كـتـاب ألموقع
ذاكرة الخطأ والاصلاح الاجتماعي// خديجة جعفر
- المجموعة: خديجة جعفر
- تم إنشاءه بتاريخ السبت, 28 كانون1/ديسمبر 2024 20:15
- كتب بواسطة: خديجة جعفر
- الزيارات: 799
خديجة جعفر
ذاكرة الخطأ والاصلاح الاجتماعي
خديجة جعفر
السجون، ومن المتفق عليه فلسفيا، علميا وقانونيا، هو المكان الذي يقدم خدمة اعادة الاصلاح السلوكي نحو امتثالية افضل ، باتباع آليات اخضاع خاصة....
فان يكن "العقاب التأديبي" في العصر الحديث وبحسب ميشيل فوكو، هو التحول في كيفية توظيف الجسد بالذات من قبل العلاقات السلطوية، التي تمنح كلاً من (المعالج النفسي، منفذ البرامج، الضابط في السجن...) سلطة على السجين وحصرية الحق في تحديد مدد ومستويات العقوية المتوقفة ميدانيا على رأي هؤلاء المختصين، في فترة يطلق عليها فوكو حقبة الرزانة العقابية ... فللسجون ضمنا، بوظيفتها العمرانية، الادارية، الغذائية والصحية نفسها، سلطة غير مرئية وسابقة للتفكير، تتمحور حول عملية الاخضاع لهذا الجسد بيولوجيا، واخضاع النفس من خلال ما تفرضه هذه الآليات مجتمعة، من فرز سابق واعادة تموضع شبه آلي بين المهم والأهم، الشخص المتفوق والشخص الدون، الخاطئ والصالح، المسؤول عن انضباط ومصالح العامة والمضر بهذه المصالح .. ليترسخ نوع من الفرز التلقائي وإرساء نظرة فوقية لرموز السلطة على دونية الخطأة من المحكومين، والتي سوف تلعب دور فعال واساسي في عملية الترويض ضمن نظام التراتب الآلي والميكانيكي ما يفرضه الاعتراف بالخطأ محاكمةً، والذي سيشكل آلية فرز اضافية وترسيخ آلية تفوق بين حاكم مُصَّدر لاوامر الاخضاع، بقبول وتوافق جمعي لامتلاك صلاحية ادارة هذه الجسد من المحكوم المتلقي...
في السجون تتقابل الاجساد متناقضة، في حوار من الصمت الاستسلامي الحذِر ،تديره نظرة التراتب نفسها المنبثقة من قوة الاعتراف، فها هو جسد السجين القوي بحكم الخطيئة يقابل آمر مسلح بتقنيات القتل عند اللزوم، ونظرة الفوقية، في استكمال عملية الاخضاع لضمان الجسد المرن بحسب توصيف فوكو نفسه وهو جسد قد بات قابلا للخضوغ ومتوافق مع معايير مصلحة الجماعة التي تصوغها وتنفذها هذه الرموز السلطوية، في نظام عقابي قائم على نظرة خفية تحرك مفاتن التفوق بما يتخطى الانا والذات، بحيث ان الطرفين مدركين تماما انه لا وجود للثأر الشخصي، بل فروض ثأر الصح على الخطأ، وثأر المكان على الجسد، إذ لا بد للمسجون ان يشعر ضعفه، دونيته، عجزه من خلال هندسة الحضور والنفي في ان واحد، فهو المغَيَب خلف اسوار وجدران، والحاضر رقابة في انكشاف دائم امام الحراس والآمرين والمديرين والمحكومين الاخرين.
انها سلسلة متكاملة من خدمة التذكير الدائم والمستمر بانك شخص مرتكب للاخطاء وسوف نقوم بتصويب سلوكك وترويضه على الالتزام بما اتفقنا نحن على صوابيته، حتى ولو بالقوة، مع ما يرافق ذلك من ضرورات الفرز لضمان امن ونجاح الاصلاح.
فهناك، في السجون، يتم التغافل القصدي بالاغلب عن دور الانظمة نفسها سواء الاجتماعية او السياسية أو الاقتصادية او حتى القضائية في انتاج الخرق السلوكي، تغافل يضيف على فوقية السلطة صلاحيات في عملية الاصلاح، فانت الخاطئ لا يحق لك نقاش او نقد انظمة اتفقت على الصالح العام، فغيابها امر مدروس لاستكمال تغييبك ونفيك وعليك التسليم بذلك، حتى تبدو بقصديتها آلية فوقية اضافية للترويض...
هل يجدر بنا اذا هدم انظمة العقوبات من المجتمعات؟ بالطبع ليس القصد، فالمجتمعات التي يتنازل فيها المواطن عن حق المحاسبة والمعاقبة لا يمكنها أن تستقر آمنة لتحرز تقدم. الا انه مجرد تساؤل عن الآلية الاجدر في الترويض ..
فما المجدي من تكريس آلية الفرز التراتبي للتفوق والنقص في أعادة التصويب والامتثالية؟؟
يلحظ عرض برنامج تلفزيوني لبناني، في حلقة ميلادية خاصة، بحيث عمد المقدم لنقل مباشر من داخل السجن (سجن رومية في لبنان) في حوار مع بعض المحكومين باحكام تتراوح بين المؤبد والمقتطع من محكوميته...
وانطلاقا من روحية عيد الميلاد ووفقا لمعتقدات الديانة المسيحية فهو عيد الحب، الالفة، التسامح، عيد الغفران، بالتالي ثمة تناقض اولي بين مناسبة العيد وبرنامج يصدف تصديره لفكرة التفوق نفسها من نماذج محكومين..
يتقدم معد البرنامج من كل سجين باسئلة تذكي ذاكرة المأساة من حجم الفقد الذي انتجه الجرم المرتكب، فها هي المراة التي حرمتها العقوبة رؤية اطفالها، يهديها البرنامج فسحة لقاءهم باعتبارها فسحة فرح، ليتضح ان الفرح كان نصيب الاطفال الاحرار اثناء لقاء الام السجينة، فيما تَعَمق حزنها وعجزها امام واقع استعادة فقدهم مجددا.. فبأي موقع دوني انهزامي يضعها هذا الحكم، ويكرسها التنظيم الاداري وتراتتبية القرارات والاذونات ليتم هذا اللقاء بين السجينة الام والاولاد؟ ففي الوقت الذي نريد للمحكوم اعادة الاصلاح ترانا نعكس الهدف باستعراض فوقية قدراتنا على التحكم بالزمن، التحكم بالقرار نفسه، التحكم بمزاج السجين وخلق انفعلاته حزنا ام فرحا، باننا وحدنا نمتلك فرص من يستطيع تقديم الفرح ووحدنا نمتلك سلطة سحبه حين ينتهي وقت تقديم الهدايا ...
من ناحية اخرى فقد تركزت اسئلة المقدم على البعد الديني من فعل الندامة، ليذكر احد المحكومين علاقته المستجدة مع الدين والايمان قراءة وممارسة من داخل السجن، فكان اللافت، ترداد السجين لمقولتي السيد المسيح مغفرة: "اني اخلقك من جديد" و "اني امحو خطاياك" ... ولا يسعنا التغاضي عن كم الحضور الغفراني الذي تبثه الألوهية مقارنة بالسلطة التي تركز على خلق اوسع هوة ممكنة بين حاكم ومحكوم، لتتفوق على سلام ومسامحة السيد المسيح لاهوتيا، بالتالي فان هذه السلطة السجنية لا تحمل بذور الغفران في حين العظمة الالهية تمنحها، فعلى الرغم من فعل الندامة وطلب المغفرة الذي يقوم به المحكوم الا انه لا يناله واقعا بينما يناله لاهوتيا بمجرد نزع النظرة الفوقية عن الخاطئ واتاحة فرص الاصلاح بفعل الندامة وحده مسترشدا بقدرات "ذاكرة الخطأ" وحدها وقوتها اصلاحيا... فأي فوقية يتعاطى بها هذا التنظيم العقابي ليتخطى ارادة الهية في المسامحة؟
يظهر الوجه الاخر للفوقية الترويضية في الامتيازات الممنوحة للقضاء، من الاجازات الطويلة الامد، امتداد جلسات الحكم، صلاحية المحامين في التأجيل المستمر للجلسات... إلخ من دورة تنظيمة تغني اعتبارات التفوق والنقص نفسها وثانوية الالتفات الى الهدف الاصلاحي من العقوبة.. فهذا الكائن خاطئ ولسوف نحرص على استمرارية تنشيط ذاكرة الخطأ نفسها وفعل الندامة، لكننا لن نسامح ولن نففر وكاننا نريد انتزاع اعتراف الادانة باستمرار ما يُفَعل الفوقية باقصى طاقاتها فيصبح النظام العقابي نفسه آلية لاعادة انتاج الجريمة..
يضم سجن "رومية" حاليا نحو 3700 سجين في حين أن قدرته الاستيعابية تبلغ 1500، ومعظمهم غير محكومين، ويعيش نزلاؤه اضطرابات، مع تصاعد حوادث العنف واشتداد أزماتهم الصحية والغذائية.
وشهد "رومية" وفاة 3 نزلاء في غضون أيام، واتهم ذووهم إدارة السجن بإهمال رعايتهم الصحية، الأمر الذي تسبب في وفاتهم قبل انجاز عملية إصلاحهم ...
خديجة جعفر
25 /12 /2024.
المتواجون الان
495 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع