهير بأنه ما يزال قويا لم تنتهي مسيرته بعد، ولكنه في النهاية قدم صحته وحياته ثمنا لها..!

 

       لقد كان محور المجازفة والمغامرة الغنائية هذه لمطربنا يوسف عمر في ادائه للميانة(هامش1) العالية التي ينتقل فيها من غنائه لرست البنجكاه الى جنس الحجاز الذي يقع في هذه الحالة (حجاز على درجة المحير) الواقعة على الخط الرابع من اعلى المدرج الموسيقي، اي جواب درجة ري الدوكاه الواقعة تحت الخط الاول من الاسفل للمدرج الموسيقي. وعلينا ان نتصور كما ان يوسف عمر كان مجازفا بصحته في ادائه هذا..! وهو في اواخر عمره وظروف صحته المقلقة.

 

       فاجأ يوسف عمر الجميع بصيحة الميانة بلفظة(إي) مستمرا بها لا يتوقف إلا بعد يشبع رغبته اولا ويثير السامعين والمشاهدين ثانيا لتبدأ بعد ذلك عاصفة التصفيق المكثف ويعرب الجميع عن استحسانهم وابتهاجهم ورضاهم، حينها يقنع بتوقفه من صيحة الميانة..!

 

     كنتُ واقفا قريبا من الفنان يوسف عمر وهو يغني، شاهدته وسمعته وهو يغني اجمل ما غنى في حياته، معبرا عن تجربة غزيزة بالعطاء والنجاح. في جوٍ نادر جدا من التحام وانسجام الجمهور مع المطرب، وكأن كل الحاضرين عائلة واحدة يعرف احدها الاخر. رغم ان صعوبة اداء الميانة قد فرضت نفسها وهو مصرا على تكملتها. حيث هبط صوته اكثر من نصف درجة صوتية بحكم العمر والحالة الصحية التي كان يعاني منها، فبقي ضاغطا على صوته ونَفَسِهِ. وقد قلتُ بصوت خافت مع نفسي وانا استمع الى نزول في صوته اكثر من نصف تون وارى ما يحدث(آه عليك يا يوسف..!) حيث لم يدر بخلده انه يغني لآخر مرة في حياته..! فكانت هذه الامسية هي بداية النهاية لحياته التي ملئها مقاما وتراثا وشعبية ومحبة جماهيرية. فلم تمضِ الا اياما قليلة حتى اتصل بي عازف الكمان الشهير فاروق العبيدي الذي كان متعهدا لحفلات خان مرجان ليخبرني بان يوسف عمر سقط بجلطة دماغية مرة اخرى، وكلفني ان انزل بديلاً عنه في اماسي يوم الخميس من كل اسبوع حيث كان يوسف عمر يغني كل خميس وانا اغني في كل يوم احد.

 

       من ناحية اخرى، كانت امسية تكريم يوسف عمر مؤثرة في نفسيته كما يبدو. فربما شعر بأن حفلة التكريم ما هي الا تعبير خفي عن وجوب تقاعده، وهي الاعلان الضمني عن بلوغه السن الذي ينبغي ان يتوقف عنده. بيد انه عزم على التحدي، ربما لانه لا يمتلك شيئا في حياته يعتز به سوى المقام العراقي، وهو ارجح الظن..! انه في تحديه وغنائه لمقام البنجكاه على درجة النوى نابع عن شخصية ونفسية خاصة، فقد كان يمتلك حالة معنوية مرتفعة جدا، بل مدهشة..! فخلال اكثر من ثلاثة عشرة سنة، وهي السنوات الاخيرة من حياته التي تعرّفتُ فيها عليه شخصيا، اكتشفتُ فيه اهم ما يميِّزه عن الاخرين..! وهي الثقة بالنفس المذهلة عندما يغني المقامات العراقية، فلم اشاهده قد اهتز من منافس يوما..! فهو لا يهتز ولا يرتَجُّ ولا يتخاذل، بل العكس هو الصحيح. لذا نجده لا يقنع بمسالة ان للعمر او للصحة حق..! من هنا غنى مقام البنجكاه على درجة الصول في امسية تكريمه وهو في هذه الحالة الصحية، غير آبه بشيء فهو قوي وسيبقى قويا..!

    اذكر انني زرته اكثر من مرة، وابى الا ان يغني وهو على فراش المرض، وقد سجلتُ له بعض الاحاديث على شريط كاسيت.

 

     اخيرا اود ان اذكر ان تسجيل امسية تكريم يوسف عمر، تم باخراج المرحوم سعد محمود حكمت. باجهزة ستوديو دائرة الفنون الموسيقية، وتم ايضا اخفاء هذا الشريط بايعاز من قبل المدير العام للدائرة المرحوم منير بشير، لكنني استطعتُ ان انقل هذا التسجيل كله نسخة اخرى خلسة دون علم احد..! وما زلتُ امتلك هذه النسخة النادرة.

       رحمك الله يا يوسف، فقد كانت ميانة البنجكاه سببا مؤثرا في نهايتك))).

 

والى حلقة اخرى ان شاء الله. 

 

هوامش

       1 - هامش1: الميـانة-  هي احدى العناصر الخمسة المكونة لشكل غناء المقامات العراقية، ويأتي غناؤها بطبقة صوتية عالية بعد العنصر الثالث (الجلسة) مباشرة ذات شكل ومسار لحني معين ثابت، وأهم مقومات هذا العنصر الرابع (الميانة) هو ثبات هذه الصيحة في مسارها اللحني واختلافاتها في كل مقام على حدة.

 

 

اضغط على الرابط

يوسف عمر / مقام البنجكاه

https://www.youtube.com/watch?v=oTGbRnUsN20

 

 

صورة 1 / استقبال الوزير ليوسف في مكتبه مع بعض الفنانين وهم من اليمين جبار سلمان وفاروق الاعظمي وفوزي سعيد وسعد الاعظمي ووزير الثقافة والاعلام لطيف نصيف جاسم وابراهيم العبد الله ويوسف عمر وعودة فاضل والمدير العام منير بشير وحسين الاعظمي والسائق التي اتى بيوسف 1 /11 /1984 .

 

 

صورة 2 / حسين الاعظمي في زيارة يوسف عمر  نيسان 1986 اي قبل وفاته بشهرين تقريبا.

 

 

صورة 3 / في باب معهد الدراسات النغمية العراقي 1975 يقف في اليمين حسين الاعظمي ويوسف عمر ومحمد كمر ومحمود حسين والاستاذ شعوبي ابراهيم.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.