مقالات وآراء
رقمنة الانسنة ...// خديجة جعفر
- تم إنشاءه بتاريخ السبت, 25 تشرين1/أكتوير 2025 12:15
- كتب بواسطة: خديجة جعفر
- الزيارات: 149
خديجة جعفر
رقمنة الانسنة ...
خديجة جعفر
ثمة بث افلاطوني طرح في العصور القديمة يسوق الإنسان ك :" كائن عاقل " ..وبحمولة عقله هذا، امكنه التوقع ، والربط، والتحليل والاستنتاج والتفاعل المُجدي مع الآخرين ،وفق قصدية غير منظورة، لكنها قابلة للقياس بقدرتها على ان تحقق مصالحه الشخصية والمصلحة الجمعية من مسيرة تلبية الحاجات والاستمرارية.
ومن خلال التوظيف العقلي هذا، بات افلاطون رائدا في تحديد المعايير القياسية لقيمة أو لمفهوم "الإنسانية " والتي بنيت معه على اسس الخير والعدالة حين يصرح :
" الانسان لا يقاس بما يملك، بل بما يقدم من خير وعدالة " ..
ندرة منا من يعتقد بضرورة الخير والعدالة مرتكزا لمقومات عيش كريم للكائن الغابي، او البيولوحي، الذي يلبي احتياجاته قنصا والتقاطا ، بينما تكون هذه التفاعلات بديهية واساسية للكائن الاجتماعي الطامح دوما الى تطوير قدراته واحتياجاته لأكثر من بيولوجية بحسب هرم ماسلو، نحو الحاجات النفسية والاجتماعية واحترام الذات كاحتياجات لا تقل أهمية عن غذاء يؤمن استمرارية عيش، فلو امتلك إنسان الغابة ايمانه بالعدالة والخير الافلاطوني، لسوف يقضي بالاغلب وسط بيئة حيوانية مفترسة تحتاج سلطة القوة للاستمرارية..
فما بين عدالة الغاب السلطوية ،و عدالة مجتمعية أساسها الخير والتعاطف والمساواة في التفاعل المجتمعي ، تتارجح قيم انسانيتنا بين قطبي التنظير، وفعالية التطبيق، لنسقط في فخ السؤال عن سر هذا التارجح واتساع الهوة بين الاقطاب المتنازعة واقعا...
ولحيطة ما من شر المبالغة تواضعا بشريا، لجهة اعتبار هذه القيم فطرة سلوكية ،تبدو مسألة تصويب تموضعها وظيفيا لتلبية الحاجات المتبادلة من هذا التفاعل،امرا ضروريا ،بحيث ،لا يسعنا انكار علاقة تربط بين تنوع وتعدد الحاجات وتوسيع دائرة التفاعل البشري المنظم ...
قد رسمت مقولة افلاطون في الخير والعدالة معاييرا موجبة للانسنة، مُلَوِحة بحكمة العقل شرطا لانسنة هذا العاقل كي يتخطى ذاته الغرائزية نحو الذات الجمعية و المصلحة العامة، ما قد يدفعنا للتأمل في هذا الارث الفكري والثقافي من التطور التفاعلي الانساني لهذ العاقل ، وصولا إلى حقبة عيشنا في ظل عالم معولم..
فإن تكن انسانية العاقل الافلاطونية تبنت معايير الخير والعدل والتعاطف ركيزة تحقيق وحدة البشر وكرامتهم المشتركة، بغض النظر عن اختلافاتهم العرقية أو الثقافية أو الدينية أو الطبقية، ليصبح العدل انعكاسا مباشرا لهذه المعايير ، وتتم آلية لتفعيل الانسانية لما هو ابعد من الغرائز الفردية نحو الجمعي ،ما تنبه اليه فلاسفة التنوير في حقبة لاحقة، فكانت الرؤية المساواتية محور بحث معمق يشغل مطابخ المفكرين في مستقبل ومصير البشرية ، متناولة العدالة والمساواة وأهميتها في التنظيم المجتمعي، والكفيلة بخفض منسوب الظلم الانساني، ما استدعى انتباه الفيلسوف ( كانط) في كتابه (اسس ميتافيزيقا الأخلاق) لاعادة الاعتبار للانسان وامتلاكه كرامة وقيمة ذاتية مطلقة لا يجوز استخدامها أداة لتحقيق غايات، فيما يؤكد (فولتير) على الضعف البشري وضرورة الغفران والتسامح من زاوية الاحترام المتبادل، ليذهب ( ديدرو ) ابعد من السابقين معتبرا ان أعظم ما يمكن للبشرية ان تقدم،هو قيمة الانسانية، كممارسة عملية للأخلاق والعقل والرحمة الأمر الذي مهد لقوننة معايير الإنسانية مع ( مونتيسكيو ) بحيث اعتبرها تتحقق من خلال بناء النظام العادل الذي يحمي الكرامة والحرية معًا..
فإن امكن التسليم ب" الفردنة" ،واهمية هذا الكائن العاقل حرا خلاقا ، كاحد أبرز منتجات الثورة الفكرية باعتباره مفهوم يعني الفرد بالقصد والمباشر، بحاضره ومستقبله ،متدخلا في رسم طموحاته وعلومه وخياراته، كذلك في عمليات تقييمه، ليرمي بثقله على الانتماءات الضيقة للافراد واضفاء أدوار جديدة تحقق لهذا العاقل مساحة اكبر من الاستقلالية والحرية والانتاجية ، كما وفرضت نفسها على مجمل الأنشطة البشرية وشكلت رافعة للوعي المجتمعي على كافة المستويات، رافعة انعكست على تنمية البعض من هذا العالم، لنرسو على تصنيفات عالمية للدول بين التقليدية والنامية والمتقدمة. ما اثبت مجددا محورية العقل وافعاله في ترسيخ العدالة والمساواة كقيم اساسية تصلح في كل زمان ومكان لضمان وحدة وكرامة الشعوب ..فإن تكن "الفردنة" ، ما مَكن الفرد ، كفاءة، تجعل منه حافظة رأي وتعبير ،والفاعل المتاثر والمؤثر ، المتلقي البنائي للمعرفة في آن، يبني طموحاته وثقافته وعلومه وافكاره بعيدا عن الموروثات والمسلمات الغوغائية، فالامر نفسه، قد ساهم في بلورة سياسات تنموية دفعت بالوعي الجمعي بعيدا عن ذاكرة التبعية والانصياع ، وجعلت من التصنيف العالمي للمجتمعات امرا واقعيا ومشروعا الى حد كبير. الا أن المحطات التحولية التي مرت تباعا على هذا العاقل الحائر بطبيعته وافكاره وادواره ،ما زالت محط بحث وتساؤل لم يحسم حتى اللحظة ..
فان يكن هذا العاقل خَيِّرا ، عطوفا ورحيما بالفطرة، فلماذا تشدد فلسفات عصر او مرحلة،على نشر معايير هذه الانسانية المفترض بها ان تكون بديهية؟
واي انسانية استطاع ان يفرضها العلم الحديث، لا سيما في زمن التكنولوجيا وعصر العولمة هذا ؟؟
وان كانت الثورة التكنولوحية التي نعيشها اليوم، قد ألغت الحدود وحولت العالم المعاصر الى قرية مفتوحة تحكمها الصورة والمعلومة، فعن أية صورة نتحدث؟ واي معلومة تُطرح تحت مظلة هذه التفاوتات العالمية؟
ان ايماننا بالعدالة لا بد وان يُلزمنا احترام جهود المجتمعات التي استطاعت ان تحقق التقدم بجهودها وقياداتها ومفكريها وسياساتها، لكن السؤال الملزم ايضا، الى اي مدى يسمح لها توصيفها هذا ، ان تمارس حق السبي من حياة انسان التخلف؟ فهل ستبقى عدالة انسانية ان مارس هذا التقدم، باسحاره التكنولوجية ،سيطرته على العالم ؟
اسئلة تتراكم يوما بعد يوم، ومرحلة تلي مرحلة ليتسع الجدل، وتتسع معه هوة الانسانية بين النظرية وفعل التطبيق لتتخذ معانيها السامية كحق من حقوق الجماعات بعيدا عن ان تكون مِنَّة القوي على المستضعف..
لربما يصعب التشكيك في ان التكنولوجيا مهدت لفعل البَثْ ،البث المقونن ،وفق آلية الاصدار والتغذية الراجعة،لنشهد آليات جديدة في السلوك التفاعلي تخطت فرديتنا نحو تموضع الصورة، الصورة المبرمجة، الصورة الهادفة، ما قادنا للانسحاب من اطار الحياة المعاشة الى عالم الاشياء، نحن الآن نشعر بوحودنا داخل الصورة اكثر من ان نكون داخل غرف منازلنا كأعضاء عائلات و أسر ، أو في مواقع عملنا كتكامل أدوار ومواقع، فأدخلتنا الصورة إلى عالم اللحظة ، متحررين من عبء الادوار والعلاقات والتفاعلات المجتمعية ، لنكون في الصورة مجرد وثيقة لحظوية من حالة مرور ،أو لحدث حياتي مستقطع ، حاضر فقط بلا ماض أو مستقبل ،اطيافا دون ظلال عيش ،فالصورة الان هي الاصل ، بالتالي فإننا نخرج من الحياة المتحركة اسرابا نحو ثبات اللحظة داخل الصورة، أفرادا تنظر الى ذاتها كأشياء تشعر بحضورها ولحظتها وسط آليات تكنولوجية وضعت الكثير من الحقائق موضع السؤال من الجدية والجدوى .
وان بدا هذا التناقض اتهاما، الا ان الواقع يعرف ، ولا يعترف بذلك، رغم ما تحمله الصورة من تاكيدات تبرز قدراتها على تحريك الواقع.
لعل متابعة بسيطة للتفاصيل اليومية، كافية لكشف انسانية ممكننة ومبرمجة، بسَطوَة الصورة تستطيع توجيه انسانية الإنسان الاقوى لابتلاع انسانية الإنسان الاضعف ،انسانية لا تقرب المعايير الافلاطونية المعقلنة، ولا فردنة التنوير ، المعيار الان كمي ، فكلما جهدنا في تصوير لحظاتنا، استطعنا القبض على ما نفقد من تسلسل أحداث حياتنا المستقطع، لكأن العالم اليوم قد ايقن قدرات هذا العاقل الهائلة ليحاول ضربها ، مثبتا ضعف وهلامية هذا العاقل مقابل اختراعاته ..
الصورة اليوم، تعيد تعريف المفاهيم و نشرها، لتبدو الانسانية اليوم مفهوما حائرا بين التنظير والتطبيق . مفهوم لم ينجو من التشييء ، فالألم الانساني اليوم مثلا، يتجه اكثر لأن يكون ظاهرة كمية، لم تعد الآلام الفردية موجعة، بل ألم الجماعات، ان دمار الأحياء والابنية والبنى التحتية سابق في الحدث اكثر مما يغطي الركام من المآسي، آلية العرض هي التي تقرر ماهية وحجم الالم، الصورة هي التي تقيم ضرورات المواقف، بين دعم أو اعتراض ، الصورة تعرض مقتطفات مختارة، تظهرها بتسلسل لحظوي ، بدء من توثيق دهشة مقصودة من المصرح عنه، إلى ضجيج الكم، وصولا لحركية الاعتراضية صورا صالحة للبث، هادفة للتأثير أو العكس، وليس ما هو أدق من توثيق أحداث ويوميات اساطيل الدعم لغزة تعبيرا عن سطوة الصورة على حساب الألم البشري. ففي عصر الصورة لا يتبقى للداعم خياراته الحرة، يسمح له بالتحرك وفق مستلزمات الصورة الشرهة لاستخدام زمنا اطول.
فاي الآلام ندعم عبر اسطول يتطلب ازمنة للوصول؟
اسطول يعلن نفسه طرفا في المواجهة مؤذنا لضرورات الاستعداد.
لماذا لم يتم اختيار وسائل الدعم الاسرع تفاديا للموت ؟
الصور تنتشر من قبل القابضين على التكنولوجيا، الأقوياء المتسابقين على نمذجة ألم يصح هنا ، ولا يصح هناك ، موجب هنا، وسطحي في مكان آخر..بالتالي ، فان التشييء الصوري لا يستحضر الفرد ، الشخص في الصورة مجرد مشهد، فلناخذ مثالا تلك الصورة التي تحقق الجوائز العالمية في المعارض الفنية الدولية ، التي تظهر الآلام الفرديةيتم توظيفها لخدمة أغراض فنية ابداعية تخص المصور وليس للحزن المختَزَن في الصورة، فتصبح القضايا موجعة بقدر ما تحقق للناظر من اثر اللحظة كوثيقة أو مرجع لحدث وحكاية تاريخ، وتتخذ اهميتها من خلال ما تحظى به من صيحات التهليل والتطبيل لدفع الرأي العام نحو التبني من عكسه، الصورة ومن يبثها، من يقرر ويسوق ويصنع المواقف عامة، وهي بالاغلب صناعة احادية المصدر والإصدار .
الاعلام الرقمي ، والصوري هو من يقرر تصنيف العالم اليوم، الصورة تحدد فئات المستضعفين، المقهورين، المستَغلين في العالم كما فئات الاعتداء وتترك للأثر البصري ان يروج للمبررات ، بعيدا عن منطقية الطرح ومساواة المعايير في عالم يمسك به طرف واحد من قدرة البث والنشر وتحديد المواقف واحقيتها.. وليس مستغربا ان نحكم على موقف صوري ، لا يساوي بين الفئات في المعايير، بانه موقف لا يرتقي إلى مستوى التفعيل والجدوى من قيم الإنسانية المعقلنة.
ربما يصعب على انظمة ومجتمعات تشعر وتعيش دونيتها مقارنة بعالم متقدم ،يمسك بالادوات و الأهداف تسويقا عالميا، ان يقوم بالاعتراض في معركة فقدت خاصية تناقض بين الاقطاب لترسو على احادية البث، فتُعلَن : " الإنسانية " مفهوما ، خسر حضوره وفعاليته ، لصالح النقل والتبعية. بالتالي، لم يستطع العصر الراهن رغم جهوده الصورية ، ان يتخطي عمليات التسويق لجملة القيم ومفاهيم العدالة والخير ، وسجنها في الاطار التنظيري لتستمر " الانسانية " رهينة الصورة التي ترتأيها تلك النخب القائدة عالميا...
نحن الشعوب غير المنتجة نتسلح بأن نكذب ، نكذب حتى على انفسنا، لكننا نكذب ليس حبا بمهارة الكذب نفسه، ولا لتحقيق مصلحة ما، نحن نكذب لأننا تعلمنا فن الكذب من الصورة، فوجدناه لامعا براقا ملونا جاذبا ،فتلك الصورة المنتقاة بعناية، المسوق لها باحتكار البث والتصنيع ، اعطت للكذب مشروعيته، فبات كذبا حقيقيا، يُتَرجَم مفردات وكلمات وشعارات بل ربما اعمق من ذلك ، بات مشروعا مستقبليا يُبنى عليه مستقبل شعوب والاوطان ..
بات الخير كميا مقاسا ،والعدالة احادية البث والمعنى والمنفعة، في عصر معولم تحكمه توجهات ومؤسسات تفتقد، سواء بالقصدية الهادفة أو بالسهو المتخاذل عن استفهاميته ، لهذا الربط بين الفعل والهدف..
انسانية اليوم تفيض انتشارا في عالم التبست عليه واقعيته، عالم استسهل افتراضيته، اختلطت صوره بنماذجها ،فنمذجها مُعتَمَدة خارج منطقة الافتراض،
وعلى المتضرر من هذا الاختلاف ان يدفع ضريبتة "الطرد من النظام" ....
إن تكن الصورة تشييء للمحتوى ،فالحرب توظف هذا التشييء ، فواتير محاسبية أو أوراق ضغط بعيدا عن اي اعتبار لهذا العاقل الذي كان سابقا عاقلا. عالمنا التكنولوحي هذا، يرسخ مبادئ الانسانية والعدالة القادمة للانسان الجديد ، انسان لم تنضج خصائصه بعد ، انسان الصورة المتقن اخراجا ونضارة لون، انسان الكهف المستحدث والذي يعيش بين السطور ،وبين القرارات القادرة، حتى لتبدو الانسانية المعصرنة ، انسانية افتراضية ، تخرج من بين ضلوع الإنسان لتقبع في صورة لم تتحدد اتجاهاتها او حتى جديتها وجدواها بعد ..
ثمة فجوة ميكانيكية، تتسع اليوم تباعا ، بين طرح المفاهيم، لا سيما الإنسانية منها، وواقع التطبيق المجدي منها كأزمة مرحلة ...
ففي حين يجدر بالعناوين المفهومية، ان تكون توجهات وأهداف مرحلة ، متفق على اهميتها، واحقية الشعوب بامتلاكها والتمتع بنعيمها، إلا اننا نجدها تتمركز في عالم نظري ، سردي، لا يقرب التطبيق ،فتظهر وكأنها راس هرم قد تم تركيبه على قوام لا يشبهه، تركيب بفعل القوة ، تقوده السياسات الدولية ومؤسساتها، دون قابلية الربط الواقعي بين الهدف المرجو انسانيا والفعل المرتكب.
فإن بدات الإنسانية الافلاطونية من البعد العقلي فاين نحن اليوم، وبعد قرون من بحث جدواها عقلانيا؟
فإن يكن الإنسان عاقلا ،كما قررته الحداثة ، فهل نجرؤ أخبارهم بما آلت اليه رسوماتهم الان؟
وان يكن التعليم والتعلم واختبار التجربة الواعية لافادة البشرية جمعاء اساسا، وغاية مطلقة للكرامة البشرية ، فاين سنلوذ باعيننا خجلا من انسان لا يخجله اشهار جهله وتجاهله؟؟
حروب اليوم ضد الإنسان نفسه، حروب إبادة ، بغض النظر عن أصحاب الحق من عدمه، ابادة الاجناس، إبادة الاجساد وابادة الاختلاف. وفي الابادة يسقط وهم الحقوق. وتسقط معها احاديث الانسانية لتنتصر الصورة ، الصورة فقط !....
فهل سقطت فعالية المؤسسات اليوم ، لخدمة الإمبراطور القادم ؟
ام ان " الإنسانية" كقيمة حقوقية تؤمن عدالة ومساواة بين الفئات هي التي لم تجد مكانها الفعلي؟
خديجة جعفر
23/10 /2025


