اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

السذاجة والعقاب// صائب خليل

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 

الموقع الفرعي للكاتب

السذاجة والعقاب

صائب خليل

 

كتب دوستويفسكي روايته التراجيدية الخالدة "الجريمة والعقاب" ليطرح علناً أمام المجتمع الروسي والعالمي، أسئلة تعلمت الإنسانية منها الكثير. لكن الظروف تغيرت كثيرا، ولم يعد "العقاب" مرتبطا بـ "الجريمة"، بقدر ما هو مرتبط بـ "السذاجة"، التي يدفع صاحبها دائما، ثمنا باهضاً، فهي جريمة العصر.

 

المراقب لما يجري للإنسان في العراق اليوم، يلاحظ أن هناك اندفاعاً بل ودفعا متعمداً إلى البلاهة و “السذاجة”، ودفع العقل بعيداً بكل الوسائل الممكنة، وأهمها: "اليأس" حيث “يدفعونا لأقصى حالات اليأس، لنتعلق بالسراب”. وكذلك الإكثار في الإعلام من الكلام الفارغ والأخبار التي تهدف إلى دفع المرء نحو الهبل.  وأخيرا باستبدال الحديث والمناقشة، بالصراخ والعويل والضغط لقبول الهراء كما هو، كما يظهر هذا المشهد المسرحي في الرابط، مع شحنة واضحة من الترهيب والردع. (1)

 

كل هذا الهيجان، الذي لا اشك لحظة واحدة في انه معد ومخطط بشكل دقيق، أنتج ثماره، فاندفع الكثير ليجعلوا من أنفسهم ليس فقط بوق ترويج للهراء، وإنما أيضا هراوات شتائم واتهامات لكل من يتجرأ على التشكيك بالنوايا، بل وحتى الدعوة إلى المراجعة والتفكير بالخطوة التالية. وليس ذلك لخبث في النفوس، بل هو اليأس وإعلام الهلوسة وجو ردع التفكير. كلها تعاونت لتعطي السراب جسماً ولونا ورائحة، ليستمر مسلسل التعلق بالسراب تلو السراب.

 

قبل أكثر من سنة، جاء العبادي بعد فترة حكم سيئة جداً من المالكي. وكان استسلام الأخير لضغوط كردستان وأميركا (رغم مقاومته بين الحين والآخر) قد بلغ الذروة، حيث بلغت الوقاحة في كردستان انها بدأت تصدر النفط بنفسها، ولم تسلم أي نفط لسنة كاملة، وكانت رغم ذلك تستلم حصتها من الميزانية كاملة (كقروض لن تدفع)، قبل ان يوقفها المالكي لبضعة أشهر، ربما بتأثير قرب الانتخابات. إضافة إلى ذلك فقد ترك المالكي الإرهاب يسرح ويمرح بلا أي إجراء ضده، فلم يوقف جريمة استعمال أجهزة كشف المتفجرات المزيفة، ولا فضح امتناع اميركا عن تسليم جيشه أسلحة تم دفع ثمنها، ولا طارد القاعدة وداعش عندما كان ذلك ممكنا وأمن طريق الخونة من الضباط الذين سلموا الموصل لداعش، ان يفلتوا من العقاب وغيرها..

 

كان اليأس قد بلغ ذروته، عندما جاءت اميركا وكردستان لنا بالعبادي وحكومته، في حركة غير طبيعية، فأصابت الناس موجة أمل. قارئة كتبت تطلب مني ان اكتب متفائلا هذه المرة! لكني خيبت املها بالوقائع. فكل المؤشرات كانت تؤكد بوضوح لا مجال للشك به، أن العبادي كان مؤامرة أمريكية بأياد كردستانية، لذلك فأن المنطق يقول إنه سيكون أكثر خضوعاً لهما ممن سبقه، فهم لم يأتوا به ليعارضهما، ولا مفر من أن يدفع ثمن الكرسي، وعلى حساب الشعب العراقي طبعاً. ولم تكن إلا أسابيع قليلة حتى سلم كردستان حصتها من الثمن، وسلم أميركا بعض حصتها (باستقدام جيوشها التي طردت) وحاول دفع مشروع الحرس الوطني ففشل، لكنه تمكن من وضع الحشد تحت سلطته ومنعه من التدخل في العديد من المعارك، ووضع على رأس هيئته أحد عملاء أميركا، فالح الفياض، وامتنع عن التصرف بعد تقرير برلماني فضح دعم الأمريكان لداعش وضربهم للحشد، وحمى داعش من صواريخ روسيا بامتناعه عن دعوتها لضربها، بل جاء بدلا من ذلك بالتحالف الدولي (مع داعش) ليدعمها ويرسل بين الحين والآخر الهراء والسخرية للعراقيين عن تحقيق ضربات وهمية يسخر منها الناس.(2)

كذلك وقع العبادي اتفاقيات مع عصابات المال الدولية و "طوّر" الاتفاقية النفطية سيئة الصيت مع الأردن، وأسهم في المؤامرة الأمريكية لخفض أسعار النفط التي كانت بلاده من اهم ضحاياها، وهو يحاول الآن تغيير عقود نفط التراخيص بأخرى أنسب للشركات، وما يزال يسعى لفرض الحرس الوطني وتجزئة العراق إلى محافظات مستقلة، كما يقتضي ثمن الكرسي. كذلك هناك أثمان أخرى ستأتي تباعاً بلا شك، بشكل قانون العفو العام الذي سيعيد بعض أهم عملاء أميركا إلى السلطة، وقانون النفط الذي سيثبت ويشرعن اعتداءات كردستان على حقوق العرب، وأخيراً توقيع عقود أكثر إجحافا مع شركات النفط، وربما تنازلات أخرى لعملاء إسرائيل في المنطقة مثل الأردن وتركيا.

 

ارتكب العراقيون "جريمة السذاجة" فعوقبوا عليها، لكنهم عادوا يتظاهرون لصالح العبادي ويطالبونه بـ "الإصلاح" بمنحه صلاحيات أكبر! طالبو الرئيس الأفسد بـ "الضرب بيد من حديد".. وبأن يتجاهل الدستور والبرلمان ويتصرف! رغم ان الرجل، كان يتصرف كأسوأ لص وعميل أمريكي في اية فرصة. فوضع مثلا عادل عبد المهدي على النفط وزيباري على المالية، وهي جريمة بحق الوطن، لا يقوم بها إلا شخص مستعد لبيع ليس وطنه فحسب، بل أمه وأبوه في سوق النخاسين!

 

واليوم يتكرر دفع العراقيين إلى ارتكاب "سذاجة" كبرى، ربما للمرة الأخيرة. وما مجيء الضباع الكبيرة إلى البرلمان قبل أيام إلا لمصمصة بقايا عظام الجثث المنتظرة. ويسير العراقيون في هذا السذاجة وراء الأوهام التالية ويردعون تبرعاً كل من يعترض:

 

التكنوقراط: لفظة وهمية انتشرت هذه الأيام في العراق، وتعني عموماً تسليم الحكم لمجموعة عالية التقنية من الناس. والكلمة وهمية لأنها لم تطبق حقيقة حسب علمي في أي زمان أو مكان. فهناك دائماً وراء ستار التقنيين، حاكم (دكتاتور) يأتي بالخبراء التقنيين لتمشية قراراته السياسية الفردية، فالسلطة قرار سياسي وليس تقني. ويتم الهتاف لهذا الوهم دون أن يحاول أي من دعاتها أن يثبت ان مشكلة العراق كانت تقنية، وأن الوزراء خربوا البلد لأنهم لم يكونوا "يعرفون" كيف يحلون مشاكله التقنية، ورغم تأكيد الجميع أن الفساد هو المشكلة، أي ان المشكلة أخلاقية، ورغم أن الفساد ينتشر في "التكنوقراط" بشكل لا يقل، إن لم يكن أكبر من غيرهم، وان الكثير من دول العالم تحطمت بلصوص “تكنوقراط”. الصحيح أن يراقب الشعب ساسته وتقنييه ليضمن مصالحه بدلا من الثقة بالتكنوقراط.

 

الأحزاب والكتل السياسية: أكره كلمة على العراقي اليوم هي الأحزاب والكتل السياسية! إنه يرى ان هذا التركيب هو سبب مصيبته، رغم أنه يعمل في كل العالم بشكل ممتاز، ولا يوجد في العالم حكم بدون أحزاب وكتل سياسية، إلا تلك الشديدة التخلف. والإصرار على تحطيم الأحزاب، يشبه غضب جماعة اختارت سائقا سيئاً، فلما أوصلها إلى ورطة، لم تكتف بالغضب على السائق، بل تصر على تحطيم السيارة أيضاً! فالأحزاب (وغيرها من المؤسسات) لا مفر منها، وهي أدوات جيدة إن أدى الشعب واجبه في الرقابة وأحسن اختيار من يستعملها.

 

المحاصصة: هي "الشراكة" بين الفاسدين لتقاسم ثروة البلد. المشكلة مرة أخرى في الفساد لكن الغضب يوجه إلى "الشراكة"، وكأن الفاسد المفرد الذي لا شريك له، شيء مقبول أو أفضل. الحل في أن يؤدي الشعب دوره في المراقبة لا ان يشمئز من الشراكات.

 

مجلس النواب: مجلس النواب أداة أيضا، وهو صوت الشعب ولا يمكن ان يكون سيئاً، إلا إذا فشل الشعب في أداء واجبه الرقابي والانتخابي. ولم يكن البرلمان في أي مكان في العالم جهازاً سيئا بذاته ولم يتحسن أداء أي بلد، القيام بإلغاء برلمانه أو دستوره أو أحزابه، بل العكس تماما. ورغم ذلك يصب الشعب كل غضبه على البرلمان ويطالب بإلغائه، وكأنه غاضب على صوته وخياره هو، ويعمل على حرمان نفسه من التأثير على السلطة، وينتظر أن ذلك سوف يحسنها! كيف يكون المجلس جيداً؟ بالمراقبة المستمرة للنواب وتحسين الاختيارات مع كل عملية انتخاب، فكل الشعوب تراقب نوابها وما يصوتون له، إلا الشعب العراقي، قبل بـ "سذاجة" قاتلة، ان تحجب معلومات التصويت عنه، فلم يكن يهتم بما يصوت به ممثله، فهو "يحبه" ولا يتحول عن موقفه، لا تزحزحه الحقائق ولا الخسائر، ومازال عبدة المالكي يعبدوه وما زال من رأى في العبادي أملا، كما كان، ومازال السنة ينتخبون سفلتهم.

 

المستقلين: لفظة لا تحدد شيئا، سوى أن الشخص لم ينتم إلى حزب (حالي). والحماس للمستقلين رغبة بالانتقام من الأحزاب الحالية، تحولت الى فرضية عجيبة هي أن كل من داخل حزب هو فاسد وكل من ليس كذلك، شريف! المشكلة في هذه الفرضية أنها إن نفذت، ستأتي بجماعة ليس لها رأي سياسي، لتكلف بصناعة القرار السياسي في العراق! وطبعا سيكون هناك من يملأ الفراغ من خلف الستار! والمستقل أكثر عرضة للفساد بكثير، لان سهل الهرب وليس لديه كتلة قد يعاقبها الشعب في الانتخابات. بدلا من هذا الحل الذي سيزيد الطين بلة، كان على الشعب ان يؤدي دوره ويراقب ويكون حازماً.

 

الفساد: كلمة واضحة، لكن تحديد الفاسدين في العراق متروك للإعلام، وهو أشد الفاسدين لأنه جهاز امريكي إسرائيلي تم تصميمه لتدمير الشعب العراقي! لو سألنا الشعب اليوم، من هم الساسة الأكثر كراهية (أو فساداً) في الساحة العراقية، لأشر بدون تردد: "الشهرستاني"، "الجعفري"، وربما أضاف "الفتلاوي" ومولاتها في كردستان وتحدث مليارات علي الأديب، او يقول لك "كلهم فاسدين".. كلام فارغ. فالفساد الحقيقي عند وزير الدفاع وصفقات أسلحته المغشوشة التي لا يتحرش بها الإعلام، وعادل عبد المهدي الذي وقع الـ 17% والاتفاقات النفطية مع كردستان، والعبادي صاحب عقود الجوال عندما كان وزيرا وأكثر منها عند رئاسته الحكومة الأفسد. وعند ساسة الكرد الذين وقعوا مع الشركات أسوأ عقود نفط في العالم وليس عقود الشهرستاني الجيدة، ولم يثبت أحد ان لدى الفتلاوي أي مولات، وكما ان "علي الأديب" ليس في قائمة اعلى المليارديرات في العالم كما يوهمنا الإعلام. لقد ترك الشعب للأعلام الأكثر فساداً أن يقرر له من هو الفاسد ومن هو الخيّر، مثلما ترك له بقية الأمور، فلم يكن الحاكم الواعي لبلاده.

 

مقتدى: مقتدى زعيم تيار سياسي، لم يعرف له جهود لمحاربة الفساد بين وزراء تياره، لكنه يغضب فجأة ويعتصم ويطلب الطاعة! وهو رجل بسيط التعليم، ورغم ذلك يعطى دكتوراه فخرية ثم يقبل منه أن يرشح "تكنوقراط"! لو كان الهدف أن يقوم بترشيح أشخاص موثوقين لأمانتهم، لربما فهمنا الأمر، لكن كيف يقوم شخص بتعليم ابتدائي أو ربما اعدادي، باختيار بروفسور الاقتصاد أو دكتوراه الكهرباء أو النفط المناسب للبلاد؟ ما هي المشكلة التقنية التي حللها السيد مقتدى وتوصل أن الحكومة الحالية لم تستطع حلها لضعفها التقني، وأن "التكنوقراط" الذي سيأتي به، سوف يحلها؟

الأسئلة تبدو أقرب إلى النكتة، لكننا لا نضحك لأننا تطبعنا وصار حالنا نكتة!

أسئلة أخرى، ترك: الإنذارات "النهائية" تتوالى على العبادي لتقديم القائمة التي قدمها الصدر. ولنفرض أنه فعل ذلك، كيف سيحكم البرلمان عليها، وأكثرها شخوص غير معروفة ولا توجد معلومات عنهم حتى على النت؟ كيف تريدون ان يصوت ممثلكم تحت التهديد العلني، وأنتم فرحين بذلك؟ من أين تأتي سلطتكم وتأثيركم على "التكنوقراط" الجدد؟ هل سيجرؤ نائب على محاسبة أي منهم؟ هل سيحق لكم ان تحاسبوا النواب إن لم يفعلوا بعد أن أجبرتموهم على الموافقة؟ هل إن وافق البرلمان عليها تكونون سعداء؟ ما ادراكم ان القائمة ليست محشوة بعملاء أميركا وإسرائيل والفاسدين الجدد؟  ما ادراكم ان هذه المسرحية كلها، لم تكن إلا لإلغاء بقية تأثير لكم على الساسة ليندفعوا في تنفيذ الأجندة الأمريكية والإسرائيلية بحرية تامة، بعد أن يجعلوكم تطالبون بها بأنفسكم؟

هذه نتيجة الطاعة والثقة وترك المسؤولية للآخرين: الضياع. لقد وافقتم على شيء لا تستطيعون أن ترونه وليست لديكم اية معلومات عنه. الشخص الناضج لا يقبل بذلك. الشعب الواعي لا يبحث عن شخص يأتمنه ولا يطرح عليه الأسئلة، بل يراقب بنفسه ويحكم.

 

"والآن ما الحل"؟؟؟

لو لاحظت عزيزي القارئ، فان كل نقطة أعلاه تشير إلى الحل، وكل ما عداه خداع وكلاوات و "سذاجة" يعاقب عليها قانون الغاب الذي نعيش فيه. الحل هو المراقبة والصدق. الحل هو في ممارسة دور المواطن في الحكم، لا ان يتم تتكل على الإعلام ليعطيك افكارك وعلى شخص ما ليقرر لك قراراتك “وتكنوقراط” يحل مشاكلك. لا مكان في "الغاب" لشعب لا يميز بعد 13 عاماً من الديمقراطية، الصالح من الفاسد من نوابه وساسته ووسائل إعلامه!

 

لقد نبه دوستويفسكي روسيا القرن التاسع عشر إلى خطورة ارتكاب جريمة القتل، أما نحن فبحاجة إلى من ينبهنا إلى خطر ارتكاب جريمة “السذاجة". فجريمة القتل يمكن أن توقع افراداً تحت العقاب. لكن "السذاجة" وحدها هي القادرة أن توقع شعوباً كاملة تحت احكام بالتعذيب والأشغال الشاقة المؤبدة، وربما الموت جوعاً!

 

(1) أحد اتباع التيار الصدري يشرح خطاب السيد الصدر وهو في حالك عصبية يرثى لها

https://www.facebook.com/thefinalscene7/videos/1592969281023360

 (2) عارف معروف‏: بشرو ياجماعة، انكتل حجّي امام... انكتل حجّي امام.... انكتل حجـي امــــــام...

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.