اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

إسحق في ضيافة الغجر// نبيل يونس دمان

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

اقرأ ايضا للكاتب

إسحق في ضيافة الغجر

نبيل يونس دمان

 

     اعتاد اسحق الذهاب الى القرية المجاورة (بهندوايا) لطحن الحبوب لاسرته او للجيران. وهو المعروف في البلدة بخفة دمه، حيث يجذب الناس الى الاستماع اليه، كما ويمتاز بالرقص المنفرد، خصوصا ً عندما عندما يتناول كمية من المسكر (العرق المصنوع محليا ً) ، وعلى انغام مزمار عليكو (علي حسن من قرية سريچكا) ، كأن تكون: عسكري، ملاني، او غيرها. قلة من الراقصين يبلغون منزلته في الرقص، وما يقدمه من حركات رشيقة ولوحات جميلة، تارة بالدوران السريع، او التوقف فجأة، فيحني رجل واحدة ويرتكز على الاخرى، هازاً اكتافه باستمرارية وتواصل، حتى تتوقف الزورنة على نغمة واحدة، تخترق موجتها طبقات الجو المحيط، وتتواصل دون انقطاع حتى ينهض اسحق، ويدور ثانية في الحلبة التي خصصت له على سطح بيت او فناء منزل، او ساحة في الاطراف،  وهي كبُركة وسط حضور كثيف من المشجعين له.

     في الثلاثينات كان يقام عرساً في محلة التحتاني (ختيثا) ، عندما اشرف حفل زواج احدهم على الانتهاء، وقد لعبت الخمرة بالرؤوس، نزل الى ساحة الرقص الأخوان (متي وهرمز) ، بعد ان هزت طبقات الهواء تلك الانغام الشجية، المنبعثة هذه المرة من مزمار والد عليكو (حسن رشمالو) ، ضرب الاخوان ارجلهما في الارض صعوداً ونزولا، ودارا رافعين ايديهم تحية للجمهور الذي اكتظ بهم المكان، ثم جلس كل منهم على رجل واحدة وشرعا على صوت المزمار يتبادلان ضرب اكفهم، كف اليمين يقرع كف اليسار وبالعكس، حتى  تعبت اكفهم، فتناولا غليونيهما (قلوني) من خلف رقبتيهما وتبادلا ملامستها برشاقة وايقاع، وفجاة طرحا الغليونين جانبا، نهضا واستلا خنجريهما ذوات المقابض الخشبية السوداء المرصعة بالفضة، وهم يلوحان بها في الهواء، داروا عدة دورات متأنية ، يقتربان من بعضهما ويبتعدان، حتى اشتبكا في نزال رائع (شِك ... شِك) يضربان خنجريهما الارض تارة، او يلامسان نصليهما تارة اخرى، وبحركات متناسقة منسجمة مع فيض الموسيقى التي ينفخ بها العازف مزماره، وانهالت القروش على رشمالو (شاباش .. شاباش) هكذا والجمهور من الجنسين يصفق حتى كلـّت ايديهم واحمرّت، وقضوا ليلة رائعة كانت مثيلاتها تتكرر في السابق. يا زماناً كان فيما مضى جميلا ً، ولياليه يخال المرء انها تمطر الفرح، واللذات، اما اليوم فيبعث في نفوسنا الكظمة والحسرة .

      عندما عاد اسحق من بهندواية وعلى مقربة من بلدته شاهد خيم الغجر، وتقرب من مجلس طربهم وقد خيم المساء ، تقول الحكمة : ان العروق التي تسري فيها دماء الطرب تكاد تغلي عندما تقترب من مضارب الغجر. هكذا انسجم معهم بسرعة ، علما بان شكله وملابسه لا تدل بالضرورة  انه من البلدة ، التي سألهم ببلادة عن إسمها ، ودار الحوار التالي باللغة الكردية :

- چي كندي أفا ( ما هذه القرية ) ؟.

- افا ألكيش ( هي القوش ) .

- چي مْلـّتن ، چي مذهبن ( ما اصلهم ، وما ديانتهم ) ؟ .

- فلايينا ( مسيحيون ) .

عبـّر بحركة من رأسه عن عدم رضاه وقبوله.

- بيجا هڤال ، تا كيڤا چي ( قل لي ايها الصديق ، الى اين انت ذاهب) ؟.

- ناڤ شيخي ( عند الشيخ ويقصد باعذرا مركز الامارة الأيزيدية ).

- ريكاتا دورا ، بنڤا ناڤ ما قربان ( طريقك بعيد ، نام ليلتك هنا ) .

  بعد تردد ربط حمارة في احدى ركائز الخيم ، وابتدا بالسلام عليهم ، فاستقبل بالطرب المعهود . وبعد قليل اصبح اسحق المتمكن من لعبته جيداً ، جزءا ًمن مجلسهم فطرَب وأطرِب . أمضى معهم ساعات وكأنه واحدا منهم ، على انغام الطبلة والعود نافسهم في الرقص الجميل ، ففرحوا به ، وقدموا له افخر العشاء ، وعند انتصاف الليل ، نهض يودعهم ، فحاولوا تغيير ما اعتزم عليه ، وذكـّروه بمخاطر الطريق الى باعذرا ، والليل لا يؤمن من اللصوص وقطاع الطرق ، لكنه اصر على الرحيل ، مدعياً ضرورة وجوده هناك مع تباشير الصباح .

     غادر اسحق مضارب الغجر، وبعد دقائق كان ينزل حمله من الطحين في البيت ، استقبله افراد اسرته ، وعبروا عن قلقهم العميق لتأخره ، حيث راودتهم شكوك بانه قتل في الطريق ، على اية حال اسبشروا خيراً بمقدمه ، واسرعت زوجته لجلب العشاء الذي جهزته قبل ساعات مضت ، قال لها اسحق بغنج :

- لا تتعبي نفسك يا إمرأتي ، فقد تعشيت عند اصدقائي الغجر.

     اعتاد الغجر ان ياتوا الى البلدة في مواسم غير محددة ، ينصبون خيامهم في الاطراف ، فتدب الحركة في تلك البقعة لعدة ايام او اسابيع يمضونها في تلك الاماكن ، فان كان الوقت شتاءً ، فان اعمدة الدخان تتصاعد عاليا ً من خيامهم ، وتتبخر في اجواء البلدة ، المغطاة بالغيوم والضباب .

     الغجر في ايران يقال لهم الغرشمارية ، او غريب زاده ( ابن الغريب ) ، او غربال بند ( صانع الغربال ) ، اما في مصر فالغجر عندهم تصحيف لكلمة القاجاري نسبة الى قبيلة تركية الاصل ، يقال ان اصل كلمة الكاوولي من كابلي اي نسبة الى عاصمة افغانستان – الكابل ، ويقال ايضا ان احد ملوك ايران واسمه ( بهرام جور) دعا من الهند نحو اثني عشر الف للهو والطرب ، والكاولية هم بقايا اولئك النازحين .

       الغجر قوم غريبوا الاطوار ، يتكلمون عدة لغات منها : العربية ، الكردية ، الفارسية ، والتركية . لا مكان ثابت يقيمون فيه ، بل ينتقلون من بلد الى آخر ، يعبرون الحدود ، ليست لهم دفاتر نفوس ، او جنسية معينة ، ازياءهم مختلفة عن باقي ازياء الناس القاطنين في تلك الاصقاع ، لا يمارسون الزراعة ، او يشغلون الوظائف ، ولا يذهبون الى المدارس . انهم يجيدون بعض الحرف اليدوية ، التي يتقنوها ، منها صنع اللعب ، الاراجيح ، ومهود للاطفال . تغني الام في بلدتنا بجانب رضيعها في المهد اغنية مطلعها ( دشاي لاي ، دركشتخ د قرجايي ) ومعناها : نام يا رضيعي نام ، في المهد الذي صنعه الغجر. ويقومون ايضا بتلبيس الاسنان بالمعادن الثمينة كالذهب ، او يصنعون الآلات الموسيقية مثل الربابة . او يصنعون الغرابيل ( أربالت ) والمسارد ( سرادِه ) . نظرا لانتقالهم الدائم وعدم ثباتهم في مكان ما ، ولضحالة ايمانهم ومعارفهم ، فانهم يمارسون كل انواع السرقة والدجل والكذب ، فلا ذات توبخهم ولا وازع يردعهم ، يسرقون حتى الاطفال ، واذا تغافل عنهم  اصحاب الدار ، فلهم المهارة والسرعة في سرقة الدجاج او اي شيء يقع في ايديهم . كانت جدتي تروي لنا طرفة عنهم فتغمرنا في الضحك حيث تقول : ان والدتها جمعت كل المواد لعمل غربال من ( طاري ، ووطري ، والاخشاب الرقيقة المدورة ) وجهزتها لتسلمها للغجر، فهم يتقنون تأطيرها وصنعها ، فاعطتها لاحدهم ، عند قدومه للاستجداء ، واوعدها ان ياتي بالغربال في الايام التالية ، وسيصنعه على احسن ما يكون ، فصدقته . وعند مجيء ابنتها التي هي جدتي ، بشرتها بالخبر السار في تسليم الحاجات الى الغجري ، فقالت ابنتها :

- امي ، واذا تاخر او لم يعد ، ما هو الضمان لعودته .

اجابت امها والابتسامة ترتسم على محياها :

-  يا ابنتي انا اعرفه جيدا وانتبهت الى احدى اذنيه ، فكانت مثقوبة .

 ضحكت ابنتها ، وبالتالي كانت تضحكنا ونحن صغار، كلما كررنا عليها باعادة سرد الحادثة ، فقالت لامها :

-  انتظري يا اماه عودة ذلك الغجري المثقوب الاذن ، وهو محمل  بالغربال المحكم الصنع .

هباء كان انتظارها ......  فلم يعد ابدا ً.

     رجالهم يكحلون عيونهم بشكل عجيب ، ربما بعض كبار السن من الاقوام الاخرى يفعلون الشيء نفسه ، لمعالجة مرض في العين ، ولكن رجال الغجر يفعلون ذلك للتبرج وجلب الأنظار. هناك مثل محلي يطلق على الشاطر بالقول ( كشاقل كخله مأينه د قرجيثه ) ومعناه ( ياخذ الكحل من عيون الغجرية ). نساؤهم يحبلن ويلدن وهن متنقلات من جهة الى اخرى ، اطفال الغجر ينبضون بالحياة بأعجوبة ، يحملون خلف الظهور في علايج مخروطية الشكل . يكسبون المناعة من حياتهم التي يكون الترحال جزءا ً اساسيا ً منها ، وبالتالي نادراً ما يتعرض الغجر للامراض ، وان اصابت احدهم وعكة فلهم علاجاتهم الخاصة . عندما تغفل إمراة ما طفلها ويسمع الجيران صراخه ، ينادون عليها " هل هو ابن الغجر ، حتى تتركيه طوال الوقت يغلرق في البكاء " .

    في الليالي يقيمون الحفلات الحمراء بالاستعانة بآلات الطرب التي ترافقهم في ترحالهم ، وبموسيقاهم الخاصة الراقصة ، واغانيهم الفلكلورية ، يقع الرقص والطرب ويشترك الشباب وتتمايل الصبايـا الى ساعات متاخرة من الليل ، انها رقصة الغجر المعروفة ، اعتقد ان هواة الافلام اللطيفة يتذكرون فلم ( الغجرية العاشقة ) الذي كان يعرض في صالات العرض ( السينما )  ببغداد فيما مضى ، عندما كانت الدنيا بخير، قبل ان يصيبها زلزال الدكتاتورية ، فحول كل شيء تقريبا الى فقر، قفر، ويباب ، وحتى هؤلاء المتنقلون ولقرون في مناطقنا ، لم يسلموا من سطوة الدكتاتورية ، فطاردتهم وقلصت حركتهم ، ان لم تبيدهم او تحولهم الى غير تلك التسمية المعروفة بالغجر.

 2008

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.