اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

همس القش- الترنيمة السابعة// سميرة الوردي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

سميرة الوردي

 

همس القش- الترنيمة السابعة

سميرة الوردي

 

عندما تفرغُ أكياسُ اَلطحين     يُصبحُ البدرً رغيفاً في عيوني

(محمود درويش)

 

صورة

أَستيقظُ مع أول زقزقة عصفورٍ، وماهي الاّ لحظات حتى تمتلئ سماء الحديقة بنشيدهنّ المعتاد، متعةٌ أن ينطلق صوتُ مليون عصفور أو أكثر من على سدرة الدار القديمة، في سمفونية صباحية تضج بالحياة وقدسيتها، غير آبهةٍ أو شاعرة بأي نوعٍ من أنواع الخوف أو الحرمان التي تنتابها.

 

لم يكن في وجبة إفطار اليوم سوى كسرات من بقايا خبز الأمس وشاي مع تمرات، لم يكن يوماً غير اعتادي، إنه كبقية أيام منتصف كل شهرٍ أو قبله، حينما تنتهي الحصة التموينية من الطعام وقد سبقها بأيام عديدة صرف آخر دينارٍ من الراتب.

ما يستغرب له أن الأيام تتتالى والحياة تمضي دون تلكؤٍ الاّ من بعض المشاكل التي قد تهز العوائل وتهزم بعض أفرادها وتبقى الشمس تأتي من الشرق وترحل غرباً كديدنها.

 

صباحٌ عادي بالنسبة لي، استيقظتُ بمزاجٍ رائقٍ رغم الواقع المرير... خرجتُ مسرعةً من الدار، لم أتناول الفطور، تركت بقايا الخبز لولديَّ، كي لا يبقيا دون إفطار قبل ذهابهما الى المدرسة، حملت حقيبتي وقد ضمت دفتراً لخطة العمل وآخر لتدوين درجات الطالبات الإمتحانية، وقلم جاف انتزعته من ابنتي بعد أن أقنعتها بعدم جدواه لها، وبقية نقود لا تكفي الا لتوصيلي في الباص الى المدرسة اختصاراً للوقت، لأني اعتدت أن أقطع المسافة بين البيت والمدرسة مشيا أغلب الأوقات.

 

ما أن خرجتُ من الدار حتى لامس نسيم الصباح وجنتي فأشعرني بالفتوة والشباب، ابتعدتُ خطواتٍ عن باب الدار، وإذا بامرأة طاعنةٍ في السن تحمل حزمة حطبٍ ثقيل على رأسها، اعترضتني مادةً يدها، دون أن تتفوه بأي كلمة... مفاضلةٌ سريعةٌ انعقدت في رأسي، إذا أعطيتها ما أملك وهو ثمن اجرة الباص الذي ينقلني، سأضطر الى الذهاب مشيا وسأصل متأخرةً على بدء الدوام... انتصرت المرأة عليّ.

 

سكون عمّ المدرسة، مما يدل على انتظام الدراسة منذ وقت غير قليل... تسللت بهدوء متناه الى صفي، تواجهت ومديرة المدرسة وجها لوجه، تبادلنا التحية بصمت... أدركت المديرة منذ التحاقي بالعمل إنني لا أتأخر الاّ تحت ظرفٍ قاهر ... الفتيات استقبلنني بحفاوة مشوبةٍ بالقلق ... بدأتُ الدرس محاولةً أن أُعوضهن ما فاتهن من وقت، الموضوع (شعراء المهجر) وما تميز به شعرهم من حنين للوطن وما خالطه من هواجس وأنين وغربة وتجديد في الشعر... مرَ المنهج على الموضوع مروراً لم يوفه حقه، سوى بعض الملاحظات التي أساءت له كضعف اللغة وعدم الالتزام بقافية واحدة ... طلبتُ منهن أن يحفظن بعض المقاطع وأن يتهيأن لأجراء اختبار للدرس، ويطلقن آراءهن النقدية عن الموضوع للدرس القادم... ويُجبنَّ بما ورد في المنهج عند الامتحان.

 

انتابني شعورٌ بالتفحم في فمي ورغبةٌ بالتقيؤ، فطلبت من إحدى الطالبات أن تجلب لي كأساً من الماء... بادرت احداهن بسقي من زمزيتها... قد يكون السبب عدم تناولي شيئا من الطعام.

 

بعض الأبيات المستشهد بها في الكتاب لـ (جبران خليل جبران)

 يابني أمي إذا جاءت سعاد         تسأل الفتيان عن صبٍ كئيب

 

طلبتُ كتاب الطالبة (غفران)، كانت مثالاً للأدب والذكاء، قرأت أبيات الشعر بصوت مسموع، ولكني وجدت (غفران) قد شطبت التاء من جاءت واستبدلت سعاد بـ(رياض) وحولت تاء المضارعة ياءً، ابتسمت لها فاحمر وجهها خجلاً، لأنها أدركت ما كتَبته فخافت أن يُفتضح سرها، ولكني تجاوزتُ ما غيَّرته... بعد انتهاء الدرس وقبيل رنة الجرس استوقفتني (غفران) محمرة الوجه لتسرني أن (رياض) ابن خالتها، قد تقدم لخطبتها الا أنها أجلت الخطبة الى ما بعد التخرج.

 

في غمرة الحديث والفتيات يتحلقن حولنا اندلعت باب الصف بقوة، مدت معاونة المديرة رأسها مستأذنة الحديث مع احدى الطالبات وبصوت عالٍ، طالبةً منها جلب صورة شخصية ثالثة لأن الصورتين لا تكفي لتنظيم هوية الدخول لامتحان البكلوريا... لأن القانون يلزم الطلبة بتقديم ثلاث نسخ متشابهات... اغرورقت عينا (هدى) بالدموع محاولةً كبت نشيجها، لم تستطع سوى قول عبارة:

لا أستطيع ...

أجابتها المعاونة بحدة وبحركة اللامبالاة وبإشارة من يديها:

وآني *شعلية ....، أنت تُحرَمين من الامتحان إذا لم تأت بنسخةٍ غداً!!!

 

غادرت المعاونة بعد أن ألقت قنبلتها، وبدلا من سحب الطالبة معها الى الإدارة ومساعدتها، تركتها غارقة في نحيبها وخجلها وحيرتها مع نفسها وأمامي وأمام زميلاتها... تناوبنتي شتى الأفكار... فأنا أمٌ ومُدَرِسة وعاجزة عن توفير لقمة العيش لي ولعائلتي بالرغم من عملي مُدَرِسة... ففكرت أن أستلف من إحدى المدرسات اللواتي لديهن القدرة على تسليفي... واللواتي لم تأثر الحروب ونتائجها بهن... وفي بحر خجلي من فكرة الإستلاف وما يسببه من ضيق وحرجٍ لي، قامت إحدى الطالبات ( نور ) طالبةً من زميلتها رقم صورتها كي تطبع لها مجموعة تستعملها في تيسير ما تحتاجه... انقذتني (نور) من حرج الدَيْن، وتركتني اخوض في بحر أحزاني ... سكتت (هدى) مكفكفةً دموعها، زافرةً همومها أمام زميلاتها، كاشفة قهرها سنوات طوال رغم صغر سنها... فالحروب والاضطرابات لم تبقِ لها أباً وأخاً، وامها تطالبها بترك الدراسة أو تأجيلها، ومن جراء ما حدث لهم يعيشون حياةً صعبة لعدم تمكنها من توفير أبسط متطلباتها، عادت (هدى) الى بكائها محتضنة رأسها بيديها... انقلب درس الأدب الذي يحمل في طياته الرومانسية والخيال والمحبة الى وجوم ومكاشفة بهمومهن ومواسياتٍ لبعضهن البعض!

 

انسحبت من الصف بهدوء كما دخلته... ازداد طعم الفحم والمرارة في فمي وروحي... وبيت شعر يرافقني **

كلُ من تلقاه يشكو همه       ليت شعري هذه الدنيا لمن!!!

ـــــــــــــــــــــ

*(شعلية) كلمة غير فصحى تدل على اللامبالاة!

** بيت شعر ينسب  لـ (أبي العلاء المعري)

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.