اخر الاخبار:
اخبار المديرية العامة للدراسة السريانية - الأربعاء, 24 نيسان/أبريل 2024 18:10
احتجاجات في إيران إثر مقتل شاب بنيران الشرطة - الثلاثاء, 23 نيسان/أبريل 2024 20:37
"انتحارات القربان المرعبة" تعود إلى ذي قار - الإثنين, 22 نيسان/أبريل 2024 11:16
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

كـتـاب ألموقع

خِذلانٌ لا يَصدأ- من حكاوى الرحيل (الحكاية 53)// د. سمير محمد ايوب

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. سمير محمد ايوب

 

الموقع الفرعي للكاتب

خِذلانٌ لا يَصدأ- من حكاوى الرحيل (الحكاية 53)

د. سمير محمد ايوب

الاردن

 

بعد إغترابٍ طالَ، عُدتُ إلى عمان. عصرَ اليوم التالي لوصولي، سمعتُ صوتاً مُنْهزِماً، يُرَحِّبُ هاتفيا بعودتي، ويقول: أنا رفيق عمرك. أعْلمُ أن الأليق والأوجب أن آتيك. ولكن المرض يقعدني عن ذلك. إعذرني إن قلتُ في أول إتصال لنا، بعد سنينٍ عجاف، مشتاق لك، وأنني بأمس الحاجة للقياك.

 

عرفته فورا من تقاسيم صوته. بعد ساعتين كنتُ أعانقه، وهو على كرسي متحرك. جلسْتُ قريبا قبالته، لأسمع منه ويسمع مني. سالته لِمَ هنا في بيت أبيك، لا في بيتك؟ ما بك يا رجل؟

 

قال بأسى: ضاق عليَّ وسعُ المكانِ هناك يا صديقي. كنتُ طيِّباً في زمان لم يعد فيه للطيبة مكان. قُلْ على نِيَّاتي. وأظن أن كثرة من الناس مثلي، على نياتهم. باتت الأسرة بنية ووظيفة، هشة واهية. قد تنتهي بلحظة، وقد تُشلُّ أو تَصدأ ، ونحن غافلون.

 

قبل عشر سنين، وأنا على عتبة الخمسين من عمري، لأسبابٍ كثيرةٍ خسرتُ مالِيَ. وتلَبَّسَني هَمُّ دينٍ وذُلُّه. وداهمني من كل حَدْبٍ وصوب، فيض علل وأمراضٍ. كان السُّكَّرُ والسرطانُ أخبثها. أظنك تعلم، آثار إستبدادِ الفقرِ والسكَّرِ والسرطان، برجلٍ في العقد الخامس من عمره!!!.

 

مع ضياع مالي، ساء مع زوجتي حالي. توقعت أن تعينني على الزمن. لكنها للأسف، مع تبدد المال وضعف الفحولة، قلبت ليَ ظهرَ المِجَنْ. وباتت عونا لِعادياتِ الزمن عَليَّ. ولم تكتفي بتحريض أولادي، بل وباتت تُعَيّرُني بفقري وضعف فحولتي.

 

بعد خمسِ بناتٍ وولدين، كلهم جامعيون، وأكثر من ثلاثين عاما من رغد العيش، لم تعد تَذْكُرُ سوى أنها أنثى، وفي عِزِّ صِباها كما تقول. بحاجةٍ لرجلٍ عَفِيٍّ، وكَفٍّ يَهطل مالا. فلم أعد كالماضي. تَغَيَّرَ كلُّ شئ في حياتي. أصبحتُ لا أحتمل شيئا. ويؤلمني كل شئ.

 

كنت ممن لا يريدون سماعَ الحقيقة. أرفض كل دليل. لم يكن يسعدني رؤية أوهامي تتحطم. لأتبين وأقطع الشك باليقين، غربلتُ كلَّ ما كنت أبصر وأسمعُ من تحريضٍ ضدي. فأدركت أن عقول زوجتي وأولادي، وقلوبهم وألسنتهم وعيونهم، باتت خاليةً كلها مني. نجَحَتْ أمُّهم في إقتلاعي من كل تضاريسهم الداخلية والخارجية. ساعتها بِتُّ في عيشة ضنكا. فرحلتُ إلى هنا.

 

إتسعَتْ صفحاتُ وجهه، لغيومِ أوجاعٍ وأحزانٍ وارفةِ الظلال. وبِتُّ أسمعُ وميضَ برقٍ ورعدٍ يتطايرُ من بين أصابعه المتصارعة. كان يلهثُ وهو يحاول الإمساك بزمام دمْعِه. إنحنيتُ وضممتُ رأسَهُ بين كفيَّ. قبَّلتُ جبهته إحتراما وإشفاقا. مسحتُ العرقَ المتفصد من كل تضاريس وجهه المُصْفَرِّ. لم أجرؤ على نُطْقِ سُؤالي: ما بك تبكي مرتعشا يا صديقي؟

 

إلتقط ما يتوالد بين شفتي المزمومتين من كلام، فعاجلني وكأنه يحمل أثقالا: أنهكني المرضُ وبِتُّ مكسورَ الخاطر. يُباغتُ روحيَ المُتصدعة وجعٌ مُمِضٌ. يَحتلني خِذلانٌ لا يصدأ ولا يهدأ. قتلَ اشياءً كثيرةً فِيَّ، مِنها خوفي من الرحيل. يتسرب إلى نفسي الآن، بعد هذه الفضفضة، ظنٌّ أني راحلٌ عما قريب.

 

أكمل وكأنه يرجو: إشتقتُ لزمنٍ كانت فيه عائلتي مُكتملةً، ليس بينها غائبٌ أو غاضب. أنا مرهقٌ بشوق لأناسٍ لن أراهم. ما أتوا . يا لقسوة قناديلي من الأبناء والبنات. ليتهم، رغم تنكرهم يعلمون، أن شعلة الشوق لهم ما انطفأت يوما. وأكمل بصوت متهدج، والدمع يبلل أطراف لحيته البيضاء، أرجو أن لا تجرؤ على التخفيف عني، بالمجاملة والتبرير.

 

إقشعر بدني من هول ما أسمع. دفنت رأسي بين كفيَّ وأطرقت لدقائق، محاولا بصمت تهجي حيرتي . كفكفت دمعا راودني قبل أنأقول له: أحالوك يا صديقي مُسلسلَ خذلان، تفاصيله في بث متصل. أعلم أن الخذلان سجنٌ مُظلمٌ. كي لا تفقد عقلك فيه وتنجح في مواجهته، إتكئ على قدرتك في تخيل إيجابيات الوقائع والصور والأفكار ، لا على ما تواجه من عقوق متوحش.

 

أدرك صعوبة التصالح مع الخذلان المتذبذب .ومع هذا، لا تدع قلبك يصدأ بالأسى، إن الترفع من مذاهب الكرام وشيمهم. إمض مُتناسيا متجاهلا قدر ما تستطيع. فالتجاهل وقت الغضب ذكاء، والتجاهل وقت المصاعب إصرار، والتجاهل وقت الاساءة تعقل. تجاهل العتاب ومارس الهدوء. فأنت في اشد الحاجة لممارسته.

 

راودتني رغبة موجعة في المغادرة. وعدته في أن أعود عصر غد لإستكمال بقايا وشظايا الخذلان. عدت مُنكسرا الى بيتي. وفي البال زيارةُ تَطَفُّلٍ وإستنارة إلى المشكو منهم، زوجه وأولاده وبناته، خشيةَ أن يكون صاحبي مُبالغاً أو واهما أو متجنيا. غفوت وأنا على هذا العزم. صحوتُ مكتئبا مما رأيت في حلمي. أبصرت فيه قمرا يراقص نجمة، ويغيبان في حالك الغيوم. مع أول ملامسة لشفتي مع فنجان قهوتي، إرتجفت يدي وأنا أمسك هاتفي، وسمعتُ قبل أن يسقط من بين أصابعي من يقول باكيا: البقية في حياتك. لقد رحل فجر هذا اليوم، حبيبك مرتقيا إلى ربه راضيا مرضيا وقد ترك لك مغلفا مغلقا بعناية. صلاة الجنازة ظهرا في مسجد الشريعة في اللويبده، والدفن في سحاب.

 

إصطففت خلف نعشه. بعد أن دعوت لنفسي بمثل ما دعوت له. إنحنيت على النعش أقَبِّلُه. وهمست للراحل: لَمْ تُخْلِفِ ميعادك مع ربك، ولم أخْلِف ميعادي معك.

 

صديقي وداعا . سبقتني إلى رحمته ، إني بِكَ متى شاء الله لاحق .

 

الأردن – 23/6/2018

 

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.