اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

الحفرة: قصة قصيرة // عبدالرزاق اسطيطو

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

اقرا ايضا للكاتب

الحفرة: قصة قصيرة

عبدالرزاق اسطيطو

 

مرت بالقرب منه ، عطرها الفواح أيقظ حنينه من سباته، كما لو أنها ليلى قال لنفسه، القوام الرشيق نفسه ، العيون العسلية، الخدود الموردة، الشعر المنساب كشلال خلف ظهرها كل شيء فيها حتى مشيتها قطعة منها سبحان الخالق، وطوح به الخيال كنورس في الأفق، عند كل ميناء كان يحط برحاله ، متأبطا أحلامه وهمومه، مستمتعا بماضيه الذي يسكنه حد التلف ، وماذا بقي له في هذه الدنيا، غير الحكايات، وأغاني الشيخ إمام، والذكريات الجميلة،  خاصة تلك التي عاشها بالجامعة، محطته الأخيرة التي تسكنه ويسكنها .. آه لو كنت أعرف ما ينتظرني من عطالة لما ولجت أبواب الجامعة أبدا، كل شيء تبخر، شقاء والدي الخياط الذي فقد نعمة البصرمن أجل أن يراني شخصا مهما، ودعاء والدتي عند الفجر ، وكدي وسهري  كل شيء ضاع منهم لله أولاد .. ولكن كيف كنت سألتقي بليلى ، ليلى أعظم كتاب ضمته تلك المكتبة وأجمل طالبة درست بها . كان كل من صادفها ووقعت عينه عليها يصير ظلا لها من حيث لا يدري، وأنا مثلهم مخلوق من لحم ودم ، فورة شباب متعطش للعلم والنضال والعشق في الآن نفسه، وهكذا كنت وهكذا صرت الآن كبندول ساعة قديمة، معلقا بينهما لا العلم انتصر لي، ولا أهل ليلى قبلوا بي زوجالها،..حكى لي بعد عودته منكسرا من بيتها قائلا"  سألوني عن وظيفتي وأجري ومسكني ، ونسوا أخلاقي ونضالي وحبي لليلى وللوطن ، كل هذا لا يعنيهم،  كل هذا لا يساوي فرنك مضروب ، المال عندهم صار زينة الرجل، وزينة الحياة الدنيا، حتى لو كان حراما ، أحلوا كل شيء أولاد ..تفو .وماذا كنت تظن سأقول لهم مهنتي هي اجتياز المباريات"كنكري"، وهي مهنة حديثة من إفرازات العولمة ومنطق التقشف والإنفتاح على الغرب والشرق وتناوب الحكومات على خيرات البلد ،  قلت لهم بعد صمت رهيب يسبق العاصفة، "كل يوم ورزقه ، والأرزاق بيد الله" ، وأنا أعرف مسبقا بأن الأبواب التي يشرعها الله في وجهي دائما  تغلقها وبسرعة البرق أيادي اللصوص، ولا يلجها إلا أولاد .. الذين يبيعون القرد ويضحكون على من اشتراه،  الحياة باتت جنة لهم وحفرة  لنا من حفر النار، نهض أبوها واقفا  من غير حتى أن يمد لي يده مودعا وهو يشرع الباب معلنا نهاية المقابلة، قائلا سنفكر في الموضوع ونرد عليك، فهم كلامي كسيميائي خبير في اللغة ، بدا لي في قراءته لجوابي أكثردهاء ومكرا من بارت نفسه". هكذا بحسرة أخبرني عن خسارته لليلى  . زوجوها بعد ذلك لعجوز فرنسي، ورحلت للأبد.. لكنه ظل وفيا لها حد الجنون. "سبحان الخالق المصور"رددها أكثر من مرة وهو ينفض عن سرواله الغبار، حمل فأسه وعاد من جديد ليكمل ما بدأه من حفر، أعرفه ويعرفني، فقد ظللنا رغم العواصف والسيول والنكبات رفيقين كغصنين متشابكين ، مذ كنا  بالثانوية حتى حصولنا على شهادة معطل للأبد، وبعد حصولنا على الشهادات الفخرية التي تمنحها الجامعات العربية الآن  ، بدأنا نلتقي بموعد أوبغير موعد تارة بالعاصمة وتارة أمام بلدية المدينة محتجين على مانحن عليه من عطالة ، وعندما تتعب أجسادنا من الوقوف والركض وتعنيف الشرطة لها، نجتمع على كؤوس الشاي المنعنع، ننصت لأم كلثوم "دارت الأيام ومرت الأيام "  بإحدى المقاهي الشعبية، ونحن نسترجع بلوعة شريط الذكريات الهاربة، قتلا للرتابة والهم .

 كنت أراقب المشهد عن قرب بيني وبينه خطوات لا أكثر ، لما أنزلوه من سيارة البلدية التي تشبه عربات البدو التي تقصد السوق يوم الأحد، رسم له المسؤول ومعه المهندس وبعض العمال مربعا لكي يحفرفي حدوده بحثا عن سلك كهربائي غليظ ومفتول أسود اللون  مدفون في الأرض، هذه هي مهنته الجديدة ،حفار، حصل عليها بعد أن توسلت أمه لمرات عديدة زوجة مرشح الحي كي تجد له عملا بالإنعاش ، أخبرني بذلك قبل قليل بعد أن غابت سيارة البلديةعن أعيننا ، وأضاف لكي تحصل على وظيفة بهذا البلد أنت أدرى الناس بذلك صديقي لا داعي لأكمل ، بماذا نفعتنا هذه الشواهد.. أولاد ال.. سرقوا كل شيء منا ، حتى الفتات كنسوه وجمعوه ، جعلوا أعزة القوم أذلة ، كل أحلامنا ذهبوا بها إلى الجحيم تفو..تركته لكي لا أسبب له مشكلة قد يطرد معها من عمله هذا ، وعدت للمحل لأكمل ما بدأته ، إصلاح ما انكسر من زجاج النوافذ والأبواب، والذي سبب لي من الجروح على ذراعي وروحي ما يدعو للإعتقاد مسبقا بأنني كنت فيما سبق مجرما خطيرا، فلكي تحصل على وظيفة الآن عليك بالمال أوالمعارف وأنا وصديقي أيوب تم بناؤنا للمجهول وكسر ماقبل الآخر فينا  ، هكذا قالت القاعدة الديمقراطية وسيتم العمل بها إلى يوم يبعثون إلا إذا حصلت معجزة تقلب كل الموازين ، وتعيد الأمور إلى نصابها ، الزمن يعود لرشده ، والوطن يسترد حريته وكرامته المهدورة .. .

 يمر شريط الذكريات كقطار سريع ، يطوي المسافات والأمكنة والأشجاروالوجوه طيا ، وأنا أراقب أيوب وهو يحفربقوة ، كما لوأنه ينتقم لنفسه ولي وللآخرين ولحسن الذي جن بسبب العطالة من الأرض التي شردتنا جميعا، ومن السعادة التي ظلت الطريق إلينا.. لما رفع رأسه ليستريح قليلا وقد صار الوقت ظهرا ويحق له أن يغادرلساعة الحفرة ، ليتناول خبزه وشايه، ويدخن سيجارته  الرخيصة، لاحت له صورتها من بعيد عائدة من عملها، هي نفسها معطلة وجدت بصعوبة عملا عند طبيبة تكنس لها العيادة وتستقبل المرضى  وتساعدها أحيانا على أشغال البيت خاصة في الأعياد، وكل ذلك بأجر لا يتجاوز الألف درهم في الشهر وقد أخبرني بذلك والدها المتقاعد وهو يضيف بسخط ، حقوق المرأة قال... ضيعوها أولاد ال.. القوي يأكل الضعيف،غابة و.. لا وظيفة ولا زوج ولاصحة ولامال ولا بنون.. لعنة الله عليهم ..  وكما وصفها أيوب أو أكثر ، أنا نفسي صرت من حيث لا أدري عاشقا لها ، أخلف ورائي كل شيء ساعة مرورها ، لما اقتربت منه انتصب واقفا كعمود ، نفض الغبار عن سرواله وشعره ووجهه ، ونط كقط إلى الأعلى ، كل شيء فيها، يعيد له شبابه وخفته وحيويته ، متسخا ، تفوح منه رائحة العرق، ألقت عليه نظرة عابرة، قال لنفسه ، آه لو كانت ليلى لحما ودما، لتعلقت بعنقي كطفلة وأغرقتني ...  انتفض قلبه كعصفور في قفص وهو يتنهد ، لو وجد ثغرة واحدة فيه لفرت منه روحه قبل عقله ، حالة الشرود هاته صارت رغم ما سببت له من متاعب ملازمة له لم يتخلى عنها ، بسببها تم طرده من العمل مرات عديدة ،  ومرة وجد نفسه بسببها بمركز الشرطة ، كان الوقت ليلا ، خرج ليدخن سيجارة على عتبة إحدى الأبواب ونسي نفسه ، ظنه صاحب البيت لصا يتحين الفرصة لسرقة البيت ،  فاتصل بالشرطة ، وجد نفسه بين سين وجيم لما سألوه عن المهنة قال لهم معطل، خريج جامعة ظهرالمهراز ، ماستر فلسفة، تخصص علم الإجتماع  ، مع طلوع الشمس أطلقوا سراحه  خوفا من الفضيحة ومن مظاهرات المعطلين، ظل طوال اليوم يسب ويلعن ، لعن الإمبريالية  والتبعية والديمقراطية  وصندوق النقد الدولي وال..وهذا الوقت التعيس..  ، كل المهن جربها ،  وكالبحر لفظته، تركته بين مطرقة الدائنين وسندان العطالة ، لعنة ما تطاردنا يقول ، بسببهم لعنا نحن، كل الخراب الذي وصلنا إليه وسنصل إليه في المستقبل بسببهم، سيسووا بنا الأرض مثل تراب هذه الحفرة ، بصمتنا وجبننا صنعناهم ، ليعبثوا في الأخيربنا وبرزق البلاد والعباد ، ضيعونا أولاد .. لما اكتشف مراقبتي له  ، حياني قائلا "الله يعاون عبد، وأضاف هل من شربة ماء أو كأس شاي" حملت له قنينة بها ماء  وكأس شاي دافء وقطعة من رغيف مدهون بالزبدة والمربى، وهو يرتشف الشاي بمتعة ويدعولي بالصحة ، اتكأ على الجدار ومد رجليه على الرصيف  وشرع من جديد في التدخين ، "السجارة مثل المرأة تقبلك وتحرق قلبك" هكذا يعرفها وهو ينفث دخانها في الهواء، لما انتهى من الأكل والتدخين غير مكترث بالمارة ، عاد من جديد للحفرة،.نزل إلى قاعها كانت ذكراها عزيزة على قلبه، وكلما رأى فتاة تشبهها، هزه الحنين إليها كغصن، كان يضرب بعنف ويلعن الوقت والساسة والعالم، وكان صوت الحفروالسباب والفأس وهو يرتطم بقوة بالأحجار يصلني بوضوح، ونسي  مانصحه به المهندس بأن الحفر بحثا عن السلك الكهربائي  يتطلب الحذر الشديد، فالأمر خطير قال له، فقد تتحول الحفرة إلى قبرلك ، تاه كعادته مع الذكريات ومتعتها وانقطع صوته، لحظة سمعت صراخا قويا وجلبة هرولت مع المارة حيث  الحفرة، وجدنا أيوب منكبا على وجهه، منفوش الشعر، أسود اللون،  كثعبان  لذغه السلك الكهربائي ولم يتركه إلا وهو جثة هامدة ، رحل أيوب ورحل معه شروده وعشقه للأبد، بدت السماء ملبدة بالغيوم، ونحن نحمل نعشه في مسيرة  ضخمة،  ضمت إضافة إلى سكان المدينة كل رفاقه المعطلين ، وقبل أن نصل إلى المقبرة بدأت السماء تمطرحزنا على رحيله.

 

عبدالرزاق اسطيطو

 

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.