اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

Beez5

"أميرةُ الحَضَرِ" تبحثُ عن بَطنِ الحوتِ!// محمود حمد

محمود حمد

 

عرض صفحة الكاتب 

نَص وحكاية:

"أميرةُ الحَضَرِ" تبحثُ عن بَطنِ الحوتِ!

محمود حمد

 

انقطع الاتصال (وانا في الغربة) مع صديقي المؤرخ واللغوي (أبو بطرس الآشوري) فجأة، منذ ما يزيد على ثلاثة أشهر، وأخفقت في الحصول على معلومات عن مصيره ومصير أسرته رغم محاولاتي الاتصال بمن يعرفونه في الوطن!

 

بعد تزايد الأخبار عن جرائم حرق الكنائس، وعمليات التصفية الجسدية الوحشية والاختطاف والاغتصاب الواسعة التي يتعرض لها المسيحيون...ازداد قلقي عليهم، خاصة بعد انقطاع وسائل الاتصال بجميع من اعرفهم، ومنهم جيراني وأصدقائي في منطقة (الدورة) جنوب بغداد!

 

الذين كانوا يشكلون بتنوعهم الثقافي في (مجلسهم) المعرفي المسائي بالباحة الأمامية لمنزلي، ثراءً عقلياً، ومتنفساً روحياً لهم ولي، في أحلك ظروف الحصار الاقتصادي والقمع الفكري والعزلة الاجتماعية التي فُرِضَّتْ علينا خلال السنوات التي أعقبت غزو الكويت!

 

على امتداد غربتي في داخل الوطن وخارجه كنت احرص على حمل كتاب الأب (انستاس مار الكرملي) الذي أهداه له صديقي الآشوري (أبو شبعاد) بعنوان (نشوء اللغة ونموها واكتهالها) كذكرى له، حيثما ارتحل مغصوبا...

 

لم تفارق ذاكرتي أحاديث (أبو شبعاد) الثرية والممتعة عن تاريخ العراق في مختلف مراحل نشوئه وارتقائه المدني، وعن التحديات التي هددت هويته الثقافية والحضارية، ومدى شغفه باللغة العربية وفنونها وأصولها وقواعدها...وميله الشديد نحو التثبت مما يقول قبل أن يقول!

اتذكر حديث صديقي (ابو شبعاد) غداة احتلال إيران لشبه جزيرة الفاو ذات الموقع الاستراتيجي في العشرين من مارس سنة ست وثمانين وتسعمئة وألف...قائلاً لنا بنبرة مفعمة باليقين:

لن يستطيعوا محو العراق وطناً أو حضارة...

عودوا إلى التاريخ...

 

فمنذ سقوط بابل في أوائل القرن السادس قبل الميلاد كآخر عاصمة لدولة عراقية مستقلة... سيطر الفُرس على بلاد ما بين النهرين، فوجدوا فيه حضارة لا تُمحى وإرث إنساني لا يندثر بسهولة، بل على العكس من ذلك راحوا يتبنون بالتدريج الميراث الحضاري العراقي، ومنه:

تبنيهم لـ(يوم نيروز) الذي كان يومًا مقدسًا عراقيًّا باسم (حاجتو)...أي (يوم الحج) ...، وهو اليوم الأول من السنة العراقية الجديدة التي تبدأ في أول أيام المنقلب الربيعي، وفيه يعود تموز إله الخصب الذكوري إلى الحياة ليخصب عشتار آلهة الخصب الأنثوي وتعود الخضرة والحياة إلى ربوع النهرين!

وهم اليوم...

تطأ أقدامهم أرض (سومر) ذاتها كغزاة...

لكنهم لن يصمدوا على البقاء فوقها لأنها ساخنة ومتحركة!

 

عندما "غادرت الوطن كانت بنات صديقي الآشوري الثلاث صبايا كبراهن "شبعاد" (1) وصغراهن "شميرام" (2) والوسطى "دوشفري" (3)!

****

قبل يومين... خلال توديعي لأحد أصدقائي في المطار صادفت جارهم القديم الممثل المسرحي الكوميدي العجوز (سرجون) حاملاً حقائب الهجرة وحيداً إلى السويد، فتعانقا وانزوينا في صالة الانتظار...

 

كنت متعطشاً لسماع أخبار من أحبهم من الأصدقاء الذي اختفت أخبارهم خلف إعصار الخراب و(الفوضى الهدامة!) التي أوقدها المحتلون عام 3003، وأججتها الكراهية الطائفية والدينية والعرقية، فتفشت وباءً دموياً متوحشاً في بيئة التخلف الموروث والمتناسل في المجتمع!

 

أمسى (سرجون) مختلفاً عما كنت اعرفه، فقد تبددت الكوميديا من روحه واكتست ملامحه بالعبوس المتأبد... كان كلامه عشوائياً وملتبساً، ينتقل من خبر إلى آخر دون اتمامه، يذكر أشخاصاً في لُجَّة المحنة دون الإشارة إلى مصائرهم، مما زاد من ظمأي وقلقي لمعرفة أخبار الأصدقاء ومصائرهم...

 

صار (سرجون) يتمتم مع نفسه عندما سألته عن عائلته:

لا أدري ...لا أدري...

هربنا في ظلمة الليل مفزوعين عندما استباح الذبّاحون المنطقة، كُلٌ فَرَّ في اتجاه، ولم أعرف مصيرهم منذ ذلك اليوم قبل أكثر من عام!

عندما كنت أحاول الهرب بعكازتي، صادفتني عائلة لا أعرفها وأنقذتني ووضعتني معهم في حوض سيارة (البيك آب) ...

بعد رحلة مضنية، وجدت نفسي في مخيم للهجرة واللجوء في كوردستان...

طوال تلك المدة لم أترك باباً إلا طرقتها ولا نافذه إلاّ فتحتها عسى أن أتعرف على مصيرهم... رغم وعود الصليب الأحمر المتكررة لي بالبحث عنهم في مخيمات اللجوء أو في قوائم ضحايا الإرهاب...

ولأني رجل كبير ومريض ولا أحد لي... منحوني حق الهجرة إلى السويد!

 

أطرق (سرجون) إلى الأرض ومسح دمعة ترقرقت بعينيه المحتقنتين، وقال كأنما معاتباً نفسه:

لم نكن نتخيل إن (مذبحة سمّيل) سنة ثلاث وثلاثين وتسعمئة وألف، ستتكرر علينا!

ثم صمت وهو يتطلع إلى الأضواء الساطعة التي منحت صالة المطار بهاءً، وأطلق حسرة عميقة من صدره، وهو يتذكر صديقنا (أبو شبعاد) وأسرته... متمتماً:

في أول ليلة للمذبحة التي نفذها الارهابيون بمسيحيي منطقتنا... فَرَّ (أبو شبعاد) بأسرته من بغداد متوجهاً إلى بيت أخيه في سهل نينوى، وعند وصولهم إلى أطراف بغداد أوقفتهم مجموعة مسلحة واختطفت منهم بقوة السلاح أبنته الصغرى (شميرام) "سَبِيَّةً"، وعندما حاول أبوها التشبث بها أطلقوا النار عليه وأردوه قتيلاً، وأعادوا جثته إليهم، ووضعوها في حوض سيارة الركاب التي يستقلونها، وطلبوا منهم المغادرة فوراً أو إطلاق الرصاص عليهم!

 

في الطريق فارقت أمهم العليلة الحياة بنوبة قلبية من شدة الخوف، وعند وصولهم في منتصف الليل إلى مدخل الموصل ساقتهم مفرزة من الارهابيين لاستجوابهم عن الجثث في السيارة... فاقتيد السائق للاستجواب و(شبعاد) انتزعت من بينهم كـ "سَبِيَّة"!

 

عندما سمعت (دوشفري) صراخ واستغاثة أختها (شبعاد) التي افترسها المُغْتَصِبون، وهي تطالبها بـ “اللغة السريانية" بالهروب، لبست (دوشفري) ستار الليل، وتعاظمت قوتها بفعل الخوف، وسارت حافية في الدروب الوعرة إلى جهة مجهولة... تبحث عن (ملاذ آمن) ... ربما في بطن الحوت!

 

غادر (سرجون) باتجاه مدرج المطار للموت في الغربة...

وبَقيتُ مُتسَمِّراً في مكاني لأكتب:

"أميرةُ الحَضَرِ" تبحثُ عن بَطنِ الحوتِ!

نَهضت (دوشفري)..."أترعتا"(4) من أطلالِ “الحَضَر"(5) المُحتلةِ...

تَنفُضُ أكفانَ مدينتِها من أدرانِ السلفِ الطالحِ...

تسألُ عبثاً عن إخوتِها...

أسرى بسجونِ المُحتلينَ...

دَخلت بعد قرونٍ بابَ "الزوراءِ"(6) المُشْرَعِ للشامِ...

قُبَيْلَ مرورِ الدباباتِ بفجرِ الجمعةِ...

سألَتْ ثُلَّةَ "ولدانٍ" سُمرٍ _ دونَ خُلودٍ _ في بَوابةِ قَصرِ "المنصورِ":

مَنْ مِنكُمْ يُرشِدُني لحبيسٍ في "دارِ الحكمةِ"؟ (7)

هَبَّ صَبيٌّ فيهم يَلبسُ قفطاناً أحمر...

أمْسَكَ يَدَها..

وتَقَدَمَ دونَ كلامٍ لـشريعةِ "بيت النواب"(8)!

****     

صَعَدا الزَورَقَ...

جاءَتْ حُوتٌ يَصحبُها شَبَحٌ من لونِ بَريقِ الشَمسِ...

يَحمِلُ في يُمناهُ خطابٌ أخضرَ...

هَمسَ الحوتُ بأذنِ الولدِ الأسمرِ...

جَحَظَتْ عيناهُ...

وتَمْتَمَ في وجلٍ قاطع:

إنّا لا نَعْرِفُهُ...

صَفَقَ المِجذافَ بوجهِ المَوجِ...وأسرى...

أومأ لفتاةِ “الحَضَرِ" المحزونةِ...

أن تَخفي وَجْهاً كطلوعِ البَدرِ!

****     

حَدَّقَ للحوتِ المُتَواري في أعماقِ الموجِ...

وأفصَحَ:

يسألُ عن "يونس" ليعيدوهُ إلى بطنِ الحوتِ...

خِشْيَةَ أن تَقتِلُهُ السياراتُ الملغومةِ...

أو يخطِفُهُ "وكلاءُ الله" المنتشرينَ بأسواقِ الفقراءِ...

دَخلتْ قصرِ "المنصورِ" الباذِخِ وقتَ صلاةِ الظُهرِ...

تشكو أفعالَ المُحتلينَ الـ حرقوا "عَرَبايا". (9)

لَمَحتْ كومَ رؤوسٍ مقطوعة في أرجاءِ المجلسِ!

****     

سَقطَ الولدُ الأسمرُ مفزوعاً بجوارِ الرأسِ الأشْيَبِ...

يَنشجُ:

يـ......ـا أبتي..

فاضَت طوفانُ أمومة...

حَمَلَتْ أحزانَ الولدِ المَهزولِ وآهاتَ الرأسِ المقطوعِ...

وأمْضَت بِضعَ عقودٍ تبحثُ عن قبرٍ تُؤْويهِم...

مَسَّتْ قَدَميها أكوامُ الكُتُبِ المحروقةِ في طُرُقاتِ المُدنِ المنهوبةِ...

وضَعَتْ حِملاً كان ثقيلاً...

رَصَفتْ جَسدَ الولدِ المهزولِ وأكوامَ الكُتبِ المحروقةِ والرأسِ المقطوعِ جوارَ النخلةِ...

حَفَّتْ قِذلَتَها قَدَمٌ تتدلى من تاجِ النَخلةِ!

****

أوصَتْ صاحبَها المُتَدَلي دونَ كفوفٍ من جذعِ النَخلةِ:

إنَّ الكتبَ المحروقةَ والرأسَ المقطوعِ ورفيقَ الدربِ..."وديعة"(10) ...

حتى يأذنَ رَبُّ الموتِ بميعادِ الدَفنِ!

قَطَعَتْ كُلَّ دروبِ الظُلمَةِ تَسالُ عن "بيتِ الحكمةِ"...

أوقَفَها قُطّاعُ الطرقِ المحترفينَ بعُنفٍ في نفقِ (البابِ الشَرقيِّ) ...

خَلَعَتْ نَعْلَيها للتفتيشِ الفائقِ!

****     

قالَتْ لكبيرِ القَتَلةِ:

إنّي من قومٍ نَقطِنُ فوقَ أديمِ الغَيمِ...

لا نَهبِطُ إلاّ ومواسمَ خيرٍ تَغمرُ كُلَّ الآفاقِ!

رُكِلَتْ...

زُجَّتْ في قفصٍ وذئابٍ جَوْعا...

ألقَتْ جَسداً كالشفقِ البازغِ في ليلةِ بَرْدٍ لمخالب مجهولةٍ!

لكِنَّ غنائمَ صيدِ المُحترفينَ تَجاوَزَ أنيابَ المُفتَرسين...

انْسَلَّتْ من بينَ صراخ المُفتَرَسينَ وأنيابِ المُفتَرِسينَ...

وطافَتْ كالريحِ بأحياءِ الفُقَراءِ...

بصمتٍ صوبَ أنينِ النَخلةِ!

طَوَّتْ جَسدَ الولدِ الأسمرِ بين الأضلاعِ...

وعادَتْ لشريعةِ "بيتِ النوّابِ"...

تسألُ عن دربٍ لـ(الحيرةِ) (11) ...عن (هند الصغرى) (12) وأخيها(النعمان)!

تُنَقِبُ عن مأوى "يونس" (13) كَيْ تُقْبَرَ و"وديعتِها" فيهِ!

 

 

(1)   شبعاد: ملكة أور... زوجة الملك "آبار كي أحد" من سلالة أور الأولى في فترة 2500 ق.م.

(2)   شميرام: هي الملكة (سمير اميس) ... ملكة آشورية تاريخية ومعناها (محبوبة العالم) (822-811 ق.م).

(3)   دوشفري: ملكة الحضر بنت الملك (سنطروق الثاني) (158-241 م)

(4)   أترعتا: آلهة الأنوثة عند سكان مملكة الحضر جنوب الموصل.

(5)   مملكة الحضر أو مملكة عربايا: هي من أقدم الممالك العربية في العراق في الجزيرة الفراتية وتحديداً في السهل الشمال الغربي من وادي الرافدين، غرب العراق وشرق سوريا حاليا.

عرفت مملكة الحضر (مملكة عربايا) بهندستها المعمارية وفنونها وأسلحتها وصناعاتها، كانت هذه المدينة تجاري روما من حيث التقدم حيث وجد فيها حمامات ذات نظام تسخين متطور وأبراج مراقبة ومحكمة ونقوش منحوتة وفسيفساء وعملات معدنية وتماثيل كما ضربوا النقود على الطريقة اليونانية والرومانية وجمعوا ثروات عظيمة نتيجة لازدهارهم الاقتصادي.

حاول الفرس والرومان غزوها مرارا حيث فشل الإمبراطور الروماني تراجان وكذلك الإمبراطور الروماني سيبتيموس سيفيروس سنة 199م. وهزمت جيش الإمبراطور الفارسي أردشير الأول الذي سيطر على منطقة الجزيرة كلها حتى سقطت بيد الفرس سنة 241م ودمرت تدميراً شديداً ومنع أهلها من حمل السلاح. وكانت تلك نهاية مملكة عربايا. (ويكيبيديا)!

... واليوم يستبيحها المحتلون الامريكان والوحوش المتأسلمون.

 (6)  الزوراء: بغداد...في زمن المنصور.

(7)   دار الحكمة: ملتقى الفكر الإسلامي والعربي والأجنبي التي ازدهرت في زمن المأمون.

(8)   شريعة النواب: مرفأ للزوارق على دجلة سمي باسم أسرة النواب التي ينتمي إليها شاعرنا العزيز مظفر النواب.

(9)   عربايا: مملكة الحضر في لغة الحضريين.

(10)الوديعة: هي القبر المؤقت للميت في اي مكان في الظروف الطارئة، قبل توفر الظروف الطبيعية لنقله الى المقبرة الدائمة.

(11)الحيرة: تقع مملكة (الحيرة) العربية وسط العراق بالقرب من النجف (512-554) م

(12)هند الصغرى: أخت الملك النعمان بن المنذر بن ماء السماء!

(13)يونس: النبي يونس الذي ابتلعته الحوت في النص الديني!

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.