اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

في المرأةِ وفلسفةِ القهوة: النص 29- الغامديه: ذُقتُ الهَوايِلْ// د. سمير محمد ايوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. سمير محمد ايوب

 

عرض صفحة الكاتب

في المرأةِ وفلسفةِ القهوة: النص 29- الغامديه: ذُقتُ الهَوايِلْ

الدكتور سمير محمد ايوب

 

 ما أن أتَمَّتْ الغامدية، ألاتية من عُمقِ الحجاز، تفصيلَ حيرَتَها مع الراحِلِ والعابِر، حتى طَلَبَتْ أن تُكْمِلَ تبريرَ حيرَتِها، في مِرْقابٍ جُغرافيٍ آخر. يُمَكِّن أبصارَنا من النفاذِ أكثرَ، في بانوراما المنطقه.

 

فارتَقَينا بمهلٍ مُتَعمَّدٍ، من حوافِّ نهرِ الأردن وبقايا الماء فيه، إلى رحابِ الفلاسفةِ والحكماءِ في جَدارا. وجَدارا لِمن لا يَعلَم، ليست مدينةٌ اوروبيةٌ، بل قلعةٌ حصينةٌ أثريةٌ ساحرةٌ في شمال الأردن، تُسمى اليوم مدينةُ ام قيسٍ. من على يسارها نُطلُّ على نهر اليرموكِ والجولانِ المُحتل. وغربُها، جنان النعيم في الأرض الفلسطينية المحتلة. وشرقها مطرز بتلاوين بحيرة طبرية في الجليل الفلسطيني المحتل، ومن الجنوب منها يربض بجلالٍ  وادي العرب.

 

وسطَ لوحةٍ جغرافية، نوافذها التاريخية ساحرة، وشواهد واقعها موجعةٍ مظلمة، أرَحْنا البَصَرْ. وما أن استقر المقامُ بنا هناك، على صخرةٍ كاشفةٍ لدلالاتِ المكانِ ورمزياته، حتى أوقدتِ الغامديةُ من جديدٍ، ناراً لِقَهوتِنا. وهي تتابع ايقاد عيدان الحطب، قالت  تواصل ما انقطع من زخاتِ بَوْحِها الكاشِفِ لِحيرَتِها:

 

نعم يا صديقي، أُقِرُّ بأن رحيلَ من نُحِبُّهم، في غيرِ مَواسِمه موجِعٌ مُتَطاوِلٌ، مُتَجَددٌ في كلِّ تَجلياتِه، مُختَزِلٌ للكثيرِ من معارِجنا. وأقر أيضا، أنَّ المُساكَنَةُ في الحب، تَزَيُّدٌ مُسْتَحَبٌّ بالطبع. إلا أنّهاَ كالعِناقْ. ليست شرطاً ليَتَحَققَ أن يكونَ بِذراعين. فالعناقُ أحياناً يا شيخي، كلمةٌ، نظرةٌ، إبتسامةٌ، تَلويحَةٌ أو آهٍ حًيِيَّةٍ هامِسَة او لمسة اصابع مجنونة.

 

 سَعْدٌ الراحِلْ، لم يكن إضافةً في حياتي. ولم يكن من كَراكيبِ قلبي. أو صدىً أو غُباراً فيه، لأعتادَ غِيابَه. بل مُكَوِّنٌ حقيقيٌ، موغِلٌ في تضاريسيَ كُلِّها. نَبْضُهُ في صدري. إنه إيمانٌ مُغْنيٌ، مُلَوِّنٌ، مُدْفِئٌ ومُضئٌ. سَكَنَ آمالي. ومثابة أحلامي، أنتظر عطاياهُ بِشَغَفٍ. وربي هو وأنا، تَوْأمانْ. كان عِنْدي وليسَ بَعْدَهُ عِندي. فيه عِطْرُ كُلِّ الرجال.

 

 رحَل سعدٌ بِجَسدِه؟! نعم. ولكنه رحيلُ أقدارٍ لا رحيلَ إختيارْ. رَحَلَ، ولكنه لم يبتعد إلا كطفولةٍ بَقيتْ ولم تُغادِرْ. كُنتُ مُنذُ إلتقيتَه، قد عقدتُ العزمَ، على أن لا تكون نهايةُ علاقتي به، رحيلاً منه. لأنه مُدْهِشٌ، فان رحيلَه لم يُطاوِلْ كُلَّ دواخِلي. لامَسَ شيئاً من هوامشها. وجانَبَ الكثيرَ مِن كُنوزِها .غادر فَنَقصت حياتي كثيراً. وإنْطفأ شيءٌ في قلبي. وذابَ شيءٌ آخر فيه. بَكَيتُ؟! نعم. تَأوهتُ. صَرختُ. ذقت الهوايل وهَربَ مني كلامٌ كثيرُ.

 

ولكن، ما خلا مِنهُ قلبي. بقي حاملاً لِكثيرٍ من ملامحه. عامراً به. متوسداً له. وما غَفَت عنه عيونُ قلبي. ومَعارجُ السمع فيه، ظلت مُنصِتَةً كالراداراتِ الحديثةِ، لأيٍّ من وَشْوشاتِ حركاتِه وسَكناتِه. كثيراً ما إسْتَبْطَنتُ ظني فيه، فأسمعُ في كل مرَّةٍ، ما لايسْمَعَه أحدٌ غيري من همسٍ. فأحِسُّ بكثيرٍ من الأمان.

 

 ولم أعد قادرة بدونهِ على الحُب. أحسستُ بالفوضى الشمولية. فخِفْتُ من عَواقِب شوقي إليه. فهذبتُ هذا الشوق. وحاولتُ تجاوُزَ كل شئ بعد رحيله. فلو كان غِيابُه همّاً واحداً لأحْتَمَلْتَه. ولكنه كان عناقيداَ من الهم والغم والحزن. فأعدت تنظيمِ قلبي وترتيبِه. تَعودتُ، وتَعلمتُ كيف أنام في غِيابه ، وفي قلبي ونَّاتٌ وونّات.

 

ولكن، بعد رحيلٍ لا يليقُ به وبي، علمت أن سعدا قد عادَ مُجَدِّداً. فتسامَتْ كُل مُقاوَماتي، أمام لهفةٍ وحنينٍ لم يَرحَلا مِنَ الأصل. ودَقَّت اجراسُهما شاهدةً على عودةِ عَصْرِه. وأعادَت مواقدي، إشعالَ نيرانها الهادئة من جديد.

 

 والان، قُلْ يا صديقي ما تشاء. رَحَلَ أو لم يَرْحَلْ ، فقلبيَ يُحِبه ويُناجيه. وأحلامُ غَدي وأمانيهِ ليستْ زاهدةً فيه، وليست ساعيةً للأبتعادِ عنه. لا أطيق إنكساراتَ الهَجر . ولا أحْتمِلُ أياً من تراتيلِ الإبتعاد. ولا تسعى إليها أيٌّ من إراداتي. فأنا مِمَّن يُؤمنونَ، بأنَّ بعضَ الرحيلِ، كانتظاراتِ الرجوع، طقوسٌ مُرعِبَةٌ من طقوسِ الموتِ البطئ، موصول الحلقات.

 

 بَقِيَتْ مُتجهمَةٌ، وفي عينيها وميضُ فَرَحٍ يُراقِصُ وميضَ حُزنٍ، وأضافت وهي تشهق بعمق: عِشْتُ بعيدا عن سعدٍ، بين مدِّ وجَزْرِ، وأنا أدركُ أن غِيابَهُ أمَرُّ مِن عَوْدَتِه. يوحِشُني فَرَحُ لُقياه. خاسِرُ الحُب كما علمتني ذات مرة يا شيخي، خاسرٌ لِحياتِه. وأنا كما تعلم، مُتَمسكةٌ بكلِّ طُرفَةِ عَيْنٍ منها، وقيدَ أنمُلَةٍ مما تبقى لي فيها. لقد أضاء سعدٌ قلبي .عِشتُ وأنا لا أتخيل حياتي بدونه. ما قولك يا صديقي فيما قُلتُ؟ وبعد كل ما قُلتْ؟ ألا أشتاقه وقد عاد؟

 

شَهَقْتُ مُتَعجباً مما سَمِعْتُ. فهمست متأتئاً وكفي الأيسر تحتضن خدي: أتُسامِحيه، وقد حان وقتُ الزلزال الأكبر؟

 

 سارَعَتْ تُطِلُّ مُحَدقَةً في عَينَيَّ، كنمرة أجابت مُتَحدِّيَةٌ: سعدٌ يا رعاكَ الله، ليس بارقاً يلمعُ حيناً في حياتي. إنه دُنيايَ  ولا أحتمل المَبيتَ مُطولاً في عَراءِ الإبتعادِ عنه، وإنْ ضَمَّني صدرُ رجلٍ آخرٍ، مهما عَبَرَ وكيفما عَبَر . حِضْنُ الأحِبة كما قُلتَ لي أكثر من مَرَّةٍ حَياةٌ  نشترك فيها بعدل. لا نقتَسِمُها ولا نَتحاصَصُها أبدا يا شيخي. 

 

دَلَقَتْ فنجالَ قهوتِها الباردة، بين شفتيها المرتجفتين، وكأنَّ زِلزالاً قد غافَلَ العم ريختَر ومقاييسه. وأضافت بِنشوة المنتصر: نعم، أنا أسامِحُه، وأسامِحُه أنا. بل وقد أغفرُ له كلَّ ما تَقَدَّم من ذَنْبِه. لقد أضاءَ قلبي. ولكن عذابي يا صديقي لن يسامحه، وسهري لن يسامحه، ودموعي هي الأخرى ، بالتأكيد لن تُسامحه.

 

حَرِصْتُ على إِبقاء نشوةِ الإنتصارِ، التي تجتاحُ الغامدية، مُتَّقِدَةً ومُشِعَّة. فلم أُضِفْ لبوحِها شيئاً. أرجَأتُ ما كُنتُ أودُ قَولَه الى فنجالٍ قادم. وإكتفيتُ ساعتَها، باستعادةِ شظايا عقلي، ولَمْلمَةِ روحي المُبَعْثرة. والإسراعِ مهموماً بالحيرةِ، في رحلةِ العودةِ من شمالِ الأردن، إلى عاصمته عمان، عبرمدينتي إربد عروس الشمال فيه، وجرش عروس التاريخ ودُرَّته، ومخيم البقعة أحد عناوين التغريبة الفلسطينية.

 

الاردن – 28/4/2014

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.