اخر الاخبار:
توضيح أمني بشأن "أصوات انفجارات" سُمعت في بغداد - الأربعاء, 01 تشرين1/أكتوير 2025 18:55
أمريكا تعاقب 38 كياناً وفرداً لصلتهم بإيران - الأربعاء, 01 تشرين1/أكتوير 2025 18:43
اعتقال "إرهابي" يتنقل بين مناطق بغداد - السبت, 27 أيلول/سبتمبر 2025 19:48
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

صدام غازي: الشاعر الذي يسكب القصيدة في كأس الخمر والخراب// محمد علي محيي الدين

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

محمد علي محيي الدين

 

عرض صفحة الكاتب 

صدام غازي: الشاعر الذي يسكب القصيدة في كأس الخمر والخراب

محمد علي محيي الدين

 

في ضواحي بابل، حيث الريف يتهجّى الحزن كقصيدة، وتمرّ الحياة على مهل فوق سُهوب من الضوء والتراب، ولد الشاعر صدام غازي محسن عام 1975 في قرية الجمجمة. ومنذ ذلك الحين، بدا وكأن القدر أشار إليه بإصبع الشعر، ليكون شاهدًا لغويًا على تحوّلات الذات العراقية وتصدّعاتها، لا بوصفه راويًا فحسب، بل كمَن يخوض الكتابة سعيًا للخلاص، ويكتب ليُنقذ ما تبقّى من المعنى في عالم تتآكله البكتيريا السياسية والروحية.

 

من معهد إعداد المعلمين الذي تخرّج فيه سنة 1998، خرج صدام حاملاً معطف اللغة ومعول الحفر في المعاني، لكنه لم يختر النبرة الخطابية، بل مضى إلى بناء عالمه الشعري بلغة كثيفة، رمزية، وموغلة في التشظي، حتى غدت قصيدته تنزف كأنها جسدٌ آخر.

 

انضمامه لاتحاد الأدباء والكتاب في بابل سنة 2022، لم يكن حدثًا شكليًا بقدر ما كان اعترافًا بتجربته المائزة، التي أخذت تنضج عبر دواوينه المتعاقبة، بدءًا من ديوانه الأول "أنا هنا منذ عام 1975"، وكأنه يعلن ميلادًا مزدوجًا: ميلاده الشخصي وميلاد صوته الشعري في آنٍ واحد، إلى دواوينه الأخرى التي واصل فيها طرح أسئلته الحارقة عن الهوية والموت والمرأة والسياسة والخراب، مثل "مدن البكتيريا"، و"أسكبكِ في الخمر وكل هذا الخراب"، وأقراطك التي لا تشبهكِ"، وصولًا إلى أحدث دواوينه "كله خمر أبيض وسياسة".

 

في دواوينه تتجوّل المفردات كما لو أنها تبحث عن ملجأ، واللغة عنده ليست أداة وصف، بل مادة متفجّرة، مشبعة بالمفارقات، يتقاطع فيها العاطفي بالساخر، والفلسفي باليومي، والسياسي بالشهواني، في مشهد لغوي لا يهدأ. فقصيدته ـ وإن بدت أحيانًا على هيئة نثر ـ مشبعة بإيقاع داخلي خفي، ينبثق من بنية الصورة لا من الوزن، ومن التوتر لا من النغمة.

 

لقد انحاز صدام غازي إلى ما يسميه بعض النقاد "الشعر الآخر"، ذاك الشعر الذي يتخفّف من البلاغة التقليدية ليحفر في الجُملة شعريةً غير مألوفة، وغالبًا ما تبدو كأنها آتية من مرآة محطّمة. وهو في ذلك يُشبه من يكتب وهو واقف على حافة، يراقب العالم من مكان يائس، لا يملك سوى اللغة ليحمي ما تبقّى من وجدانه.

 

يرى النقّاد فيه شاعرًا لا يسعى للبهجة ولا يتاجر بالمجاز، بل يُقيم حفرياته داخل الألم، ويؤثّث نصّه بمفردات من الهامش، من اليومي، من القاع، وكأنّ شعره احتجاجٌ دائم على الأنظمة: أنظمة الشعر، وأنظمة السلطة، وأنظمة الأخلاق. وقد وصفه أحد النقاد المحليين بأنه "الشاعر الذي يتعامل مع اللغة كما يتعامل السكير مع الكأس: لا يشرب ليستمتع، بل ليصل إلى التماهي الكامل مع الغياب".

 

أما حضور صدام غازي في المهرجانات الشعرية والأمسيات الأدبية، فقد شكّل حالة مميزة، لا لأنه يقرأ شعره بصوتٍ رخيم فحسب، بل لأنه يحوّل القراءة إلى طقسٍ خاص، يتماهى فيه الأداء مع النص، فيخرج المستمع وهو مشوّش، مثقل، كأن القصيدة طرقت رأسه بمطرقة من وهم ووعي في آنٍ واحد. وتزداد هذه التجربة كثافة في حضوره الصوتي على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث بات يُعرف بين متابعيه بـ"الشاعر الذي يقرأ ليُنقذنا من عطب اللغة".

 

في دواوينه، تسكن المرأة ككائن رمزي، والمدينة كمكانٍ متعب، والسياسة كوباء، والخراب كظلّ دائم. وحين يكتب عن الخمر، فإنها ليست مجازًا رومانسيًا، بل موقفًا وجوديًا من هذا العالم الكاذب، حيث كل شيء مسموم، حتى الحب.

 

إن تجربة صدام غازي، بقدر ما هي شخصية، تحمل بين سطورها ملامح جيل بأكمله، جيلٍ خرج من الحروب والخيبات ليكتب بشظايا الذاكرة وبفتات الحلم. وشعره، وإن بدا مشبعًا بالمرارة، إلّا أنه يحمل في عمقه نداء خفيًا للنجاة، كما لو أن القصيدة هي القارب الأخير وسط هذا الطوفان الوجودي. فصدام غازي ليس شاعر الخمر فقط، ولا الخراب، ولا المدن الموبوءة، بل هو شاعر الوعي القلق، والمفارقة التي تسير على قدمين. شاعر يكتب من الجرح وبالجرح، ولا يخاف من أن يُسكب شعره في كأس العالم، ولو كانت الكأس متصدّعة.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.