اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

• هل تسجن الذاكرة إبداع المبدعين

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

 د. هاشم عبود الموسوي

هل تسجن الذاكرة إبداع المبدعين

 

أتذكر أني قرأت في يومٍ ما: أن بعض علماء النفس والمحللين للطبيعة البشرية يميلون للاعتقاد بأن الذاكرة القوية، ربما تحدُّ من الذكاء والتفكير المنطقي في مواجهات مواقف آنية تحتاج إلى اتخاذ حلول وقرارات بعيدة عن ذاكرة مليئة بأحداث سابقة، قد تكون مُشابهة، إلا أنها حدثت في ظروف زمكانية أخرى.. ولكن هذا الكلام ربما لا ينطبق تماماً على معاناة المُبدعين الذين يتمتعون بذاكرة قوية.. تختزن إرثاً ثقيلاً غير قابل للتأويل.

 

الإبداع والموت توأمان وإن بدا الموت هلاكاً في معتاد اللغة المتداولة أي نقيض الإبداع. إن الذي يكتب ينفقد في لحظة الكتابة، وفي ذلك الانفقاد يتولد النص، يتشكل لغة بعد أن تراكمت آثاره الأولى في الذهن وتخمّرت إمكان وجود..، وإذا النص بعد تشكله هو الذي يكتب مؤلفه مجازاً وإن كان فاعل النص في بدء تمثل الفعل الكتابي هو أنا – الكاتب. فليس الإبداع بهذه الدلالة الناشئة في نقد الأدب الراهن – محاكاة للطبيعة ومطلق الوجود عوداً إلى شعرية الإغريق أو صنعة في مألوف الترتيب النموذجي للأدب الجاهلي العربي، وهل هو خلق برؤيا جديدة يشقى به صاحبه ويغامر بحثاً عن مستحيل ممكن. وهل تؤدي هذه الحركة العجيبة في ذهن المبدع والتي تحول اللا-مُنتظر إلى منتظر- بمتلقيه على الاستفهام ويبدو لي أن فعل الإبداع الأدبي – في سياق الفن العام- اتصالاً انفصالاً في ذات اللحظة عن مختلف المسبقات، هو الذاكرة الفردية ونقيضها، مفعولها والفاعل فيها أو الغريب عنها في ذات الموقع، وهو الحافظة الجمعية تطفو بين الحين والآخر على سطح الكلام الأدبي لتحمل في رموز لغوية مكثفة - في الغالب – ترسبات ذهنية وأصداء وقائع مجتمعية وحضارية قديمة تنتقل عبر قنوات التواصل بين السلف والخلف إلى ذات الفرد المبدع، وهو النقيض إذ الإبداع في أهم أسسه حركة اندفاع، فعل ثوري يقتحم بأسئلته المحرقة مملكة الوثوق كي يفجّر هدوءها "فوضى" نظام بديل تنشد الانتقال من وضع مهترئ إلى وضع جديد.. غير أن "الما – قبل" هذا الزمن العَوْدَوِيّ سرعان ما يُعقلن السؤال لتستعيد قوة الفعل سجنها داخل الدائرة في حصار العادة، ويُقضى على حلم الإبداع لدى المبدعين في غمرة الهزائم المتعاقبة بالانغلاق في كثافة الترميز خوفاً من رغبة سائدة في تحويل الملفوظ الأدبي إلى أداة تابعة لأجهزة الإعلام والأدلجة الرسمية.

 

كيف يكون الماضي في وعي الإبداع الأدبي راهناً – في الساحة الثقافية المعاصرة حاضره ومستقبله؟ كيف يكون للحاضر ماضيه ومستقبله؟ كيف يكون للمستقبل حاضره وماضيه؟ أسئلة تبدو ساذجة في تركيبات لغوية معتادة إلا أنها قد تنزع إلى تأسيس معرفة بدائية لا تؤالف بين مواقف متباعدة في الزمان والمكان مؤالفة لا تاريخية أو تلخص ما لا يجوز تلخيصه فكراً، أو تحاكي ثقافة أو ثقافات لها مناخاتها وتضاريسها الخاصة في وقائع مجتمعية مغايرة.. هل من حق المبدع العربي في مجال الأدب وفي غيره من الفنون أن يظل سجين الذاكرة سواء كانت فردية أو جمعية؟ هل تحتاج إلى ذاكرة جديدة للخروج من وضع الارتباك في الرؤيا الإبداعية الراهنة وفي مشاريع العمل الثقافي والسياسي وفي برامجنا الاقتصادية والتعليمية وغيرها في محاولات بناء مجتمع عصري؟ وليس لنا في هذا السياق إلا اللواذ بفعل الإبداع من حيث هو وقائع مهزوزة وإمكانات أسئلة تنبثق من ذات الفرد وتتصل بأبعد الفضاءات داخل كياننا الحضاري الراهن.. ويُمكن التعريج في مسار حديثنا على موقفين من الذاكرة والإبداع في كتابات نقد "الحداثة" العربية المعاصر هما لجبرا إبراهيم جبرا أو الياس خوري لقد أدرك جبرا خطورة السؤال المتعلق بالذاكرة، وتفطّن بوعي مأساوي حاد إلى "اللازمة" الكبرى في إبداعاتنا الأدبية المعاصرة، ذلك "الماضي الجميل" يدفعنا دوماً إلى التضحية، وإذا الذاكرة أشبه ما يكون بـ"سيرينه" تغوي الفنان وتدمره لينبعث من جديد من تحت الأنقاض، "فالذاكرة" – الحلم تلتهم، ولكن عليها أيضاً أن تجدد الولادة، ولكن هل تفعل ذلك؟ أنحيا نحن أم نموت، ولو قليلاً، في فعل خلق نعيش من خلاله مرة أخرى الماضي اللذيذ، الملوع، المدهش، فَنَسَلّع الجسد بذلك لسلطة "الحلم"، وبين الذاكرة والحلم يضخم الزمن العودوي ويختفي المستقبل وينقلب الحاضر إلى رموز خافتة.. ففي مدار الذاكرة لا تنجز الحركة من آلية الصعود والنزول، مَدَّ فانحسار، بدابة قوة تتجمّع يتلوها انكسار؟ إنها دورة مأساة تشبه مأساة سيزيف وإن بدا وعينا سجين الذاكرة والرجوع إلى الما – قبل في حين ينغلق وعي سيزيف في "لحظة" راهنة مبتورة ليس لها ماضٍ أو مستقبل، كيف لفعل الإبداع الأدبي اليوم أن يُخلّص الذاكرة من أنماط حركة الارتداد إلى الماضي المصنّم ومن سجن الذهن المنغلق على ذاته في لحظة عابرة لا تمتلك تاريخاً ولا يُمكن لها أن تتواصل في حركة مستقبلية(*)؟

 

إذاً السؤال الذي يطرح نفسه علينا هو هل نسمح أن ينقلب حلمنا الإبداعي – في معتاد الكتابة، ولتشرذمه بين السُبل المتباعدة – إلى كوابيس تظهر في أبنية متفككة يفقد الماضي داخلها "ماضيته" أي نبض الحياة فيه ويتشوه الحاضر، يُختزل في دفق الحنين إلى المنقضي ويغيب المستقبل من حيث هو إمكان حدوث، وكأن أغلب رواياتنا تمهيدات لنصوص لا تُكتب، وجلّ قصائدنا نصوص مجهضة تكتسح بياضات الأوراق لتودع في مقبرة الكتب والمجلات ويبتلعها النسيان الأبدي، أو يغرق ذلك الحلم في سباتٍ عميق لا تؤثر فيه ولا اهتزاز بحكم العادة والتكرار من أنقاض الذاكرة المهددة ونبحث لنا عن ذاكرة جديدة تتشرب الماضي وتنزع عنه قداسته وتتأسس في الحاضر، تدفعنا إلى الحلم والفعل والنقد وتمثّل الكينونة في أدق معانيها ضمن سياق محدد في المكان والزمان وإلى وعي حركة التاريخ؟

 

والسؤال الثاني: هو كيف يجب علينا أن ننطلق في المرحلة الراهنة:

 

لا شكّ أن هذه المرحلة تستلزم فكراً جديداً للاختلاف، مخططاً جريئاً لا يُحاكي السلفية الفكرية للغرب ولا يلوذ بالشعارات، ينقذ الوجود في غمرة المفقود المتسع ويقاوم شتى مخططات الإبادة والإفناء.. وليس للأديب إلا أن يواصل السير في المتاهة ليغالب الظلمة والرياح العاتية، سلاحه السؤال، به يخترق الفراغ الحالك ويقاوم الرتابة والاتباع.. ولكن تستلزم إعادة قراءة المنقضي في البحث عن فكر جديد للاختلاف وللفعل الإبداعي والممارسة في دلالتها المجتمعية الواسعة طرحَ أكثر الأسئلة بدائية واندفاعاً في هذه المرحلة: كيف نخطط للكتابة؟ كيف نكتب؟ لم نكتب؟

 

هذه إرهاصات تُرافق القلق الذي ينتابنا عند محاولة الوصول إلى إجابات متكاملة ومُقنعة.

والله الموفق

 

الهوامش والمراجع:

 

1. Martin Heidegger. ''Chemins Qui ne Menent Mulle Patt''. Qullimard, 1962, PP: 558-559.

2. جبرا إبراهيم جبرا، "الفن والحلم والفعل": "... يبدو أنني أريد الكثير جداً من اللحظة الراهنة، بحيث أجد التضحية بأي قدرٍ منها من أجل هذا الماضي "الجميل" شيئاً شديد الخطر، ولئن يكن مرور الزمن أمراً قياسياً حقاً، فإن الواحد منا يتمنى أن يعبث بالزمن وهو يمر هكذا دون رأفة، ويرفض أن يضع نفسه تحت رحمة الذاكرة.."/ ص: 12.

3. يُحيل جبرا على أسطورة "سيرينة" في ملحمة هوميروس الإغريقية للتدليل على الذاكرة التي "تنشّط الرغبة، ولكن دائماً كحلم..". وهي شخصية أسطورية، واحدة من مخلوقات، لها رأس حسناء وجسم طائر، تُغوي البحارة بغنائها الساحر فيحولون وجهة سفنهم لترتطم بالصخور وتتحطم.. و"شاطئ السيرينات مليء بعظام البحارة..". ص: 12 و 13 من المرجع السابق.

4. المرجع السابق/ ص: 13.

5. الياس خوري.. "الذاكرة المفقودة، دراسات نقدية"، مؤسسة الأبحاث العربية، ط1: 1982/ ص: 13.

6. أدونيس. "زمن الشعر". دار العودة، بيروت، ط3: 1983/ ص: 10.

7. هنري لوفافر (Henri Lefever). "ما الحداثة"؟ ترجمة: كاظم جهاد، دار ابن رشد للطباعة والنشر، 1983م.

وهو مرجع ماركسي في تمثل الحداثة يهدف إلى "وجوب استعادة الإنسان للطبيعة بعد أن مسخها التجريد.." ص: 36.

 

--------------------------------------------------------------------------------

 

(*) تأكد منحى القطع مع الماضي في "ِشعر". يقول يوسف الخال في مقدمة كتاب "الشعر في معركة الوجود" دار مجلة "شعر" بيروت 1960، وهي مقالات لمجموعةٍ من النقاد نُشرت في أعداد من "شعر" جُمعت في كتاب: "إن الأثر الأدبي ليس مومياء بل وجود حيّ، وهو ليس التفاتة إلى الماضي بل تطلّع نحو المستقبل"

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.