مقالات وآراء
البيروقراطية وشرورها!// د. ادم عربي
- تم إنشاءه بتاريخ الجمعة, 24 تشرين1/أكتوير 2025 19:26
- كتب بواسطة: د. ادم عربي
- الزيارات: 221
د. ادم عربي
البيروقراطية وشرورها!
د. ادم عربي
حين يغضب الله على شعب أو دولة أو ثورة أو حزب، يبتليهم بالبيروقراطية. فهي لعنة تنخر الديمقراطية، وتُفسد روح المشاركة الشعبية، وتشوه مبدأ أنَّ الشعب هو مصدر السلطات والشرعية. بلْ يمكن القول إنَّ البيروقراطية تُفسد الحياة كلها، لأنها الجذر الذي يتغذّى منه الفساد بكلِّ أشكاله.
وللبيروقراطية درجات تشبه دركات جهنم، وفي أسفلها تتربع البيروقراطية الشرقية، والعربية على وجه الخصوص.
وإني أعترف أنني أول ما تعرّفت إلى معنى البيروقراطية، في فكرها وشرها، كان من خلال الجدل الذي أثارته التجربة الستالينية في الاتحاد السوفييتي. فقد رأى خصم ستالين اللدود، ليون تروتسكي، أنَّ تلك التجربة ليست إلّا اغتصاباً بيروقراطياً للسلطة التي كانت من المفترض أنْ تبقى بيد الطبقة العاملة. وقد شرح تروتسكي بإسهاب كيف تحوّل الحكم العمالي إلى سلطة بيروقراطية منفصلة عن الشعب.
أما نحن في بلادنا، فغالباً ما نحصر معنى البيروقراطية في كلمة الروتين، ذلك الكابوس الإداري الذي يواجهه المواطن في الدوائر الحكومية. كل من جرب أنْ ينجز معاملة بسيطة كتركيب عداد جديد للكهرباء أو للماء يعرف تماماَ ما نعنيه.
لكن هذا الفهم، رغم واقعيته، ضيق وسطحي، ولا يكفي لخوض معركة حقيقية ضد البيروقراطية، لأنها ليست مجرد روتين، بلْ نظام حكم كامل قائم على اغتصاب السلطة من الشعب.
فأصحاب المناصب العامة من نواب ووزراء وغيرهم يمارسون نوعاً من الانفصال التدريجي عن الناس. حتى وإنْ وصلوا إلى مواقعهم عبر الانتخابات، فإنهم ما إنْ يجلسوا على الكراسي حتى يتحولوا إلى فئة تخدم مصالحها الخاصة، لا مصالح من انتخبوها. ومع الوقت، تتحول الخدمة العامة إلى خدمة ذاتية، ويغدو الشعب هو من يخدم خدامه.
ولعلَّ من أبرز ما اكتشفه كارل ماركس في تجربة كومونة باريس (1871)، هو كيفية مواجهة البيروقراطية وشرورها. فقد دعا إلى أنْ يتقاضى الموظف العام مهما علت درجته راتباً لا يتجاوز متوسط أجور العمال، وأنْ يكون قابلاً للعزل فور إساءته استخدام سلطته، وأنْ يخضع دائماً لرقابة شعبية حقيقية مدعومة برقابة إعلامية حرّة.
أما المؤسسات الأمنية والعسكرية، فكان يرى ضرورة إعادة بنائها من الجذور حتى لا تنفصل عن الشعب ولا تتحول إلى أداة لقهره.
ولست أطلب منكم أنْ تنظروا إلى البيروقراطية بعيون ماركس أو أنْ تمتلكوا بصيرته، بلْ فقط أنْ تتخيلوا النتائج لو أُقِرّ قانون للخدمة العامة يمنع أي نائب أو مسؤول من تقاضي راتب أعلى من متوسط الرواتب في بلده، ويمنح الشعب الحق في عزله متى أساء التصرف أو استغل سلطته.
لو تحقق ذلك، لَما تجرأ نائب على التعامل مع صوت الناخب كأنه كوب بلاستيكي يُستعمل مرة واحدة ثم يُرمى في سلة المهملات .
لكن النائب في واقعنا يدّعي أنه يخدم الشعب ويضحي من أجله، وأنه بحاجة إلى راتب كبير وامتيازات ضخمة ليقوم بواجباته على أكمل وجه! فهو، بزعمِه، لا يسعى إلّا إلى الخير العام، ولكن الخير عنده يبدأ من امتياز الإعفاء الجمركي وينتهي بالألقاب الرفيعة والمكافآت.
ثم، حين يعتزل الحياة السياسية، يُكافأ وكأنه بطل قومي، راتب تقاعدي يساوي آخر راتب تقاضاه، وتأمين صحي له ولعائلته مدى الحياة مكافأة على سنوات خدمته الشاقة!
وإذا سألته عن هذا التناقض بين رفاهيته ومعاناة الشعب، أجابك بكلِّ ثقة أنَّ استقلال السلطة التشريعية لا يتحقق إلّا إذا حصل النائب على استقلال اقتصادي يضمن له الكرامة عبر الرواتب والامتيازات!
وهكذا تتكاثر طبقة كاملة من أصحاب الامتيازات مِنْ نواب ووزراء سابقين ومتقاعدين حتى صار عددهم من الأسرار الكبرى التي لا تُحصى.
تحت شعار الخدمة العامة ينشأ جيش من المنتفعين، أما الشعب، فهو مجرد خلفية صامتة لهذا المشهد العبثي.
تصيب البيروقراطية أصحابها بداء خطير هو المظهرية، وهي آفة شرقية بامتياز. فالموظف البيروقراطي كغصن لا يحمل ثمارًا، ولا ينحني تواضعًا كما ينحني الغصن المثقل بالثمار ؛ همه أنْ يبدو في الصدارة دائماً، وأنْ يُظهر نفسه في هيئة العارف، الكبير، اللامع، حتى وإنْ كان خواءً من الداخل.
إنهم أشبه بإعلانات تجارية براقة، يظهرون فيها كأفضل الناس أداءً، لكن عند التجربة يتضح أنَّ بضاعتهم مغشوشة.
وعظمة الأمم تقاس بقدرتها على تمييز الكبير من الصغير. الأمة العظيمة هي التي تُقيم أبناءها بميزان المتنبي: العظيم من صغُرت في عينه العظائم، والصغير من عظُمت في عينه الصغائر.
والبيروقراطية لا تنبت إلّا في تربة الصغائر، حيث يصبح المنصب أهم من الإنسان، والمكان أعظم من الذي يشغله.
وهنا يظهر الفارق بين من يعظُم بالمكان ومن يعظُم به المكان؛ فالأول لا يزيد على كونه جملاً مزيّناً، أما الثاني، فحيثما جلس، حتى لو كان قرب الباب، يكون هو الصدارة نفسها.


