اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• تجربة في النقد الذاتي - هل يُمكن لي أن أسمي ما أنشرهُ أدباً حديثاً؟

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د.هاشم عبود الموسوي

مساهمات اخرى للكاتب

·        تجربة في النقد الذاتي - هل يُمكن لي أن أسمي ما أنشرهُ أدباً حديثاً؟

 

إستهلال ضروري

طلب مني أحد النقاد أن أبعث اليه بمجموعة من قصائدي الأخيرة ، ليقوم بكتابة دراسة نقدية عنها ، وكنت أتوقع أن يكون قد قرأها تباعاً وفقما كنت أنشرها لفترات مُتباعدة ، وبناءاً على ذلك أبدى لي رغبتهُ ، ولم يكن لدي أي إندفاع في يوم من الأيام أن أطلب من أحدٍ أن يكتب عني...وصُدمت كثيراً عندما كنت أتصل به سائلاً عن مُجريات العمل في كتاب مشترك كنا ننوي نشرهُ سويةً ، بقوله: "ان قصائدي المنشورة التي أرسلتها اليه ، لا ترقى لمستوى النقد الذي يمارسهُ". وقد يكون مُحقاً بذلك.

نعم صُدمت بهذا الرد لأنني لم أكن أنا الذي طلبت منه أن يكتب نقداً ، وثانياً لأنني كنت أعتقد بأنه كان قد اطلع على القصائد ، وأعجب بها وأراد الكتابة عنها ولم أتعود أن أقوم بالدعاية عن نفسي...ولكن هذه المُكالمة أثارت لدي سؤالاً مهماً وهو: هل يمكن لي أن أسمي ما أنشره، بشكل عام ، أدباً حديثاً؟.

 

الحداثة وتجربتي في النقد والنقد الذاتي

        بالرغم من كسلي وانشغلاتي الأخرى غير الأدبية ، فقد سبق وان نشرت ثلاثة دواوين شعرية وعشرات القصائد في الصحف والمواقع الألكترونية...إلاّ أنني وجدت نفسي مُحتاجاً إلى  المُراجعة لأتلمس فحوى ومُحتوى الحداثة في الأدب لدّي ولدى الآخرين ، مُحاولاً أن ألقي الضوء على جزء ولو بسيط من منطقة شاسعة ، قد تكون غير معلومة أو قد تكون مُكتَشَفة عندي أو عند الآخرين.

        توقفت عن الكتابة والنشر الأدبي لمدة خمسة أشهر ، وأنا أتصفح ما يُنشَر بالصحف والأنترنت والنتاجات الأدبية في كثير من المواقع لأجد أنهُ ، منذ أن كتبت المؤرخة الثقافية "فاطمة المُحسن" اطروحتها حول الحداثة الثقافية في العراق والتي حددتها في بحثها عن الفترة من نهاية القرن التاسع عشر وحتى بدايات مطلع العشرين ، وبالرغم مما على تلك الدراسة من مُلاحظات لا تقلل كثيراً من قيمتها ، لم نجد بعدها دراسة مُعَمّقة عن الحداثة في الأدب العراقي المُعاصر..وعندما عًدت أتصفح بالأنترنت النتاجات الأدبية الجديدة في عدد من المواقع ، وجدت الكثير ممن يشردون بأحداث المُغايرة والتجديد سواءاً في القصص أو الشعر أو المقالات الحديثة التي تُستوحى من مواضيعها أوضاع مُجتمعنا المُتغيّر...ولكن السؤال الذي طرحتهُ في عنوان هذه المقالة: هل هناك ما لدي ما أستطيع تسميته بالأدب الحديث؟، وهل لدى الآخرين ذلك...المفروض أن يكون الجواب "نعم". وأنا أرجّح صحة هذا الجواب...ولكن هذا لا يعني أنّ على كل الأدباء الحديثيين أن يرتدوا زيّاً أدبياً واحداً ، فهناك تشابهات كثيرة ، ولكن هناك إختلافات أيضاً ، ذلك لأن الكتابة الإبداعية ما هي إلاّ تعبير عن الشخصية الذاتية للمُبدع ، وكل ما أستطيعه هو أن أحاول أن أضع لنفسي بعض النقاط الإرتكازية والتي أعتقد ، بتواضع ، أنَّ الأديب الحديث يمكن له أن يتسم بها.

        لاشك وأن اللغة هي جسد الفكر ، ويجب – كما الجسد الحقيقي – أن تنمو وأن تتأقلم مع البيئة المُتغيرة من حولها. ويجب أن تُلبي متطلبات الخبرات الجديدة ، وأن تجد أساليب مبتكرة للتعبيرعن الخبرات القديمة ، وفي أثناء ذلك، فأن بعض المُفردات يجب أن تبدو مُهمَلة ومهجورة ، في حين تُبتَكر مُفردات جديدة يومياً ، وكذلك تتغير الإيقاعات ، ورغم أنهُ من الصعب العثور على سبب لذلك. ولكنني أجزم بأن تجدد الأساليب وابتكار التعابير ، تبدو جليّة فيما اذا لو طالعنا بعض المُقتطفات من الأدب الكلاسيكي العظيم على مر العصور وقارنّا بعضها ببعض.

تلك المُقتطفات تُظهر لنا أساليباً متنوعة لكتّاب عظام في عصورهم ، ولكن بالرغم من إحساسنا بالتقدير لهم ، إلاّ أنه لو حاول أحدنا أن يكتب بلغتهم واسلوبهم فلن يكون سوى مُقلِّد بارع لهم ، هؤلاء العظام كانوا مُبدعين في عصرهم ولا شك أنهم طوروا أو ساهموا في تطوير فن الأدب ، وكان ذلك جزء هام من مُقومات عظمتهم ، لكنهم عظماء كأدباء انتموا الى عصرهم ، وقد ماتوا منذ زمن بعيد ، واللغة التي استعملوها أو طوروها عاشت ومازالت تعيش ، ومن الطبيعي أن تنمو اللغة وتتطور حسب الأزمنة ، فإذا عدنا إلى بعض تلك المُقتطفات الكلاسيكية ، فسنلاحظ بجلاء أنها لا تنتمي الى روح عصرنا من حيث طريقة الكتابة أو التراكيب والبناء والمُفردات.

        كأسلوب المنفلوطي أو مثلما وصف أحد الشعراء الجاهليين الحصان الجميل كالآتي: "كجلمود صخرٍ حَطّهُ السيلُ من عَلِ ". وفي كل العصور كان هناك أدباء حاولوا التمرد على صناعة الأدب ، والعودة به الى بساطته وعفويته ، وقد نجحوا في ذلك أيّما نجاح ، فتجاوزا الحذلقات والتقعير في اللغة والإسلوب والتي كانت سائدة في عصورهم ، ولكن حتى هؤلاء فإن كتاباتهم الآن تبدو لنا غريبة مع مرور الأيام عليها.

        أنَّ كتّاب عصرنا الحاضر يميلون الى إستعمال الجمل القصيرة ذات المُفردات الخفيفة والتراكيب السهلة البسيطة وقد نكون قد بالغنا بهذه السهولة والبساطة ، فما الذي يمكننا أن نستنتجه من خلال إطلاعنا على نماذج من أدب نحن نعده الآن على أنهُ كلاسيكي؟.

        وللإجابة على ذلك فنحن مضطرون للتعميم في الحكم عليه ، ولكن إذا وضعنا بعين الإعتبار أن ما سنقوله هو مجرد حكم عام ، فانه يمكننا المُجازفة بالقول أنهُ منذ عهد بعيد وحتى الآن أنَّ الأدباء بالرغم من الفروق الشخصية بينهم كانوا يشتركون في سمة واحدة. وهي أن اسلوبهم الكتابي كان أكثر بعداً عن المألوف في عصورهم  وأثاروا الدهشة لدى قارئيهم ، غير ما عليه الوضع الآن بالنسبة للأدباء المُعاصرين ، دونَ أن يعني ذلك عدم وجود أدباء كانوا يكتبون بإسلوب أقرب الى المألوف في عصورهم ، ولكن مع ذلك ، فإن مفرداتهم وتراكيبهم للجمل مختلفة تماماً عن عصرنا الحالي ، لكن النقطة التي يجب عدم إغفالها هي أنَّ هؤلاء الكتّاب العظماء كانوا من العظماء بمقاييس عصرهم الأدبية والتي لم تعد سائدة الآن.

        مما سبق نستطيع القول أنَّ القاسم المُشترك الذي يوجد بين العديد من أدباء مواقعنا الألكترونية الحاليّة نزوعهم الى البساطة في الإسلوب ، فهم يهدفون فقط لقول ما يريدون قوله دون لف ولا دوران ، ويتحاشون عن قصد أساليب التكلف والزخرفة والحشو والاطناب في الكلام، والتصنع في التراكيب  ، دون ان يعني ذلك الإسفاف في التعبير الى درجة السوقية واللغة المحكية والمثل الواضح أمامنا في هذا المنوال هو شعر نزار قباني الذي إتبع اسلوب السهل المُمتنع في قصائده.

        ولكن يجب علينا أن نشير إلى أنَّ البساطة في التعبير ليست أقل صعوبة في حد ذاتها من البناء المُعَقَّد للكلام ، فالكاتب بحاجة دائماً لعين ثاقبة حساسّة للإيقاع الطبيعي غير المُتكلف، والى روح نقدية عالية في الإنتقاء حتى لا يهوي في الإسفاف والإبتذال أيضاً ، وهذا ما نصادفهُ بنسبة عالية فيما يُنشَر بهذه المواقع ، وأعتقد بأني حاولت الإبتعاد عن ذلك ، وربما لم أفلح تماماً..فقد أعدتُ قراءة بعض قصائدي، ووجدتُ أنًّ بعضاً منها قد وقع في إسلوب السهل غير المُمتنعلي ، ولا بد لي الآن من إعادة النظر في محاولاتي ومنطلقاتي الشعرية ، اذا ما ظلَّ يُسعفني إندفاعي اللاإرادي في كتابة الشعر. 

        ولكن على الأديب المُبدع في محاولته لبلوغ الوضوح والطبيعية في التعبير ان يتذكر دائماً انهُ يجب عليه أن يضفي حياة جديدة للغة وأن يبعث بها الروح وأن يُحافظ على مستواها وأن ينأى عن إستعمال " الكليشيهات" المُتداوَلة اللهم  الا اذا " حشاها" عن لسان إحدى الشخصيات التي يستعملها بشكل طبيعي ، أما إذا استعملها الأديب لذاتهِ ، فإنها تصبح نقطة ضعف وعلامة سيئة في الأداء.

        إنَّ الإعتماد على الإسلوب البسيط في التعبير الأدبي يُناسب تماماً عصر لا يثق أهله باللغة التي تخاطب العواطف بدلاً من مُخاطبة العقل ، ويناسب الكتابات التي تطغي عليها شخصية الأديب فتسترعي بذلك إنتباه القرّاء وتحظى بآهتمامهم ، فتاريخ وسياسة عصرنا الراهن تمدنا بأمثلة حية لا تُحصى على مخاطر سوء إستخدام الكلام.

ففي صفحة شعر من جريدة عراقية مُهمة قرأت قصيدة ، يبدأها صاحبها كالأتي:

( لو كنت معك الآن / لتعطرت أنفاسنا بالبنفسج / لو أنت معي / لتركت الأرض تدور بنا دورتها الجديدة ـــــ ) ...

ثم ينتقل إلى مقطع آخر بقوله : ( ماذا بيدي / وماذا بيدي أيضاً / آه أيتها اللحظات المقتولة على مذبح الوقت / أجمع الآن شتاتي / أتذكر انك تركت نظرة طويلة يومها / لم أستطع تفسيرها / لم أستطع بيان خطوط خوفك من زمن يباغتني / بهذيان يطول ).

وحتى يُنهي قصيدته بالصيغة التالية : ( أقول هنيئاً / لأنك لست معي الآن ... سأختزل الوقت / وأظل أرقبك وحدي . )

 

وتكتب شاعرة عراقية معروفة في الصفحة الأدبية لجريدة عراقية أخرى قصيدة تبدأها كالآتي :

( مختلط أنت ، وحبيبي / وزجاج / من يدري بأني سأكون / سواك / إنهض من المؤاب كي / تلثم دموعي ، الأسماء الباردة  / سواك / وإن الأرضية ستسرق / المعلم من أعشاب المائدة / وانني والشرطي والقدس سنبايعها على الخلافة / من يدري بأن حمزة يسقط . )

وتستمر الشاعرة مُحاولة  بأن تُلقي مُسحة من الضبابية على القصيدة ولكنها تسقط في الغموض المُتناهي ... لتُكمل في أحد المقاطع :

( وأنا التي أبحث عن القدس / بين حبيبتك ../ وهاهم يهود البارحة / يسترخون في عينيك / من يشير علي  بالضحك، / وبالغباء / من يهلهل بوجه بغداد .. ويهدي إليها معطفاً أو منديلاً / من يمسح الغبار عن ذاكرتها كي تتهيأ للقمار / من يستدل على رصيفها بين أصابعي..)

وبعدما أرهقتُ القارئ بالبساطة المُقنّعة بالطلاسم ، لتقول :

( وقليل أنت .. ومدان وشهيق المدرسة / ويتساقط المعلم من أصابع / الزيتون ، وأنا الذي جئتك من قلب النخلة / كي ألتقط لك صورة من مراياي . )

         ومع ذلك ، فإن الأسلوب البسيط لا يعني بالضرورة إسلوباً غير شخصي ، فإذا ما كانت الكتابة قصصاً خيالية أو مقالات جدلية فإن الكاتب المُبدع يمتلك دائماً رؤيته الشخصية الذاتية في الحياة التي يحاول أن يبثها إلينا ، ذلك أن لكل مبدع اسلوبه الذي يحمل إنطباعاته الذاتية الفردية والتي تكسب صوته تميزاً وفرادة ، فنحن حينما نتحدث عن الإسلوب يجب أن نتذكر عبارة ( دي بوفون) التي تقول: " الإسلوب هو الشخص ذاته" وهذه العبارة تبقى أصدق ما ينطبق على الخصائص المُشتركة للأدب في أي عصر من العصور ، والصوت المُميّز المُنفَرد يعتمد على العديد من العوامل التي تُكسبهُ خصوصية منها (مزاج الأديب ، وعلاقته العقلية والعاطفية بموضوعه ، ووسط خياله وأدواته الفنية والشخصية والتي لا تقل في بروزها في الأدب الحديث عنها في الآداب الكلاسيكية ، وهذا بالطبع ينطبق على نموذج يرويه الكاتب بنفسهِ – مع التركيز هنا على حميمية الإتصال والإخلاص – وهذا عامل مُلازم للإسلوب  السهل البسيط، حيث يتوجب على الأديب أن لا يُزيّف إنطباعاته فيختبئ وراء الإسلوب الأدنى ، بل عليه أن يتكلم بلا تكلّف ، وأن يترك نفسه تتحدث على سجيتها وأن يتبع بإخلاص وصدق الحالة التي تسكنه، وهذا ما أعتقد بأني عملت عليه... وهناك كثير مما يمكن أن نقولهُ حول الشخصية، ولكن هدفي هو أنَّ الفت نظر القارئ الى بعض من خصائص الأدب الحديث وأن أتحاشى ترك إنطباع بأن كل أدباء العصر يتشابهون ، أو أنّهم لا يتشابهون تماماً مع أدباء الماضي.

وأخيراً فإني أعتقد بأن الشاعر في هذه المرحلة المُلبدّة بالبراكين الخامدة عليه ألاّ يشعر بالكمال المُطلق ، ويجب أن يتملكهُ قلق دائم وشعور بالخوف والتساؤل ، والرفض والإشمئزاز ، والبحث عن الجنون المُشبّع بالحلم والكابوس...وهذا ما لم أستطيع أن أتوصل إليه لحد الآن...ولذلك سأحاول أن اتريث طويلاً.

أتمنى أن أكون قد وُفقت في إلقاء بعض الضوء على جزءٍ من منطقة شاسعة.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.