مقالات وآراء
سناء الأعرجي: القصيدة التي مشت على ضفاف الفرات// محمد علي محيي الدين
- تم إنشاءه بتاريخ الثلاثاء, 28 تشرين1/أكتوير 2025 11:29
- كتب بواسطة: محمد علي محيي الدين
- الزيارات: 142
محمد علي محيي الدين
سناء الأعرجي: القصيدة التي مشت على ضفاف الفرات
محمد علي محيي الدين
في مدينة الحلة، حيث الماء يهمس للتاريخ، ولدت سناء الأعرجي عام 1964، وكأنها انبثاق ناعم من روح المكان، وامتداد لعطر نخيل لا يشيخ. نشأت على وقع الحرف، وحفظت من الفرات سر الجريان، ومن تراب العراق الحالم تأملت أولى القصائد، فكانت الكلمة عندها رئة ثانية، تنفست بها الحياة، ومشت بها بين دروب الأدب، حتى صارت من الأسماء التي تكتب بماء الشعر على جدار الذائقة.
درست اللغة العربية في جامعة بغداد، لتصقل موهبة كانت تسكنها منذ نعومة الحرف، وتنهل من معين البلاغة والبيان ما يجعل من قصيدتها صوتًا لا يخطئه السمع، لا في موسيقاه ولا في معناه. ثم سلكت درب التعليم، فزرعت في نفوس أجيالٍ من التلاميذ بذور اللغة والحس الجمالي، قبل أن تحال إلى التقاعد وهي مثقلة بحصاد من العطاء والتجارب.
ليست سناء الأعرجي شاعرة قصيدة واحدة، بل هي فسيفساء من التجارب والهموم والنبضات. تنقلت بين العمود والتفعيلة والنثر، وطرقت باب الشعر الشعبي بثقة العارفة ومهارة المجربة. ديوانها الأول "حينما تحتضر الكلمات" كان إعلانًا عن شاعرة لا تؤمن بالمهادنة مع اللغة، بل تخترق بها جدران الصمت، وتلملم من شظايا الألم قصائد تضيء.
توالت أعمالها: "العشق في فصل خامس"، "في الضفة الأخرى"، "أغاريد مشكاة"، و*“هل تبتسم الدموع؟”* وغيرها من المجموعات التي توزعت بين المخطوطة والمطبوعة، لتشكل سردية ذاتية وجمعية، عن المرأة والوطن، عن الحب والمقاومة، عن البهجة التي لا تدوم، والجرح الذي لا ينام.
وقد استطاعت قصائدها أن تتجاوز حدود الورق، فتُلحّن وتُؤدى غناءً في النشاطات المدرسية بمحافظة بابل، وتُترجم إلى الإنكليزية، مما يعكس قدرتها على الولوج إلى الوجدان الإنساني عبر ضفتي اللغة.
لم تغب سناء الأعرجي عن عيون النقاد. كتب عنها ناهض الخياط، ونجاح هادي كبة، وعدي العبادي، وخضير الشمري، ومحمد العميدي. وجاءت قراءاتهم متفاوتة في مناهجها، لكن متفقة على أنها تمتلك حسًا شعريًا يميزها، وصوتًا أنثويًا لا يتقوقع داخل الصورة النمطية للمرأة في القصيدة، بل يتخطى ذلك إلى مساءلة العالم، والبحث عن العدالة، لا بوصفها خطابًا، بل شعورًا داخليًا.
الناقد عدي العبادي رأى في بعض قصائدها محاولة لإعادة تشكيل اليومي شعريًا، بينما ذهب خضير الشمري إلى رصد بعدها الوجداني الذي يتقاطع فيه الخاص بالعام، وتتحول فيه التجربة الذاتية إلى مرآة لتجارب النساء العراقيات، في الحرب، والحب، والخذلان، والحلم.
ليست الأعرجي غريبة عن خشبات المهرجانات، فقد ارتفع صوتها في أكثر من ثلاثين مهرجانًا محليًا وعربيًا، من بابل إلى بغداد، ومن كربلاء إلى العواصم الثقافية. وكانت مشاركاتها امتدادًا لحضورها النصي، لا لمجرد التمثيل، بل لتأكيد موقعها ضمن المشهد الشعري العراقي المعاصر.
وحصدت الجوائز تباعًا: الجائزة الأولى للنشاط المدرسي في بابل لخمس سنوات متتالية، والجائزة الثانية في مؤتمر كربلاء، ثم الجائزة الأولى في مسابقة اتحاد الأدباء الدولي عام 2017، وكلها شهادات على مكانتها في قلوب القراء قبل المنابر.
إن كانت قصائد سناء الأعرجي قد سُئلت يومًا: "هل تبتسم الدموع؟"، فإن الإجابة كامنة في بوحها، في دفء كلماتها، في حرارة وجدانها، في شجنها المشبع بصدق التجربة. إنها شاعرة لم تكتب لتُرضي، بل لتعبّر. لم تسعَ للنجومية، بل للصدق. فغدت جزءًا من الذاكرة الشعرية لمدينة الحلة، وللمشهد النسوي العراقي عمومًا.
تتعدد عضوياتها في المؤسسات الثقافية، وتتوزع بين الشعر والفكر وحقوق الإنسان، لكنها تبقى أولًا وأخيرًا: الشاعرة التي آمنت بأن للكلمة وطنًا، وأن للقصيدة لسانًا لا يخون، حتى في حضرة الصمت. و ليست مجرد اسمٍ في قائمة الشعراء، بل سيرة حية لامرأة كتبت بالوجدان، ووقّعت قصائدها بالدمع، وأهدتها لمدينة، لوطن، لحلمٍ يليق به أن يُكتب شعرًا.
ومن جميل قصائدها قصيدة "نشيج لوعتي" التي تنتمي إلى فضاء الشعر الحر العاطفي التأملي، وتُعدّ نموذجًا تعبيريًا متميزًا عن الشعر المعاصر الذي يُفلت من قيد الوزن الخليلي دون أن يتخلى عن جماليات الإيقاع الداخلي وكثافة الصورة الشعرية. يتجلى في النص خطابٌ وجداني مشبعٌ بالتوتر الوجودي، والانخطاف الصوفي، والحنين المتجاوز للمألوف.
أولًا: بنية العنوان والدلالة الابتدائية
يشكّل العنوان مدخلًا دلاليًا مركزًا؛ فـ"النشيج" يوحي ببكاء داخلي مكتوم، بينما "اللوعة" تشير إلى احتراق القلب من ألم الشوق أو الفقد. هكذا يفتح العنوان أفقًا شعوريًا مكثفًا، ويؤسس لحالة انفعالية تحتكم إلى الذاتي المأزوم والوجد الغامر.
ثانيًا: الصورة الشعرية والتخييل الرمزي
تحفل القصيدة بمجموعة من الصور المركبة، التي تتجاوز المباشر إلى المجازي، وتزاوج بين الملموس والحلمي، الحسي والميتافيزيقي: (قيثارتي، الزنابق، سوانح، نكهة سجائري، الحمام، الجلنار، أشداق الزيتون): رموز تشكّل حقلاً دلاليًا مرتبطًا بـ النقاء، النشوة، الحنين، الانكسار. والصورة في النص لا تؤدي وظيفة تزيينية، بل تتحول إلى وسيطٍ كاشفٍ عن تمزق الذات وميلها نحو المطلق، كما في: "ضفرتْ جدائلَ الحلمِ / حتى تهادتْ أشداقُ الزيتون على حافة العدم"، وهي صورة متداخلة ذات بُعد رؤيوي، حيث يتقاطع الحلم بالعدم، والدلالة بالفراغ.
ثالثًا: الذات والآخر: جدلية الحضور والغياب
المخاطب في النص (أنت) ليس مجرد حبيب مألوف، بل كيان ميتافيزيقي شبه مقدّس، تتماهى به الذات وتتماهى فيه: "حين خُلقتَ مِنْ صلصال كينونتي / أدركتُ أنَّ العشق هويةً" في هذا التشكيل، يتحول الحبيب إلى جزء من بنية الوجود الشخصي للشاعرة، مما يضفي على العلاقة العاطفية بعدًا وجوديًا، يُخرِجها من النسق الغريزي إلى الحُلم الصوفي، في تقليدٍ معروف عند شعراء التصوف والحب العذري.
رابعًا: الزمن الشعري وبنية الانتقال
القصيدة تتحرك في ثلاث لحظات زمنية: ماضٍ غامر بالشوق والانفجار العاطفي، حاضر مليء بالضياع والتيه، مستقبل مأمول – اللقاء، العناق، السلام، هذا الانتقال الزمني يرافقه تصعيد شعوري، يبدأ من إشعال شمعة والصلاة، لينتهي إلى النداء الأخير: "إطوِ المسافات / ومد يدك / لنلتقي" وكأنّ القصيدة رحلة داخلية من الانفصال إلى الوصل، من العتمة إلى التماس الضوء.
خامسًا: المعجم الشعري والبنية الصوتية
يتسم المعجم الشعري بالتنوع بين:
الألفاظ الوجدانية: (اللوعة، الشغاف، الوله، الحنين).
الألفاظ الحسية/الطقوسية: (شمعة، صلاة، سجائر، زيتون، زنابق).
ألفاظ التقديس الصوفي: (صلصال، كينونة، ترانيم، إشراق، شرفات).
كل ذلك يصوغ إيقاعًا داخليًا مشحونًا بالعاطفة والصفاء والترقّب. كما أن التكرار (مثل "لأنك"، "ما زلت"، "أيها") يعزز النبرة التوسلية في الخطاب، ويمنح النص حركة دائرية.
ختاما "نشيج لوعتي" قصيدة تُعيد تموضع الشعر العاطفي داخل مساحة وجودية-صوفية، فتمزج الحب بالكينونة، والغائب بالحضور، والانكسار بالتجلّي. إنّها سفرٌ داخلي عبر اللغة والرمز والتخييل، يكشف عن ذات شاعرة تصوغ الوجع جمالًا، والحنين طقسًا، والغياب نشيدًا أبديًا.


