اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ارشيف مقالات وآراء

• الحدث النروجي: الأصولية صناعة مشتركة

علي حرب

كاتب لبناني

الحدث النروجي:

 الأصولية صناعة مشتركة

 

ـ الأصوليات تغذي بعضها بعضاً، وتسوغ الواحدة عمل الأخرى. وهي واحدة من حيث فكرها الأحادي ومعتقدها الاصطفائي ومنطقها الاستئصالي، وهي متواطئة مع بعضها البعض من حيث النتائج والمفاعيل

ـ منذ صعدت الأصوليات على المسرح، تحصد البلدان الإسلامية خراباً وهلاكاً وتفككا، سواء على شكل تفجيرات في المقرّات الآمنة والأماكن العامة، أو على شكل فتن وحروب أهلية تمزّق نسيج المجتمعات

 

لا يسع المراقب والمتأمل إلا أن يتوقف عند العمل الإرهابي الوحشي الذي كان مسرحه النرويج، هذا البلد المسالم والداعم للسلم، الذي لم يشهد عنفاً يذكر منذ الحرب العالمية الثانية. وهو يؤكد، بذلك، انتماءه إلى القارة الأوروبية التي هي المساحة الأقل ممارسة للعنف، في العالم، بقدر ما تراجعت لدى أهلها المشاريع الامبريالية والشمولية والأيديولوجية، وبقدر ما خفّ الطلب على السلع القدسية وعلى العملة الدينية الأصولية التي تقولب العقول وتعبئ الجماعات في هويات عنصرية وكتل عمياء.

ولكن، ها هو الوحش الإرهابي يضرب ضربته في النروج، كما تمثل ذلك في اعتداء مزدوج، الأول تفجير سيارة مفخخة أمام مقر رئاسة الوزراء في قلب العاصمة أوسلو، تلاه اعتداء أكثر وحشية وفظاعة: تنفيذ مجزرة بعقل بارد، في مجمع للشباب، راح ضحيتها عشرات الأبرياء من الناس. وهذا هو شأن العمل الإرهابي الذي هو عنف أعمى وفاحش يمارس بصورة عشوائية، لكي يصدم العقول ويولد كل هذا الذهول أمام هول الجريمة.

ونحن، في البلاد العربية، معنيون بهذا الحدث الخطير لغير سبب:

أولاً، أننا نعيش في زمن الاعتماد المتبادل، حيث تتشابك المصالح والمصائر، على الساحة الكونية، بقدر ما يتواطأ الضد مع ضده في ما يدعي الدفاع عنه من القضايا والشعارات.

ثانياً، أن الفاعل هو أصولي مسيحي، متطرّف يعلن عداءه للإسلام بحجّة أنه يتهدد الحضارة الغربية. مما يعني أن هذا الحدث، الذي لا سابق له، قد يزرع الرعب في نفوس المسلمين الأوروبيين ويثير قلقهم على المصير.

ثالثاً، وخاصة، أن البلدان العربية تصنع، بعقائدها الاصطفائية ومنظماتها الإرهابية، التطرف الأصولي على أرضها، كما تصدّره إلى الخارج.

وهكذا، فمنذ صعدت الأصوليات على المسرح، تحصد البلدان الإسلامية خراباً وهلاكاً وتفككا، سواء على شكل تفجيرات في المقرّات الآمنة والأماكن العامة، او على شكل فتن وحروب أهلية تمزّق نسيج المجتمعات. ناهيك عمّا يجري في العراق وأفغانستان وباكستان، حيث العمليات الانتحارية بالسيارات المفخخة تحول المجازر والفظائع إلى عمل يومي.

هذه الصناعة الأصولية، الإرهابية، فكراً وممارسةً، قد تمّ تصديرها ونقلها إلى الخارج، وبخاصة إلى أوروبا والعالم الغربي، حيث يعيش مسلمون اكتسبوا جنسية البلدان التي يقيمون فيها ويعملون منذ عقود.

من هؤلاء من يراعي قيم المجتمعات التي انتقل إليها، فيحترم قوانينها ويفيد من انجازاتها، بقدر ما يسعى إلى الاندماج فيها والتفاعل مع ثقافتها، محاولاً بذلك بناء تسوية خلاّقة بين خصوصيته وأوروبيته، أو بين تراثه وحداثته، لكي يمارس هوية مركّبة، غنية، عابرة للغات والديانات والثقافات.

ولكن هناك فريق آخر يصرّ أصحابه على ممارسة هويتهم بصورة أصولية، صافية، متحجّرة، بل بائدة، أين منها هوية السلف الصالح الذي كان أكثر انفتاحاً ومرونةً وتعقلاً وتواصلاً. ولا عجب، فالمسلمون عاشوا، في كل حقبة، عصرهم بلغته ومفاهيمه وأدواته ومقتضياته. أما أن يعودوا الآن، لكي يعيشوا كما عاش أهل صدر الإسلام أو العصر العباسي أو العصر الوسيط، فذلك مُحال، إلاّ على النحو الأسوأ والأخطر والأرهب. لأنه لا شيء يُحافَظ عليه أو يعود كما كان، من دون تحويل خلاق أو تركيب بناء أو تطوير مثمر، فعال وراهن.

لذلك، يصرّ أهل الفريق المتطرف على ارتداء المسلمات الأوروبيات الحجاب، ناهيك بالبرقع، في الأماكن العامة وفي المؤسسات الرسمية، ولو تعلّق الأمر بتلميذة في مدرسة ابتدائية؛ كما يصرّون على بناء المساجد ورفع المآذن وتأدية الصلوات في شوارع المدن الأوروبية. الأمر الذي يثير حفيظة أو خوف مَن استقبلوهم ليُخالطوهم العيش ويندمجوا معهم في بيئاتهم الجديدة. وهم بذلك يطلبون من شركائهم في الوطن الجديد أن يعترفوا لهم بحقوق لا يعترف بها المسلمون الأصوليون في بلدانهم لا لمسيحي ولا لسواه. فهم لا يعترفون أصلاً ببعضهم البعض، لأن ما يتحكم في العلاقات بينهم هو إستراتيجية الإقصاء ومنطق العداء. ولذا لم يحسن الإسلاميون العقائديون سوء التفرق تحت كلمة الله الجامعة، لكي يعودوا دوماً إلى نقطة الصفر، كما تشهد السجالات والصراعات والحروب، حول هذه القضية أو تلك، وأخرها قضية التبشير والمسلسل التلفزيوني حول الصحابة والأئمة.

يضاف الى ذلك تصرفات شنيعة وبشعة يمارسها بعض المسلمين الأوروبيين. مثالها أن يقتل الواحد ابنته لأنه يريدها أن تحافظ على تقاليد بيئتها الأصلية في المجتمع الجديد، فيما هي تريد التأقلم معه والاندماج فيه؛ أو يقتتل أناس باستخدام الفؤوس، كما حصل منذ سنوات، وفي جامع أوسلو بالذات، إذا لم تخنّي الذاكرة.

بالطبع هم يؤكدون على أنهم لا يخالفون القوانين التي تنصّ، في البلدان الأوروبية، على حرية المعتقد والتفكير والتعبير. ولكن هذه ذريعة واهية، خادعة. إذ هم لا يعترفون، حيث يحكمون أو يسيطرون، للمختلف والمعارض في حقه بأن يمارس حريته، وكما يجري في غير بلد عربي أو إسلامي. فما يريدونه هو استغلال مساحات الحرية، في الدول الغربية، لتقويض مبادئ الحرية والمواطنة وقيم الانفتاح والاعتراف المتبادل والشراكة في المصير. ذلك أن الأصل في معتقدهم ونظرهم هو أن النص والشرع والفتوى والحجاب أهم من الأوطان والدول والقوانين، بل أوْلى من الحياة والناس.

مثل هذه الثقافة المغلقة، والعدوانية، قد نقلها معهم مسلمون أصوليون إلى البلدان الأوروبية، أو هم هاجروا إليها بدافع التبشير لنشر دعواتهم وتطبيق مشاريعهم التي يتوهمون بأن خلاص العالم متوقف عليها. من هنا تشكلت بين المسلمين الأوروبيين شريحة واسعة تمارس تطرفها الأقصى بأفكارها وتصرفاتها وعاداتها. وعلى نحوٍ تُزايد فيه على أصوليي المصدر والمنشأ. ولكن الأصولية لا تولّد إلا نقيضها.

أخلص من ذلك إلى ثلاثة أمور: الأول أنني لا أريد أن أقلّل من التطرّف في أوروبا، مسيحياً كان أم قومياً. فالأصولية هي واحدة من حيث إستراتيجية الرفض ومنطق الإقصاء وموقف العداء وأسلوب العنف. تستوي في ذلك الأصوليات القومية واليسارية والدينية. هذا شأن كل أصولي يتوقف عند زمن أو نص أو شخص أو حدث يقدسه ويتماهى معه بوصفه المثال والنموذج والمعيار الأوحد في القول والعمل أو في النظرية والممارسة. وهكذا، فالقداسة هي مصدر العمل الإرهابي، تماماً كما أن الاصطفاء هو مصنع العقل الأصولي.

الثاني، أن التطرف يستدعي التطرف، والعنف يولد العنف. ولذا فالأصوليات تغذي بعضها بعضاً، وتسوغ الواحدة عمل الأخرى. صحيح هي مختلفة من حيث المنطلقات والشعارات، ولكنها واحدة من حيث فكرها الأحادي ومعتقدها الاصطفائي ومنطقها الاستئصالي، كما هي متواطئة مع بعضها البعض من حيث النتائج والمفاعيل، وكما يتجسّد ذلك في ما تشهده المجتمعات المعاصرة من العبث والاضطراب والجنون والإرهاب.

بهذا المعنى فإن أندرس بريفيك صانع الحدث الإرهابي في بلده، هو الوجه الآخر للعملة، أي الأخ الشقيق للمسلم الذي يتعصّب ويتطرّف في أوروبا. كلاهما يصنع الآخر. هل بريفيك هو مجنون كما يُقال؟ إنه الجنون الأصولي عينه. نحن إزاء نفس الماركة الأصولية المعادية للحريات العامة والحياة المدنية والشراكة الوطنية.

الثالث أن معالجة ما حدث تتعدى المستوى القانوني والجنائي، نحو المستوى الثقافي، إذ الأصولية هي نموذج ثقافي في الأساس. ولذا فالمسؤولية تقع على الجميع، على النروجيين الأصليين وعلى النروجيين الجدد من المسلمين. فإذا كانت العملة الأصولية الإرهابية هي صناعة مشتركة، فإن المعالجة هي بالشراكة. وحسناً فعل ولي عهد النروج بزيارته مسجد أوسلو لطمأنة المسلمين. فهل يحمل المسلمون النروجيون والأوروبيون المسؤولية والأمانة، لمواجهة المنطق الأصولي الذي يدمّر جسور التواصل والتعايش بين الناس؟

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.