قراءة نقدية في لوحة الفنان التشكيلي لقمان أحمد// محمد حجازي البُرديني
- تم إنشاءه بتاريخ الثلاثاء, 28 تشرين1/أكتوير 2025 11:39
- كتب بواسطة: محمد حجازي البُرديني
- الزيارات: 117
محمد حجازي البُرديني
قراءة نقدية في لوحة الفنان التشكيلي لقمان أحمد
محمد حجازي البُرديني
مدخل إلى الانطباع:
حين نقف أمام لوحة الفنان التشكيلي لقمان أحمد، ندرك أننا لا نواجه مجرد عمل بصري، بل عالمًا وجدانيًا متفجّرًا بالأحاسيس.
اللون عند لقمان ليس طلاءً يُسكب على السطح، بل صوت داخليٌّ يبوح بما لا يُقال.
فلوحته تنتمي إلى مدرسة الحرية والانفعال، حيث يتحوّل الماء واللون إلى كائنٍ حيّ ينبض بالعاطفة والبحث.
إنها ليست لوحة عن العالم، بل عن النظرة إلى العالم؛ ليست وصفًا للظاهر، بل ترجمة لما يجري في أعماق الروح.
وفي هذا تكمن فرادتها: أنها لا تسعى إلى الإقناع البصري بقدر ما تسعى إلى الإشراق الوجداني، إلى أن تهزّ المتلقي من الداخل.
المشاهد العادي، حين يقترب منها، لا يحتاج إلى ثقافة نقدية ليفهمها، لأنه يشعر بها قبل أن يفسّرها.
فهي تتحدث بلغة مشتركة بين جميع البشر: لغة اللون، والدهشة، والحلم.
التكوين واللون:
يبني الفنان لقمان أحمد لوحته على توازنٍ خفيٍّ بين التناقضات.
الجانب الأيمن تغشاه ظلال الأزرق والرمادي، حيث العمق والتأمل والسكينة، في حين يتوهّج الجانب الأيسر بالأصفر والبرتقالي والأحمر، ألوان الحياة والحركة والانبعاث.
بين المنطقتين يمتدّ جسر من الألوان الممزوجة، كأنه مساحة عبورٍ من الحزن إلى الأمل، أو من الصمت إلى الكلام.
الألوان عند لقمان ليست زينة، بل حالة نفسية كاملة.
الأزرق في لوحاته غالبًا ما يشير إلى الغور الداخلي للذات، بينما الأصفر شمسٌ تتسلّل من وراء الغيوم، أما الأحمر فهو نبض القلب وسط العاصفة.
ومن خلال هذا التفاعل اللوني، يخلق الفنان إيقاعًا بصريًا حيًّا يجعل العين لا تستقر، بل تتنقّل في فضاء اللوحة كما لو كانت تتجوّل داخل حلمٍ مفتوح.
اللون عنده لا يُحدّد الشكل، بل يُحرّر الروح من قوالبها.
وهنا نلمس نزعة فلسفية عميقة: فالتجريد عند لقمان ليس هروبًا من الواقع، بل محاولة لفهم جوهره الأعمق.
الحركة والإيقاع:
تنبض اللوحة بحركةٍ خفية تذكّر بإيقاع الموسيقى الحرة.
ضربات الفرشاة ليست عشوائية، بل مُفعمة بالنية الشعورية.
كل تموّجٍ في اللون هو أثر من نبضة داخلية، وكل انسيابٍ مائيٍّ هو أثر من زفيرٍ عاطفيٍّ عميق.
تتحرك العين بين الظلال والأنوار كما لو كانت تتتبع إيقاع قصيدةٍ غير مكتوبة.
وهناك، في منتصف اللوحة، خطوط رقيقة توحي بملامح كائنٍ أو وجهٍ أو طيفٍ أسطوري — لكنها لا تتضح تمامًا، وكأن الفنان يريدنا أن نكمّلها بخيالنا.
بهذا الغموض الجميل، يُبقي لقمان الحوار مفتوحًا بين اللوحة والمشاهد؛ فكل عين تراها بشكلٍ مختلف، وكل روحٍ تقرؤها بمعناها الخاص.
الحركة هنا ليست مادية، بل وجدانية؛ تتدفق من داخل اللون لا من خارجه.
إنها حركة الروح بين الغياب والظهور، بين الحلم والحقيقة، بين انفعال اللحظة وبصيرة الزمن.
الرموز والدلالات:
رغم تجريدها، تزخر لوحات لقمان أحمد بالرموز الضمنية والإشارات الباطنية.
اللون الأصفر المشع في مركز اللوحة يرمز إلى الروح المضيئة أو شمس الوعي الداخلي، بينما الأزرق الغامق على الأطراف يوحي بـ الليل أو الذاكرة الغامضة.
أما البقع الحمراء المتناثرة، فهي نبض الدم والحياة والمشاعر الإنسانية المشتعلة.
هكذا يتحوّل التكوين إلى خريطة روحية: صراع بين النور والظل، بين الأمل والقلق، بين الصوت والصمت.
لكن هذا الصراع لا يُنهي نفسه في انتصار طرفٍ على آخر، بل في تعايشٍ جميل بين المتناقضات.
وهنا تكمن فلسفة لقمان أحمد الجمالية — أنه يرى الجمال في التنافر، والوحدة في الاختلاف، والصفاء في التداخل.
إنه لا يقدّم رموزًا مغلقة، بل إشارات مفتوحة تدعو المتلقي إلى التأمل لا إلى التفسير.
لوحته تشبه حلمًا مشتركًا بين الفنان والعالم، يتبدّل مع كل نظرة ويعيد تعريف نفسه كل مرة.
الانفعال العام والخاتمة:
تترك لوحة لقمان أحمد في النفس أثرًا من السكينة الممزوجة بالدهشة.
فيها دفء الضوء وبرودة التأمل في آنٍ واحد.
الفراغات البيضاء ليست غيابًا، بل صمتٌ مُضيء يحمل نَفَسًا صوفيًا.
الفنان هنا لا يرسم مشهدًا من الخارج، بل ينحت لحظة داخلية من الوعي الجمالي.
كل لونٍ هو انفعال، وكل مسافةٍ بين الألوان هي لحظة تأمل أو تردّد بين الحلم والحقيقة.
إنه يرسم كما يتنفس، ويكتب باللون ما لا يمكن قوله بالكلمات.
من خلال هذه اللغة المائية الرهيفة، يقدّم لقمان أحمد فنًّا يتجاوز العين إلى القلب، ويُذكّرنا بأن الفن ليس موضوعًا للفهم بقدر ما هو تجربة للحسّ والشعور.
فلوحته ليست ترفًا بصريًا، بل تأملٌ في معنى الوجود الإنساني نفسه، في علاقته بالضوء والماء والزمن والذاكرة.
وهكذا، تتجلّى تجربة لقمان أحمد بوصفها رحلة داخلية نحو النور، ورغبة في الإمساك باللحظة الهاربة بين الفوضى والسكينة.
إنه فنان لا يرسم ما يراه، بل ما يشعر به حين يرى؛ وهذا ما يجعل أعماله صادقة وعميقة وباقية في الذاكرة.
✦ بقلم:
محمد حجازي البُرديني.
ناقد وشاعر وباحث في الجماليات المعاصرة.
المتواجون الان
570 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع



