اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

تجليات القمع والحرية في رواية الإرسي لسلام إبراهيم// صباح كنجي

تقييم المستخدم:  / 1
سيئجيد 

اقرأ ايضا للكاتب

تجليات القمع والحرية في رواية الإرسي لسلام إبراهيم

صباح كنجي

31/3/2013

 

رواية يختلط فيها الواقع بالخيال .. الأسود بالأبيض .. الشجاعة بالجبن حد التخاذل .. القيم بالنذالة .. الشهامة بالأنانية والابتذال ، في صور متداخلة من زمن الحرب والقمع ، تحكي من خلال تداعيات سردية مؤلمة عن أماكن لجأ إليها مرغماً الشخصية المحورية للرواية في لجة الحرب المندلعة التي جرفت معها خيارات البشر وانتزعت حريتهم ..

 

يبدأ سلام إبراهيم روايته .. الإرسي .. التي اختلفَ عليها النقاد في التحليل والوصف بين من اعتبرها سياسية بامتياز وآخر جعلها رواية جنسية ، بين مصدق ومكذب لتفاصيلها الصادمة للقارئ بحكم ما تحمله من تداعيات حسية ، تنطلق من أرسي بيت عمة وافقت أنْ يلجأ إليها والاختفاء عندها بشروط قاسية تفرضها ملابسات الحرب والقمع الشديد الذي طال العمة المعلمة وسلبها لأبنها وزوجها يستقدمهم سلام في ثيمة الرواية لينسج نصاً لا ينتمي في الوصف والتحليل إلى تلك الأسماء التي اختلف النقاد عليها ، لا لشيء إلا لكونها تنتمي قبل أي وصف آخر لعالم الإحساس بأهمية وضرورة الحرية التي يفتقدها الناس وأصبح شبح الموت كالظل يلاحقهم كبديل مفروض ومرفوض ، لكنه لا يترك خياراً لبطل الرواية / الكاتب ويرغمه للقبول بشروط العمة التي لجأ اليها في مفصل بين برزخ الحرب وساحات الموت وبرزخ الثوار المحتقن بالثورة والحرمان ليُحشر في الإرسي ويتعذب بين جدرانها ويرتعبُ .. أرسي صغيرة مساحتها وارتفاعها تقل عن مساحة و ارتفاع اية زنزانة انفرادية ناهيك عن محتواها إذ تفتقد لدورة مياه ..

 

(يجمد مرعوباً من طرق على الباب ، رنة جرس يحطم سكون البيت ، أو على صوت مفتاح ينحشر بثقب الباب ، فيقفز باضطراب سائراً على أطراف قدميه ، متحاشياً إصدار أي ضجة ، يدلف إلى المدخل. يقطعه بقفزتين شروط عمته ، أن يلبث في عليته طوال النهار ، ولا ينزل إلا لقضاء الحاجة أو للأكل إلى أن يجّن الليل. وعليه تحاشي الغرف المطلة على الزقاق إلا في حالة إطفاء النور).

 

من هنا يمكن القول أنها رواية تبحث عن الحرية بامتياز .. حرية الخيار والتفكير الحرُ .. حرية الموقف الذي ينسجم مع جوهر النوازع الإنسانية في صور وحالات حاول الكاتب تعريتها وتجريدها مما عليها من أقنعة زائفة بلغة مكشوفة لا يتقبلها العقل الشرقي المقنع بلاهوت التابو المناقض لجوهر الحرية  ويرفض حرية العقل والجسد معاً ويفصل بينهما في نسق تتوارى وتتخفى وشائجه بين السلطة وأجهزة قمعها الملاحقة للشيوعيين وبقية المعارضين الرافضين لحربها الدموية ، والمجتمع .. المقنع .. المنافق .. الكاذب .. الذي تفرض قيمه الزائفة تداعياتها في الوسط الثوري المناهض للسلطة بين الثوار في شعاب الجبال التي لجأ إليها عبر ممارسات تستكملُ إحكام الطوق على سلام وزوجته " الأحرار " لتفصل بينهم غرفة النوم المخصصة للنصيرات بما فيهن المتزوجات حيث تندسُ زوجته بينهن تاركة زوجها ـ الكاتب يتوجه لقاعة الرجال..  يفقدهم هذا العزل الفاصل بينهما حقهم الطبيعي كزوجين من تبادل الحب وحينما يغامر الزوج ليلة بالتسلل الى فراش زوجته تعبث بظهره في لحظة التحام جسدي اصابع أنثى تسعى لإرواء عطش ورغبة جنسية تمور في أعماقها حركت اصابعها نحو جسده الرطب لتخفف من حدة رغبتها ..

 

الإرسي بتفاصيلها المثيرة الصادمة للقارئ ، التي عجز عن استيعابها البعض من غير العراقيين ، واعتبر ما جاءَ فيها محض خيال لا يمكن تصديقه ، في الوقت الذي خلط فيه من كان قريباً لسلام أحداثها ومجرياتها مع واقعهم واعتبرها سرداً تفصيلياً فاضحاً لأسرار عائلية وتعامل معها كوثيقة تاريخية أسقطها الراوي بوعي مقصود في حيثيات روايته مستهدفاً بها أسماء وردت كأنه يقص تاريخاً وسيرة ذاتية لهم بغية فضحهم وهتك اسرارهم ..

 

هذان الانطباعان يؤكدان بلا شك .. أن الرواية نجحت في تصوير ما كان واقعاً يقتربُ من الخيال في زمن الحرب والقمع من جهة ، وهو بلا شك يعكس قدرة الكاتب على التقاط تلك الصور ومزجها بالخيال في تكوين نسيجه الروائي .. 

 

لقد نجح وأبدع في تصويره لحالة العبث في ذلك الزمن المغبر وتمكن من ربط مفاصل القمع والحرية بتلك اللقطات التي كانت تقارن بين حاله ووضعه وهو في الإرسي محاط بالفضلات وممنوع عليه التنفس والعطس ناهيك عن بعده عن زوجته وأصدقائه ..

 

في الوقت الذي يتمتع فيه رجل السلطة الحُر المتزوج من بنت عمته بالقدرة على فرض وجوده في ذات المكان ليمارس فجوره وعبثه فارضاً المزيد من القيود والمعاناة على سلام لتنتج المزيد من القهر والذل مع تمادي رجل السلطة وجموحه لاستلاب حقوق وحرية غيره بمن فيهم زوجته .. (ابتداءً من المساء سأمكثُ متحجراً على فراشي في الإرسي . أُقبَر حتى مساء الجمعة ، موعد مغادرة بنت عمتي وزوجها وطفلهم ، الذين يزورون عمتي مرتين في الشهر قادمين من ناحية بعيدة تابعة لمحافظة  ديالى . سينامان في الباحة تحت برجي تماماً . المسافة بين فراشهما وموقعي لا تزيد على ستة أمتار. زوجها ـ مدير ناحية ـ ومسؤول حزبي. ستة أمتار تفصلني عن بوابة جهنم .. ألبس فيها ثوب الحجر وكيانه ، ممنوعاً من السعال و العُطاس ، الشخير وأي صوت. سأحبس أنفاسي. سأختنق برائحة البراز الذي ألفه بأكياسٍ من النايلون أكورها جوار العتبة. سأتوخم في الحر والباب مغلق. ستزكمني رائحة البول الذي أفرغه في قناني عريضة الأعناق. سأضطر إلى التقليل من شرب الماء. سيجف حلقي عندما يصدر مني صوت ما مسموع).

 

في الوقت الذي يتمتع رجل السلطة بمباهج ومزايا لا حدود لها في اجواء من الحرية المطلقة تجعله مهيمناً عابثاً غير مكترث بوجود الآخرين ولا يشعر بوجودهم بالرغم مما يسببه لهم من خوف وفزع ورعب قاتل .. (احتدم غيظاً والرجل يجلس على كرسيٍ وثير حملته عمتي من غرفة الضيوف. يضع ساقاً فوق ساق ، وأمامه على المنضدة العريضة أنواع المزات ، صحون حمص مسلوق ، باقلاء ، سَلَطَات ، شرائح لحمٍ مشوية ، كرزات ، فستق وبندق ولوز. يطلب من عمتي وضع شريط لأم كلثوم. يتمايل بجذعه الأعلى وهو يدندن بخفوت مع ـ فكروني ـ. يرتشف من كأسه ، أحترق .. من المؤكد أن رعبها يفوق رعبي ، وهي تتخيل لحظة عثوره علي ، أو مجرد شكه بوجود رجل في بيتها. كانت أوقات إنصاته للأغاني أوقاتاً مريحة. أستطيع خلالها التنحنح ، السعال الخفيف ، البصاق ، التبول ..) .

 

بين وتيرة هذه المقارنة اللاانسانية بين حالتي القامع و المقموع تواجدا في ذات المكان كطرفي معادلة متناقضة لمفهوم الحرية يتمادى رجل السلطة في التمتع بالمزيد من الحرية .. لكنها حرية تماهي بين القسوة .. قسوة المستبد الجلاد العابث بجسد زوجته مترافقاً ببذاءات وتسميات بدائية تعكس خواءً روحياً وتدني مرتبط بجذور غرائز حيوانية بيولوجية ..

 

(سينطفئ مصباح الباحة بعد لحظات ، لتسقط حلكة ماحقة تجعله لا يميز أصابعه ، حلكة سرعان ما تحتشد بحفيف الأغطية ، بالهمس الأنثوي الناعم. والجسدان العاريان يتدحرجان بعيداً عن البلاط نحو رقعة بلاط منارة بضوء القمر ، فيما الزوج يهذي عن رغبته في إكمال المضاجعة في الضوء .. سماع مقدمات الغزل الناعم المتحول لاحقاً إلى غزلٍ بذيء يسمي الأعضاء الحميمة بأسمائها في طقسٍ بدائي يجعله يقشعر ، ثم يشتعل صاعداً هابطاً ، متأججاً منطفئاً ، فيتأرجح على حافة الجنون أصوات متداخلة مزيج من غنج الأنثى وخشونة الفحل في حوارٍ غامض يسبق فعل الخوض في الأحشاء. حوار تحول إلى طقطقة عظام ، صرخات خافتة ، ارتطام جسدين ، ضربات كف مفتوح على طراوة لحم لدن ، ثم تعالى الخوار والصراخ )..

 

هنا في هذه اللقطات التي تتحدث عن الجنس التي تعكز عليها من صّنفَ الرواية بالجنسية لا يمكن تجريد الهدف من ميل الراوي لتلك التفاصيل المثيرة مقارنة بما يحدث لسلام في شعاب الجبال .. إلا أن نقول أن الفعل الجنسي في الرواية مرتبط بمعنى من المعاني بالحرية .. فمن لا يملك الحرية ويفتقدها لا يمكن أن يكون حراً حتى مع زوجته بين رفاقه في تلك الشعاب البعيدة ..

 

أن الجنس هو المعادل الآخر للحرية .. هذا ما أوحت به الإرسي لسلام إبراهيم وهو يجوب شعاب الجبال متنقلاً بين وهادها ، في الجزء المكمل للأحداث لبرزخ الجبل بين الثوار المناهضين للحرب والدكتاتورية .. الحالمين بالحرية .. الذين تعرضوا لموجات السلاح الكيماوي ، وهو فصل مشترك بتفاصيله مع روايته الأخرى (في باطن الجحيم) وهذا غير معهود في الأعمال الروائية إذ لم يسبق لروائي أن نشر فصلاً مشتركاً في روايتين مكملتين الواحدة للأخرى. كما يفعل سلام ابراهيم وهو يبدع رواية بعد أخرى ..

 

ـ سلام ابراهيم .. الإرسي/ رواية/ الطبعة الأولى 2008/ الدار للنشر والتوزيع / القاهرة

 

ـ نشرت المادة في العدد 360 من الثقافة الجديدة ايلول 2013

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.