اخر الاخبار:
قاضٍ أمريكي يُغرّم ترامب ويهدده بالسجن - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 20:36
مصدر: صفقة «حماس» وإسرائيل قد تتم «خلال أيام» - الثلاثاء, 30 نيسان/أبريل 2024 11:00
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

Beez5

رواية (ذاكرة التراب): (الفصل الرابع)- ذات العيون العسلية!// محمود حمد

محمود حمد

 

عرض صفحة الكاتب 

رواية (ذاكرة التراب): (الفصل الرابع)

ذات العيون العسلية!

محمود حمد

 

في نوبة من نوبات تخلي السلطة عن بؤساء المدن والاستخفاف بمصائرهم، وإزالة اكواخهم من أحزمة الفقر المتشبثة بالمدن بذريعة (التمدن!)، ارتحلت عائلة "عروة" شمالاً من (مدينة الماء والسماء) بحثاً عن مأوى ولقمة عيش لها عشية موسم الحصاد في البقاع الزراعية على ضفاف دجلة جنوب العاصمة، التي تحتضن أكواخ المعدمين المحيطة بـ(إيوان كسرى) الذي بناه الملك الساساني (أنو شروان) عام خمسين وخمسمئة ميلادية...في تلك البقعة النائية عن (المدنية!)، رَسَتْ بهم موجة الخوف من الانقراض جوعاً، (أملاً!) في الخلاص من ملاحقة الفقر لهم!

 

قبل حلول شهر نيسان كانت العوائل القادمة من قرى ومدن مختلفة بعيدة، تقيم أكواخها العشوائية الهزيلة متلاصقة مع بعضها البعض، وتلتئم في جماعات يوحدها صرير البؤس في النفوس والأمل بموسم حصاد يعصمهم من نوبة جوع في أشهر الشتاء القادم!  

 

بعد نهار طويل وثقيل أسند رأسه لجذع النخلة وأغمض عينيه...غط في شبه غيبوبة...لاح له وجه أمه منكفئة حائرة في زاوية الكوخ، حولها أطفالها الخمسة...بعد انفراط عقد المزارعين وزوجاتهم عنهم...في اليوم الأخير من تأبين (فَضالة) مُشَغِلْ مضخة المياه (المجهول النسب)!

 

المضخة "العجوز" التي أيقظها (أبيه) بخبرته، بعد سباتها العميق لسنوات، فصار (فَضالة) صديقاً لـ(أبيه)، تلك المضخة التي كانت تسقي أراضٍ تمتد على طول الشريط الزراعي لحقول الحنطة والشعير المحاذي لنهر دجلة.

 

أدرك أن كيس الطحين الذي كانت أمه تُقَتِّرُ استهلاكه عليهم قد نفذ خلال أيام العزاء الثلاثة...رغم حرصها على عزل نصفه أول الأمر كي يكفيهم إلى حين الحصاد واستلامهم أجر مشاركتهم بالحصاد بضعة أكياس من الحنطة والشعير!

 

جلس على حافة الساقية التي توقف جريان الماء فيها مع توقف مضخة المياه عن الدوران بتوقف قلب (فَضالة) مُشَغِلِ المضخة الشاب الذي وجد قتيلاً مُمَزَقاً بخناجر الثأر القبلي!

لا أحد يعرف من قتله؟!

ولِمَ قُتِل؟!

يتداول المزارعون:

إنه قُتِلَ بسبب فعل ارتكبه (شخص ما) من قبيلته لا يعرفه (فَضالة)!

وهو يتطلع إلى الشارع الأسفلتي الممتد بجانب المزارع، المؤدي إلى العاصمة...تذكر "عروة" مرافقته لأبيه عند زيارته لصديقه الحداد (أحنف) قبل ثلاثة أعوام، في (شارع الشيخ عمر) بالحي الصناعي بالأطراف الفقيرة للعاصمة!

 

انهالت عليه بغتة هواجس ومخاوف من الموت جوعاً، مُحَمَّلة على أنين (أبيه) وتأوهات (أُمه)، وهي تسعى يابسة الريق من الشفق إلى الغسق لكسب لقمة تسد رمقهم.

عاد إلى (أُمه) من "خلوته!" وهمس بأذنها...نهضت خلفه مفزوعة متوسلة ألا يفعلها...

قَبَّلَ يدها...وقَبَّلَ رأس أبيه المُكَبَّلِ بغيبوبة الوجع التي عاودته بعد رحلتهم المضنية، وغادر المنزل حافيا مشياً على الأقدام باتجاه الطريق الأسفلتي!

 

وقف على الحافة الترابية للطريق يؤشر للسيارات المُسرعة إلى المدينة دون جدوى...حتى تعامدت أشعة الشمس وصارت تخترق يافوخه...حيث لا ظِلَّ يحتمي به...حتى ظِلَّهُ انطفأ عندما تعامدت الشمس على قحفة رأسه...شعر بدوار شديد وعطش تَيَبَّست له عروقه، لكنه لم يكف عن التوسل بالسيارات المسرعة منها والبطيئة السير!

 

اجتازته شاحنة قديمة قَبَّعَتهُ بغيمة من الدخان الأسود الخانق...انتابته نوبة سعال حادة لم تتركه حتى تبدد الدخان من حوله، وهو يراقب الشاحنة وهي تعود إلى الخلف... توقفت عنده...سأله (الرجل الأشيب) الجالس إلى جوار السائق:

الى أين أنت ذاهب؟!

أجابه باستعطاف وتوسلٍ:

الى (العاصمة) يا عم!

رد عليه (الرجل الأشيب) بوِدٍّ أبوي:

اصعد يا ولدي!

تردد برهة...ثم بادره الرجل:

لا تخاف.. اصعد دون أجرة...لكن اصعد على أكياس الطحين في حوض السيارة!

 

قطعت الشاحنة الطريق تولول كالنائحة...تزفر خلفها عموداً كثيفاً من الدخان...إلى أن توقفت عند الغروب أمام مخبز في زقاق ضيق وسط المدينة...هَبَّ إليهم رجلان كهلان من داخل المخبز وصاحا به:

لا تتأخر...ناولنا الأكياس بسرعة!

 

بخبرته وخفته في تحميل أكياس الحبوب في موسم الحصاد أدهشهم بسرعته ونشاطه، بحيث لم يلحقا كليهما به...خاطب أحدهما (الرجل الأشيب):

يا (أبا طارق) حسناً فعلت...شَغَّلْتَ هذا الفتى معنا...نحن نحتاج لمثله!

لم يستوعب معنى الايماءة التي أجاب بها (أبو طارق) على الخباز الكهل، لكنه شعر بقدر من الأمل.

سأله الخباز الأشهب:

من أي حي أنت؟

هل بيتكم قريب من هذا (الحي)؟!

قاطعه (أبو طارق) ...ساخطاً:

اترك الفتى وشأنه...أكملوا تنزيل الأكياس وباشروا تجهيز العجين!

 

وجد نفسه وسط ثلاثة رجال تجاوزا الخمسين من العمر، يعملون ويقيمون طيلة النهار ومعظم الليل في المخبز...لكنهم يتناوبون على أوقات الذهاب لمنازلهم...

طلب منه (أبو طارق) أن ينام داخل المخبز، ليوقد لهم النار بالتنور قبل مجيء الخبّازين قبل الفجر!

 

صار كلما تأججت نار التنور لاح له وجه أمه الذي اعتاد أن يراه كل صباح مضاءً بشواظ نار التنور... يعتصره قلبه شوقاً إليها ولأبيه ولإخوته...بعد مضي أكثر من أُسبوع على عمله في المخبز وانقطاع أخباره عنهم...غمره الشوق لأهله والقلق عليهم...كان يخشى إن هو طلب من (أبو طارق) رخصة لزيارة أهله أن يستغني عنه من العمل!

 

في عصر الخميس نادى عليه (أبو طارق) وأجلسه إلى جانبه...

نظر إليه بعين ملؤها العطف...قائلاً:

ألا تشتاق لرؤية أهلك يا بني؟!

اغرورقت عيناه بالدموع، لكنه اعتصر حزنه بصدره حتى كاد ينفجر...دون أن ينطق بكلمة سوى آهة فلتت من صدره!

أخرجَ الرجل ثلاثة أرباع الدينار ووضعها في يده...قائلاً له:

ستخرج الشاحنة بعد العشاء لتأتي بأكياس الطحين مساء يوم غد...

اذهب معها، وانتظرها عند عودتها غداً وتعال معها!

 

لم يصدق انه تَسَلَّمَ أول (أجر نقدي) من كدحه في حياته...هو الذي أمضى طفولته كـ (أبيه وأُمه) ...لم يعرفوا أجراً مُجْزٍ غير مكيال الحنطة أو الشعير!

كاد يمحق الدقائق المتبقية لمجيء الشاحنة كي يصل إلى (أمه وأبيه وإخوته)!

 

عندما عاد في الليل وجد (أمه) في أطراف القرية تتطلع إلى الطريق "ككل يوم" كما قالت له أخته:

ما أن تسمع حركة أو حفيف ريح وراء قوصرة الكوخ...في الليل أو النهار إلاّ قَفَزَتْ مفزوعة من مكانها صائحة:

عاد أخوكم!

وتنكفئ خائبة تُطفئ دموعها بنحيب مخنوق خلف الكوخ قلقاً عليك وحزناً على أبي...لتعود إلينا محتقنة الأجفان مُحْمرة العيون!

 

عانق أمه ووضع النقود في حضنها...جفلت كالملدوغ دافعة إياه والنقود ِبكلتا يديها...صارخة به:

هل جئت لنا بمال حرام؟!

هل سرقت؟!

من أين لك هذه النقود؟!

قَبَّلَها من رأسها وطمأنها:

هذا أجر عملي بمخبز في (حي الأكراد) ...جئت برخصة من صاحب المخبز الذي أعمل فيه، غداً أنتظر سيارة الطحين لأعود بها للعمل!

احتضنته بحرارة وأجهشت بالبكاء...وخاطبت أبيه الغارق بالغيبوبة بصوت مسموع:

اصبر على بلواك...لا تستعجل فراقنا...ها هو ابنك يستطيع أن يشتري لك الدواء!

انفجروا جميعا بالبكاء...حتى علا صوت جارتهم (أم ذيبان) تناديها:

اذكري الله يا (أم فاخر) ...ليس لأولادك غيرك وأبيهم...لا تقتلي نفسك بالبكاء!

 

صارت زياراته الأسبوعية لأسرته منتظمة، مثل حضوره جلسات (أبو طارق) مع أصدقائه الذين يحضرون كل ليلة سبت عند منتصف الليل...يَسمعهم يتحدثون كثيراً:

عن البؤس والحرمان والأمراض التي تستبد بفقراء الناس، عن بذخ الحكومة التي تأتمر بإرادة الأجنبي!

وصار له مسكن خارج المخبز مع شباب قادمين من الأرياف البعيدة إلى مشاغل في المدينة...

 

ذات ليلة كان قادماً قبل الفجر من المسكن إلى المخبز، سالكاً الزقاق المظلم شبه المهجور، كأقصر طريق بين المخبز والمسكن، إذا بفتاة تركض مذعورة متعثرة بعباءتها وغطاء وجهها...تَتَلَفَّتُ إلى خلفها مضطربة بخوفٍ يُلاحقها...لاحت له من بعيد سيارة جيب للشرطة مرت مسرعة في نهاية الزقاق ...ما أن وصلت الفتاة بالقرب من باب منزل (ابي طارق) حتى أمسك بها واستدار وإياها بحركة سريعة من ذراعه وأدخلها إلى المنزل...دفعها بسرعة خلف ستارة الباب!

طرق الباب بهدوء...ما ان خرجت (ام طارق) عند الباب فوجئت بالفتاة المرتصفة لجدار الممر الضيق المؤدي الى فناء الدار... انتشلها "عروة" بالقول:

يا خالتي...هذه ابنة عمتي جاءت معي منذ الفجر وستذهب للطبيب عندما تفتح العيادات أبوابها!

 

لم يعد (أبو طارق) إلى المخبز في ذلك الصباح...لكنه حضر جلسة ليلة السبت الأسبوعية، تحدثوا كثيراً عن النساء اللواتي اعتُقِلْنَّ خلال اجتماعَهُنَّ للاحتفال بـ(يوم المرأة العالمي)، وإفلات عدد مِنْهُنَّ من قبضة (الشرطة السرية)!

 

أثنى الشاب النحيل (أبو فهد) ذو الكلمات الرصينة والرأي المسموع (الذي يحضر بعض جلساتهم) على (الخدمة الكبيرة!) التي قدمها (أبو طارق) لإحدى (الرفيقات!) بحمايتها من ملاحقة (الشرطة السرية) لها، وإخفائها في بيته...استبدت الدهشة بوجه (أبي طارق) واستوطنه الصمت المتسائل!

ظل (أبو طارق) طيلة الجلسة شارد الذهن يُقَلِّبُ وجهه بين الحاضرين وعيناه عالقتان بسقف المخبز المتهالك!

 

ما أن خرجوا من مخبئهم في المخبز حتى ذهب (أبو طارق) الى منزله وعاد مسرعاً...وعيناه شاخصتان لـ"عروة"...اقترب منه وربت على كتفه باعتزاز وسأله هامساً:

باستغراب:

     هل هي ابنة عمتك حقاً؟!

هز رأسه بالنفي...

هل تعرفها؟

رَدَّ عليه بعفوية مراهقة واثقة:

     لا أعرفها...ولا أعرف لماذا تلاحقها الشرطة...لا يهمني ذلك...لكنها فتاة طريدة خائفة لوحدها في ظلمة الليل!

    

كان ذلك اليوم مفصلياً في حياته وعلاقته بـ(أبي طارق) الذي (تَعَرَّفَ عليه وعَرِفَهُ من جديد!)، كأنه يلتقيه أول مرة!

 

صارت أخبار أسرته شأن يتداوله فيه مع (أبي طارق) ...يحضر اجتماعات (المجموعة) خارج المخبز دون أن ينقطع عن الدراسة...يستكمل مع الخبّازين نوبتهم الصباحية قبل الفجر...يشاركهم نوبة الظهيرة بعد العودة من المدرسة...أصبح مُقَرَّباً من (الشاب النحيل) الذي يدعونه (أبو فهد) ...يخرجان معاً...يدس إليه (أبو فهد) منشوراتهم (السرية!) تحت نضيد أرغفة الخبز!

صار يقرأ (مفردات!) لم يسمع بها أو يقرأها من قبل، مفاهيم جديدة كانت عسيرة على فهمه!

 

ذات فجر بارد كانت الشوارع مُكتَظَّةٌ بالمظاهرات الصاخبة والشعارات المُنَدِدَة بالحكومة وبالأجنبي الذي يسرق ثروات البلاد!

رغم ذلك فإن المخبز لم يغلق أبوابه...لأنه:

لقمة عيش الفقراء!

هكذا قال لهم (أبو طارق) قبل أن يتركهم ويَنْظَمَّ إلى المتظاهرين...استمرت التظاهرات المطالبة بتغيير الحكومة أربعة أيام متتالية...لم يعد فيها (أبو طارق) إلى المخبز.

 

عرفوا فيما بعد أنه اعتقل مع (أبي فهد) وعدد كبير من المتظاهرين، نقلوا من هناك إلى سجن (نقرة السلمان) ...ذلك السجن السيء الصيت، الذي أنشأه (السير جون باغوت غلوب باشا) الملقب بـ(أبي حنيك) أحد ضباط القوات الإنكليزية المحتلة في عشرينيات القرن الماضي في منخفض صحراوي مقفر بالقرب من الحدود العراقية السعودية!

 

إثر ذلك حضر “عروة" لأول مرة اجتماعا مع من بقي من المشاركين بجلسة ليلة السبت في (مسكنٍ خلف السدة الترابية للعاصمة) بعيداً عن أعين (الشرطة السرية) ...بعد أن أغْلَقَتْ الحكومة المخبز بالشمع الأحمر!

 

ولم ينقطع عن زيارة صديق والده الحداد (أحنف) طيلة تلك الفترة بحثاً عن عمل، لكنه كان يتجنب الخوض معه في أي حديث، لأنه في كل مرة يزوره يجد عنده (ضيوف!!) من (الشرطة السرية) يقيمون في الدكان المجاور، يترصدون أشخاصاً في الكراج المقابل...

 

في المرة الأخيرة عندما ذهب إليه وجد الكراج ودكان الحداد (أحنف) مُغلَقَينْ، دون أن يقترب منهما، لحق به الفتى (صاهر النُحاس) العامل مع الحداد، وحَذَّرهُ من التردد على المكان...قائلاً له:

الجميع اعتقلوهم!

لم يتأخروا عليه كثيراً حتى أوقعوه بكمين عند زيارته لأُسرته...وسيق إلى التوقيف ليمضي خمسة أشهر تحت التعذيب...خرج منه يُتْقِنُ أبجدية الكراهية للسلطة، يُحسِنُ لغة الحوار العفوي الشائك، يتباهى مع نفسه بمهارات (العمل السري) وتَحَمُل أوجاع التعذيب!

 

صار ينتمي لمئات الآلاف ممن يحبهم ويثقون به، دون أن يراهم أو يعرفوا اسمه أو هويته...كان مجهول الهوية معلوم الأفعال...تَعَرَّفَ هناك على أخبار من كان يسمع عنهم كقدوة له من خصوم الحكومة والأجنبي المستعمر...رسخت في ذاكرته ما سمعه من نقابي في السبعين من العمر كان معهم في غرفة التوقيف عن قادتهم:

الذين حكمت عليهم المحكمة بالإعدام وتم تنفيذ حكم الإعدام بهم قبل إعلانه، يوم 14 شباط 1949 حوالي الساعة الرابعة والنصف من فجر ذلك اليوم!

 

بعد مضي ما يقرب من ثلاثين عاماً...

التقى "عروة" (أبي فهد) في زاوية بمقهى شعبي في أطراف العاصمة، كان أشعثاً رَثَّ الثياب...وقد هَرِمَ قبل أوانه...بدى كأنه في عامه الثمانين وهو لم يطرق بعد باب الستين...حَدَّثُه عن (الشهيد أبو طارق) وعن الآخرين من (الرفاق) الذين تفرقوا بين نزيل في القبر، أو أسير في السجن، أو تائه في الغربة، أو منكفئ على ركام هزيمته يجترع سم أيامه الأخيرة!!

 

انعطفوا بأحاديثهم إلى مُعْسِرات الحياة المتناسلة، قفزوا هرباً منها إلى حكايات (نسيم الحب!) الذي عصف بشبابهم ولم ينسوها حتى وهم في أوج محنتهم تلك الساعة!

من فرط يباب حاضره انفلت (أبو فهد) يقص عليه بعض صفحات سجل أيامه الماضية:

في أول زيارة للعوائل إلى السجناء بسجن (نقرة السلمان) وأنا متخبط باليأس أسَرَتني (عيون عسلية) لفتاة بين جَمْع الزوار...كانت تقف في الطابور تحت الشمس إلى جوار أمي وأختي الصغيرة (أمل)...رغم شوقي لأمي ولسماع أخبارهم بعد انقطاع مورد العيش عنهم نتيجة سجني ،ألاّ أن عيوني ظلت شاردة تبحث عن (ذات العيون العسلية) بين حشد العوائل والسجناء وسط الباحة الترابية الواسعة التي تتوسط زنزانات السجن...دون أن أفلح في رؤيتها...حتى بعد صراخ السجّانين بالعوائل وتفريقهم وإخراجهم عنوة وتهديدهم بـ(منع الزيارات في المستقبل إن هُم لم يخرجوا بانتهاء وقت الزيارة)!

 

كنت أنتظر أوقات الزيارات بشوق بقدر شوقي لأمي...ولـ (ذات العيون العسلية) ...مضت الأشهر وأنا أنسج أحلاماً في روحي...صوراً أتخيلها رغم وحشة السجن هائماً مع (ذات العيون العسلية)!

في كل يومٍ أجول في قاعة السجن أو عند إخراج السجناء من القاعات إلى الساحة الترابية المشمسة ضحى كل يوم، أتأمل وجوه السجناء...أتفحصها مرات ومرات...لم أجد بينهم شيباً أو شباباً من هو يمتلك (ذات العيون العسلية)، التي عند تلك الفتاة!

 

ولم أطق صبراً بعد أن مضت أكثر من سنة على ذلك اليوم...فجلست أُفضفض خِزانة أسراري لـ(أبي طارق)، ابتسم لي ببهجة الأب لابنه ووعدني:

إنه سيكشف لي سرها مثلما منحته أنا ثقتي واطمأننت له وكشفت له أسراري!

تمضي الأيام والأشهر...تدخل مجموعات جديدة إلى السجن كلما عصفت المظاهرات والإضرابات بالسلطة الحاكمة...يخرج منهم أفراد بعد انتهاء مدة حبسهم أو عند انتهاء أعمارهم.

ذات صباح كان أحد السجناء يستعد للخروج من قاعة السجناء الكبيرة المقابلة بعد إخلاء سبيله بسبب قرب انتهاء محكوميته وتدهور حالته الصحية...كانت أُسرته تنتظر عند بوابة السجن الرئيسية...لمحت الفتاة (ذات العيون العسلية) بينهم...ركضت كالمجنون نحو (أبي طارق)، وهمست له بأذنه، جاء مسرعاً معي باتجاه بوابة قاعة السجن...لكن السجين وعائلته كانا قد غادرا مدى الرؤية!

 

عُدْتُ إلى مكاني خائباً لكن (أبو طارق) شَدَّ على معصمي:

مازلت عند عهدي.. سنصل إليها!

في المساء اقترب (السَجّان الأمرد) ذو الضحكة المجَلجِلة من بوابة الزنزانة المشبكة بقضبان حديدية غليظة كعادته يستجدي سيجارة من السجناء...وقف (أبو طارق) إزاءه وأخرج علبة سجائر إفرنجية لم تُفتَح بعد، وقدمها له من بعيد...هَمَّ السَجّان لأخذها...قال له (أبو طارق):

إن للعلبة ثمن!

سأله السَجّان باستعطاف:

ماذا تريد؟!

أعطني إياها.. وسأعطيك سروال مدير السجن إن شئت!!!

طلب منه (أبو طارق) الاقتراب من قضبان البوابة حتى دخلت أذنه فضاء قاعة السجناء... وَشْوَشَ في مسامعه فجَحَضَت عيون السَجّان استغراباً...ثم انفرجت أساريره منتشياً...متسائلاً باستغراب:

هل حقاً إنَّكَ لا تعرفه؟!

أم أن لك مآرب أخرى؟!

وضع (أبو طارق) علبة السجائر على حافة اللوح الحديدي وقال له:

قُلْ...تأخذ!

أفصح له عن اسم السجين المريض...

امتقع وجه (أبو طارق) بشحوب وكأن الدم استنزف من بشرته...جلس على الأرض...سقطت علبة السجائر منه إلى خارج بوابة الزنزانة، فالتقطها السَجّان وأخفاها تحت سرواله، وزاغ عن عيون الرقباء!

في الليل استعاد (أبو طارق) عافيته، وأفصح لي عن أن الرجل:

سجين قديم من خُلَّصِ أصدقاء (القادة!) ...

كان معهم في زنزانتهم ليلة إعدامهم...لكنه حكم بالمؤبد لاعتلال صحته!

هو ممن لا يردون لي طلباً!

لم يَزُرْ النوم عينيّ تلك الليلَّة ولا ليالٍ أخرى أعقبتها...حَدَّثْتُ أمي في أول زيارة لها إلى السجن بشغفي بعيون فتاة لا أعرف اسمها...احتضنتني ووعدتني بأنها تَدَّخِرُ بعض المال لهذا اليوم.

ذات زيارة لعوائل السجناء إلى السجن كان بينهم زائر مَر َّعلى السجناء في الباحة...يهلِّلون ويبتهجون برؤيته...عندما أقبل علينا احتضنه (أبو طارق) بحرارة لشفائه من مرضه، غمز لي من وراء ظهره مشيراً إلى أنه مُبتغاهُ!

في ذلك اليوم إرتكن (الزائرُ) و(أبو طارق) إلى زاوية بالساحة الترابية التي تغص بالسجناء وذويهم... دارت دردشة بينهما كنت أتمنى لو استطالت أُذنيَّ لتقبع عند أفواههما...لكني كنت أرصد حركة شفاههما واستنطقها بمخيلتي لقياس الرضا من غيره في ملامح (الزائر)...لكنهما أعطيا ظهريهما للساحة ومن فيها...طال الكلام بينهما حتى بددت صافرة حارس السجن إلفه السجناء مع عوائلهم!

كنت أتابع (الزائر) وهو يجر خطاه المتعبة إلى جوار شاب مفتول العضل كان يتكئ عليه عندما عبر بوابة السجن الحديدية الخارجية... التفت فجأة ونظر من بعيد حيث أقف مُسَمَّراً في الأرض وعيناي مشدودتان إلى حيث التفت (الزائر)...كدت أطير من الفرح عندما رفع يده محييّاً إيّاي!

تَفَجَرَ الحزن في روح (أبي فهد) فجأة ونضح شحوباً في ملامحه...وأطرق للأرض صامتاً شارد الذهن دقائق طويلة منقطع عن صخب الشارع وصتيت الزبائن في المقهى قبل أن يستكمل حكايته:

كانت حياتي عسلية مع (ذات العيون العسلية) في سنواتها الأولى...لكن حياتنا إدلهمت ظُلمة مع تفاقم مطاردات السلطة لي، وتقطع سبل العيش، إثر اختفاءاتنا المتكررة في مجتمعات ومدن وبيوت مختلفة مع ابنتنا، التي أسميناها (انجيلا)، الطفلة الجميلة التي طالما تأملت وجهها المُشرق في لحظات يأسي فتشيع في روحي الأمل وفي عقلي التوقد!

صارت تكبر ويكبر معها حلمي بأن يكون لي يوماً أحفاداً كما كان لجدي رهط من الأحفاد يحيطون به في مساءاته عند شرفة الشناشيل في بيتنا القديم.

في كل مرحلة كانت (انجيلا) تتعلم لغة القوم الذي نختفي بينهم، واتقنت اداء طقوس ديانات اصدقائها الذين تشاركهم أعيادهم واحتفالاتهم في طفولتها وصباها ومراهقتها.

تَلْفُتُ أنظار المعجبين لفتنتها وذكائها ورشاقة جسدها الذي تأنث ونضجت ملامحه قبل أوانها!

كانت تجدد في نفسي الأمل وشغف الشباب وتَرَفُعِهِمْ على التشبث بالمنافع المادية الرخيصة... سرى فيَّ كبريائها المتغطرس، عدم اكتراثها بالعواقب...أمسى مستقبلها يشغل بالي مع اقتراب الأشهر الأخيرة من العام الدراسي في الصف السادس الثانوي...حتى أنني فَكَّرْتُ دون أن أكشف نواياي لزوجتي بـ:

أن نُهَرِّبُها إلى خارج البلاد كي لا ينتقموا مني بها!

لكني خشيت من أن تعيد عليَّ زوجتي سهام اللّوم لـ(تدميري حياتها بسبب التورط بالسياسة)!

ازداد قلقي عليها في الأيام الأخيرة، بعد تواتر الأخبار عن اختطاف فتيات من أبواب مدارسهن، ومنهن صديقتها (مروة) ابنة مذيعة تلفزيونية معروفة...سَرَتْ معلومات متواترة عن وقائع تحدث في مناطق متعددة من العاصمة...تقول:

إن عصابات من حراس (ابن الرئيس) هي التي تختطف الفتيات الجميلات لاغتصابهن!

لكن فاجعة الحداد(أحنف) بابنته التي أُلقيت جثتها مُقَطَّعة في كيس بلاستيكي قبل الفجر عند باب بيته، أشعلت الرعب في نفوسنا وفي قلوب عوائل جميع مناوئي السلطة، وحتى عوائل خَدَمِها، وكذلك عوائل الناءين عن منافعها ومساوئها...

صرت أُرافقها إلى المدرسة وأنتظرها على الرصيف المقابل حتى نهاية الدروس لأعود بها إلى البيت!

لم أقتنع برأي زوجتي:

لنزوجها من ابن خالتها في الريف بعيداً عن أعين السلطة!

كنت مطمئناً لاستكمال أوراق سفرها (المُزَوَّرة) وإخراجها وأمها عبر الحدود الجبلية إلى خارج البلاد لإكمال دراستها!

لم تسعفني صحتي لمرافقتهما ذلك اليوم بعد أن استعصى مرضي على الأطباء في المستشفيات الحكومية التي أُفرِغَت من خيرة الأطباء، وعجزت عن توفير الدواء بسبب الحصار (الدولي!) و(الحكومي!) ...

كُنت وامها قبل ذلك نتناوب على مرافقتها إلى المدرسة خلال أيام الامتحان النهائي.

في تلك الليلة التي سبقت اليوم الأخير من الامتحان النهائي تدهورت حالتي الصحية ونُقِلْتُ ليلا إلى المستشفى...

دخلت في غيبوبة لأسبوعين...

أفقت بعدها...

لم أجد زوجتي إلى جانبي... أبلغتني الممرضة:

غادرت زوجتك المستشفى مفزوعة منذ عشرة أيام...

تبحث عن ابنتكم التي اختطفت مع زميلتها!

ومنذ ذلك اليوم وأنا مُشرَداً في الشوارع أبحثُ عنْهُنَّ!

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.