نبيل عبد الأمير الربيعي

مقالات اخرى للكاتب

الفنان الساخر والناقد عزيز علي

    عزيز علي الفنان والشاعر والملحن الساخر ,الرافض للاحتلال البريطاني للعراق والمناوئ للحكم الملكي, فقد سخّرَ فنهُ للتعبير عن أفكار ومشاعر ومطالب الجماهير الكادحة والطبقة الفقيرة , وأبناء شعبه الذين ذاقوا ذرعاً من سياسة النظام الاقتصادية والسياسية ومعاهدات التحالف مع الاحتلال, إضافة إلى زيادة تضييق الحريات الفكرية والصحفية والسياسية , وملاحقة المعارضين للنظام الملكي  بتهمة الشغب والتآمر ضد النظام  , فكانت منلوجات هذا الفنان الفسحة  للتعبير عن الرأي   .

    للفنان عزيز علي دور في محاربة  العادات والتقاليد والفساد المنتشر في دوائر الدولة, بتسخيًر فن غناء المنولوج بلوحات شعرية تبين واقع البلد المزري , مما أدى بأزلام الحكم الملكي إلى محاربة هذا الفنان الوطني الرائع بشتى الوسائل ,منها في الرزق والعمل أو إيداعهُ السجن .

     أختص الفنان الراحل بفن المنولوج الذي كان نمطاً جديداً على الساحة الفنية , وتعتبر كلمة المنولوج كلمة لاتينية تتكون من كلمتين(مونو) تعني الفرد و(لوج) ومعناها الخطاب , وبهذا  يمثل المونولوج  الخطاب الفردي , فقد أصبح هذا النموذج من الغناء العصري وقتذاك , وقد استطاع عزيز علي  أن يستخدم هذا النوع من الغناء لبث وطرح  معانات الشعب بأسلوب  ساخر ناقد , فقد تجسدت ثلاث مزايا للفنان وهي الشعر والغناء والتلحين , حيث درس أوزان الشعر العربي القديم دراسة موسيقية لاختيار  اللحن المناسب لكل وزن شعري .

      إن أول من تداول هذا اللون من الغناء  بين الأوساط الفنية في المنطقة العربية كان بمصر وسوريا ولَبنان , وقد استحسن المتلقي العراقي هذا النوع من الغناء وتذوق غناء وشعر عزيز علي ,حيث كان ينتظر  المواطن العراقي بفارغ الصبر يوم الأربعاء من كل أسبوع عبر الإذاعة العراقية صوت الفنان عزيز علي  وانتقاداتهُ اللاذعة  للعادات والتقاليد ,فقد بدأها من دار الإذاعة  عام 1936 مواصلاً المونولوج حتى عام 1966 , إذ ترك هذا النوع من الغناء أثراً معبراً على الأحاسيس والعواطف الجياشة لأبناء العراق , لأنهُ فن نابع من الأعماق .

       كان الراحل متمكناً من الشعر ارتجالاً , ويحسن التكلم والكتابة لخمس لغات هي(الألمانية والروسية والإنكليزية والكردية والفارسية) فقد كان فنهُ ليس للارتزاق  وإنما محاربة الظواهر الاجتماعية والسياسية بسخرية من العقليات الرجعية والتقاليد الغيبية للظواهر الطبيعية والاجتماعية والتقاليد الموروثة التي لا تنسجم مع روح العصر, كما هاجم الدجل والشعوذة , ودعا إلى  التمدن والثقافة والأخذ بالعلوم الذي حققها العقل الغربي , فقد كان ناقداً ليس لتحقيق الرغبة الشخصية لذاته بسبب موهبتهِ وإنما التعبير عن النقد لحالة اجتماعية و لمرحلة تاريخية فرضها المسار الحضاري على البلد ,فقد استخدم الأسلوب الجديد في النقد الاستفزازي من خلال استعراض معانات المجتمع بأسلوب قصصي رقيق منها( شوباش, أم جواد ,عال العال, القبول, المدمن) والكثير من الحالات الاجتماعية.

     عند زيارة السير الفريد موند للعراق, وبروح واندفاع وطني شارك الراحل عزيز علي مع طلاب الثانوية في التظاهرات لرفض هذه الزيارة  المشبوهة ,لهذا السبب فصل من الدراسة عام1928  ,وقد كان أكثر طلاب حركة الاحتجاج متأثرين بأفكار  الرواد الأوائل للفكر اليساري أمثال( عبد القادر إسماعيل وحسين الرحال), فالتحق في الوظيفة  بدائرة الكمارك وهو ما يزال طالباً , وعند قيام حركة رشيد عالي الكيلاني أيد الراحل هذه الحركة مما تم فصله من الوظيفة وأودع سجن مدينة العمارة , ثم أعيد للوظيفة عام1947 في دائرة الكمارك والمكوس , ومن ثم نُقلت خدماته إلى وزارة الأعمار عام1957 .

   في عام 1956 غنّى عزيز علي من دار الإذاعة  مونولوج ( السفينة وصل علنبي) ولكن وجود نوري السعيد في الأستوديو مما أربك عزيز علي وأرهبهُ وخاف الاعتقال , لكن السعيد وبخهُ لانتقاد الحكومة وسياستها من خلال غناءه المونولوج , وتمكن السعيد من أخذ قصائد عزيز علي للإطلاع عليها والتأكد من توجهاتهُ السياسية , فتأكد إنها لم تحمل الأفكار الشيوعية , على أثر هذه الزيارة والخوف من الاعتقال ترك عزيز علي  الغناء في دار الإذاعة , وقد هاجمت جريدة الأهالي وقتذاك نوري السعيد وقالت "إن ذهاب السعيد إلى دار الإذاعة لغرض إسكات أصوات الحق المتمثلة بالأدباء والشعراء" فازداد خوف عزيز علي أكثر, فعاد للغناء في دار الإذاعة وأنشد مونولوج( أنعل أبو الفن لابو أبو الفن).                                          لقد تنقل الراحل لأكثر من وظيفة  منها  وزارة الخارجية عام1960 كملاحظ في سفارة العراق في براغ ومن ثم نقله إلى  سفارة العراق في تونس عام 1962, بعد انقلاب شباط 1963  على ثورة تموز حيث فصل من الوظيفة ثم أعاد إليها بعد رحيل الانقلابيين من الحكم ونسب إلى وزارة الثقافة والإرشاد في حكم الأخوين عارف.

   عام 1968 طالبت وزارة الثقافة والإعلام إناطة الراحل عزيز علي مسؤولية تأسيس مدرسة الأطفال الموسيقية , فقد استدعى الراحل  الخبراء الموسيقيين من الاتحاد السوفيتي (سابقاً) لاستخدامهم في تعليم الأطفال الموسيقى, كما استورد الآلات الموسيقية المطلوبة , وتم الإشراف على المدرسة من قبله .

 الاتهام بالحركة الماسونية:

   لقد اتهم الفنان الراحل بانتمائه للحركة والمحافل الماسونية وعلى أثرها اعتقل الراحل عزيز علي وسجن ما يقارب العامين, وهنالك روايتين متناقضتين في هذا الموضوع منها رواية تؤكد انتماءه للمحافل الماسونية التي انتشرت في العراق فترة الأربعينات من القرن الماضي, وقد أكتشف هذا الانتماء حسب الادعاء من خلال جرف إحدى الجرافات  مبنى بريد البصرة وبالذات موقع صناديق البريد المتروكة لسنوات , وقد تناثرت   الأوراق ومن ضمنها  قوائم بأسماء الحركة الماسونية , من بين الأسماء عزيز علي  وفاضل الجمالي وتوفيق السويدي , ومجموعة كبيرة من الشخصيات المعروفة , وهذه إحدى الروايات التي أشاعتها السلطة بعد انقلاب 8 شباط 1963.

    الرواية الثانية  تؤكد اعتقال الراحل عزيز علي فترة حكم البعث عام1975 , عند فتح أحد صناديق البنك المتروكة  لمدة زادة على 25 عاماً , فوجد فيها أسماء أحد المحافل الماسونية في العهد الملكي , وكان  اسم عزيز علي من بينها , فاعتقل  على أثرها وسجن لمدة قاربت العامين ثم أطلق سراحه  لكبر سنه, وأنا أعتقد بسبب اختلاف الروايتين والتاريخين  , فهو تلفيق من قبل السلطات وقتذاك لتشويه سمعة الفنان الوطني عزيز علي لغرض اعتقاله  وإسكات صوته وإيقاف فنه اللاذع والناقد للسياسات المتعاقبة على العراق .

   رحل الفنان عزيز علي يوم 24 تشرين الأول عام1995 ,عن عمر ناهز الرابعة والثمانون  فترة سنوات الحصار على الشعب العراقي , دون أن يُذكر اسمهُ وفنهُ ,وحتى لم تقدم أي دراسة في هذا النوع من الفن من قبل النقاد والباحثين, ودون أن يكرَم من قبل  الدوائر الفنية والثقافية , هذا الفنان الذي سخًرَ موهبتهُ بشكل جميل لأوضاع العراق.               رحل عزيز علي أبيً النفس إذ لم يغني في حفلة خاصة بأجر أو بدونه , لقد طورد وسجن وتم محاربتهِ برزقه وعمله وذاق مرارة الفقر والحرمان , وألصقت به التُهَم من الشيوعية إلى الماسونية  دونَ دليل , كونهُ يتصف بالوطنية,  كانت قصائدهُ الناقدة والساخرة من ذالك الواقع المضطرب منها:

يا جماعة الطاوه محروكه

وكل الدك على المدكوكه

والمستعمر كل فتوكه

عرفناها ولكينة البوكه

وتعلمنه الخط والنط

والغط بوسط الشط

أو ما يدور في الواقع العراقي وصعود العناصر الغير مؤهلة للسلطة من الجهلة والمتلونين :

الوضع تخربط وأحتار الذيب الأمعط

ولو ورطه أتورط ما يلحكله شيخ الشط

إلا لو جر عدل ويانه

نشاركه بافراحه واحزانه

وإله من عدنه الراي الأمانه

احنه وياه مو من عدوانه

على طول الخط

وأثناء فترة سجنه , ثم إطلاق سراحه  بعد حركة رشيد عالي الكيلاني:

حبسونه عذبونه

والله لو لا تكتلونه

وتحركونه وتذرونه

لهذا الوطن احنه نصونه

ما نخونه لا تظنونه

ثم إثبات صمود الوطنيين والروح الوطنية التي كانت تتسم بهم:

ما نهاب احنه التهديد

ولا الضغط والتشديد

مجلسكم منك بيكم

يا من غضب الله عليكم

تردوها كبار كبار

تردوها صغار صغار

مجلسكم مجلس أشرار

دا تراونه الموت شلونه

حتى ترضه بالصخونه

الظاهر ما عرفتونه

لقد أدى عزيز علي منولوج الدكتور عندما زار المندوب البريطاني بغداد ..و شبهه بالدكتور الذي يعالج مريضه (و طبعا المريض المقصود هنا هو العراق) ..بسبب الأوضاع السيئة التي يمر بها العراق آنذاك

يا ناس مصيبة مصيبتنا نحجي تفضحنا قضيتنا

نسكت تكتلنا علتنا بس وين نولي وجهتنا

دلينا يا دكتور

أنا يا دكتور وعيالي....... مرتي و ولدي وأطفالي

ما تمرضنا بكل داء....... و أبداً ما أخذنا دواء .......و لا راجعنا أطباء

بس من مده لهل جم سنة .......أتمرضنا و وكعنا بعضنه

بأمراض صارت مزمنة....... نستنه الراحة و الهنا

دكتور...... دكتور دخل الله دخلك ما تداوينا

داء اللي بينا منا و بينا .....دتجينا الحمى من رجليينا

دسگينه العلقم بس شافينا

دكتور أمراض اللي بينا ميفيد وياها كنينة

و لا يفيد الكالسيوم .... و لا فوسفات الصوديوم ........و برومايد البوتاسيوم

يعني هيجي يمضي الجسم .........و أحنا مو من هذا القسم

أمراض اللي عدنا تنقسم ..... أقسام..... أقسام أو ماله اسم

دكتور...... دكتور دخل الله دخلك ما تداوينا

داء اللي بينا منا و بينا .....دتجينا الحمى من رجليينا

دسگينا العلقم بس شافينا