اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

في المرأة وفلسفة القهوة: النص 30- لي في قلبِ الغامديةِ أكثرَ مِن مُتَّسَع// د. سمير محمد ايوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. سمير محمد ايوب

 

عرض صفحة الكاتب

في المرأة وفلسفة القهوة– النص 30

لي في قلبِ الغامديةِ أكثرَ مِن مُتَّسَع

الدكتور سمير محمد ايوب

 

هاتَفَني، فسافَرْتُ إليه. عِندَ أسوارِ قلعةِ الكركِ في جنوبِ الاردن، إلتَقَيْتُه. شابٌ في أوائلِ الأربعينياتِ من عمره. كالرمحِ ، بهيُّ الطلعةِ، جَلِيُّ القسمات. تَفْتَرُّ شفتاه عن مَبْسَمٍ طفولي أخاذ. مُتَّكِئاً على عصاهُ. واثِقَ الخُطْوةِ أقبلَ عَلَيَّ. هاشّاً باشّاً مُرحِّباً بالقول: أنا يا سيدي سعدٌ ضالتُك وضالة ضيفاتك وضيوفك. وأنا أُبادِله الإحتضانَ بِودٍ شديدٍ، عاجلته مُتسائِلا: لِمَ هُنا يا سعد؟

 

أجابني وهو يتحاشى النظرَ في عينيَّ: هنا كان آخرُ مجلسٍ ضمني والغامدية، لحظةَ البدءِ بِرحلةِ عَودتِها إلى بلدها في الحجاز. ومن هنا أتمنى أن أُكْمِلَ رحلتي معها.

 

قلت متعجباً بشئٍ من العَتَب: لِمَ إرتحلتَ إذنْ يا سعد؟ وأين إختفيتَ عنها؟ لقد أوجَعَها رحيلُك يا سيدي.

 

مُطوَّلاً تنهد. تَفَرَّسَ في عينيَّ وقال بشئٍ من العِتاب: تابَعْتُم حِكايتي مع المَها الغامديَّةَ. بعضكم ظنَّها قِصةَ أمسٍ مضى، أو صدىً لها عابِر. وبعضُكم قرأها سطراً. وهي بِدواخلي روايةً، لم تكتمل بعد. نُصوصُها أجملُ من قولي بها أو عنها.

 

تَحدَّدَتْ بِداياتها هنا، مع أوَّلِ خَطْوِها طالبةَ عِلمٍ في جامعة مؤته. وتوالت نُصوصُ تلك الحكاية، مع جامِعِيَّينِ، أمْضيا معاً أربعَ سنينٍ، في قاعات الدرسِ وباحاتِ الجامعةِ، وتضاريسِ الجنوبْ. وقبلَ أن تعود المَها مهندسةً إلى أهلها، كانت تشاركني حُبَّاً مُكتَمِلَ المَلامحِ والتضاريس والألغاز. حبّاً جمعَ إبنة الحجاز، بحفيدٍ من أحفادِ جعفرٍ الطيار، بطلُ معركةِ مؤتة.

 

بعد التَّخرُّجِ مُباشرة ، حزَمَتِ الغامديةُ حقائبَها. وقبل بدء مراسم التوديع بساعة، حملنا فناجيلَ قهوتِنا بأيدينا. ونحن نطوف سيرا على الأقدام، حول القلعة مودِّعين، شاركنا نجاة الصغيره غِنائها: ساعةْ ما بشوفَكْ جَنبي، ما أقدرشِ أداري وأخبي. أبكي من فرحة قلبي وأنسى العذاب. كنا نُغني مع نجاة، وعيونُنا مُشْرَئِبَّةٌ إلى أسوارِ القلعة. نستلهم شُموخَها، نَمْلَؤ صدورَنا بنسائم، تحمل عَبَقَ المكانِ ورمزياته التاريخية.

 

ومع آخرِ مقطعٍ في الأغنية: طيفَك دا تَمَلِّي شاغلني ، مطرح ما أروح يِقابِلني.، كانت الشمس تَزْلِفُ حَيِّيَّةً إلى خِدْرِها. معلنة أنَّ لحظةَ الإفتراقِ قد أزَفَتْ. فالتقت عيونُنا. وتَحاضَنَتْ أصابعنا. وارْتَجَّت شفاهُنا مُتَمتِمة عهدا، على إبقاءِ قلوبنا كجناتِ المُتَّقين. لا لغوا فيها ولا وساوس. لا يموتُ فيها شئٌ مما قُلناهُ معا ، ومما لم نقله بعد. وأقسمنا صامِتَينِ، على إبقاء ما زرعناه في قلوبنا، طازَجا ًإلى أن تحين مواسمُ الحصادِ في أقرب فرصة. أقْفَلْتُ عليها بابَ سيارَتِها. وقبل أن يدورَ مُحرِّكُها، إنْطَلَقْتُ مذعورا، دون أن ألتفتَ ورائي. كَيْلا أرى الضبابَ المُتراكم في عينيها، مُنهمرا وهي تبتعد. .

 

سألتُ بصوت مشوب بالقلق: وما الذي حدث بعد ذلك يا سعد؟

 

قال وهو يعبثُ بتراب الأرض بعودٍ يتجول بين كفيه: ماكرةٌ هي الحياة يا شيخنا. تتوالد أزماتها كالأرانب. والأمل فيها غير موثوقٍ به. وبعضُ الظروف السياسيةِ مُبدِعَة بتهديد ممالك العشاق. واغتصابِ أحلامهم مراراً وتكراراً. كنتُ أُدركُ مُبكرا، أنَّ أعداء أمتنا كُثْرٌ، داخل الحدود وخارجها. وكنتُ أدرك حينها، أن المرء لا يُعاب على فقرٍ ولا على شكلٍ، فليس له فيهما إختيار. وإنما يُعاب الواحد منا، على قبحِ مسلكه، وخاصة حين يكون هذا المسلك، جُبْناً أو تخاذُلاً أو تخلياً عن أهلٍ أو عن وطن.

 

وكما تعلم، على مرمى حجرٍ من هُنا، غربيِّ النهر، عروسُ عروبتنا، زهرة المدائن القدس بشوارعها العتيقة، مُشبَعةٌ بالدمِ وبالوجعِ وبالقهر. ترحل إليها قلوبُنا كلَّ يوم. غضبُ بعضهاعزمُه لا يلين. وعزمُ بعضها الآخر، للاسف شيطانٌ متواطئٌ لعين.

 

وقبل أن أتلاشى في أحلامي الصغرى، دقَّقْتُ وضْعِيَ مُطَوَّلاً. واستثمرتُ حبي للغامدية، في مقاربة التزاماتي الوطنية والقومية. عَلَّها وكُلِّ حرائرِ العرب تنجو من ذُلِّ إحتلال. فرَكِبْتُ الأصعب. وقررتُ تكريسَ ما تعلمتُ في هندسة بناء الأنفاق، لتعزيز صمود الأهلِ في فلسطين المحتلة. بل، وفي جعل هذا الصمود إن أمكن، مُبْهِراً بِكُلِّ المعايير.

 

كنت بما أُبْلِغْتُ من أسباب وحيثيات، لا أملك الحق ولا القدرة على الهمس بها، أو إيصالها للغامدية. فاختزنتُ حُزناً راقياً نبيلا، أتعايش معه وفيه. حزنٌ إخترقَ عيوني بلا دموع. واخترق قلبي دون آهات. حزنٌ لا أشكيهِ ولا أبْكيه. وإرتَحْلتُ سِرَّاً منَ الكرك إلى غزة العزة، عبر جبال الخليل. يحدوني الأملُ في أن أعود لأهلي، يوماً ما، ظننته قريبا، شهيداً أو مُجاهِداً مُكللاً بالغار.

 

وانا أُنْصِتُ لهديرِ بحر غزة ، كثيرا ما أُطِلُّ بعينيَّ على شوقٍ شديدِ اللهجة للغامدية. خوفي من شكها المُشْبَعِ بأسبابه، زعزعني أو أوشك. ولكني كنت كلما أمعنت النظر في معالم العدو، من حولنا هناك، أميل مُتَّكِئاً بحنيني، على طُهرِ مَقاصدي، ونُبلِ واجبي، فيغسلني إنحيازي فوراً ويُطَهِّر أعصابي. وبعد كلِّ مُواجهةٍ بالنارِ مع صلف وجبروت العدو، أدرك أنَّ الغامدية حين تدري، ستغفرُ رحيلي الصامت.

 

فحرصتُ مع كلِّ مواجهة، أن انْحَتَ الغامدية قصائداً على كل رصاصة، قاتلت بها عدويَّ الصهيوني. وزَيَنَّتُ كلَّ قذيفةٍ أطلقتها على آلياته، بأحلامي وإياها. ورَسمتُ كلَّ الشعاب التي عبرتها، ببعضٍ من ضفائر شعرها. وفرشت شرايين قذائفي طُرُقاً، لتعبرها آمنةً أقدامُها، يومَ زفافنا إن كُتِبَت لي الحياة.

 

ومساء ذات يوم، أفقت في المستشفى الميداني الأردني في غزة العزة، وقد بَتَرَتْ قذيفةٌ صهيونيةٌ قدمَيَّ. وما أَنْ وَطَأتُ أرضَ الأردنِ بقدميَّ البديلتين، وإستقر بي المقام، بين أهلي المعتزين بما أسهمت به في فلسطين، حتى قرأتُ أكثر من سؤالٍ موجعٍ عن الغامدية في عيونهم وفي عتبهم.

 

عصرَ يومٍ دافئٍ، وشمسُهُ تجري الى مُسْتَقَرٍّ لها، إتكأتُ على سورِ القلعة حيث نحن هنا الان، وكان قد أتعبني البُعادُ. وهزني الشوق لها .أدرتُ شريط أغنية نجاة التي نحبها معا. إستأذنتُ قلبي، وإعتذرتُ من عقلي وهاتفتها. جاءني رنين صوتها واثقاً حيياً مُتسائلاً : مَنْ؟

 

مع صمتي، أطلقت العنان لصوتِ نجاة: يا نورْ عيوني، زادِت شجوني، دَبِّلْ جفوني ، كُثْرِ الغياب.

 

فصاحتِ الغامديةُ موجوعةً كالمستغيث: سعد، سعد، والله سعد. أينُك يا حبيبي؟ وأَكْمَلَتْ مع نجاة: تِلاوِعْني برضه أحبك. تِنْساني برضه أحبك. ما أقدرش أنساك. أضاف سعد كالمذبوح: دَمَعَتْ عيناي. زلزلني شوقي، فَصَمَّمتُّ، وجَبُنْتُ عاجزاً عن القول، ولا أزال.

 

قلتُ مُبَعثَراً من ألَمٍ يُدْمِعُني أنا الآخر: من هنا يا سعدُ ، إلى أين؟

 

قال سعد: لا شئَ يُعادِلُ ما يُساوِرني من أحاسيسٍ. ليسَ بينها أو فيها إحساسُ العائدِ الذي غابَ خائناً. عُدْتُ بإحساسِ المقيمِ الذي ما غابَ، وما إبتعد. عُدتُ وأنا أعلمُ أن لي في قلبها مُتَّسَعٌ وأكثر. أتَفَهَّمُ قلبَها وما يكونُ قد حَملَ مني وعني. وأعذره إنْ لم يُسامِح. سأبقى عاشقاٍ لها. وكلما سمعتُ صوتَها مُنادِياً في السَّحَر، أو مُناجِياً مع إنبلاجِ أي صُبح، سأذيبه في فنجال قهوتي، وأرتشفه على مهل. وإنْ عَفَتِ الغامديةُ وسامَحَتْ، سأُنْبِتُ ما تبقى ليَ من عُمْرٍ، ورداً في بساتينها. وأسكبه عِطراً في حياتها.

الاردن –

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.