اخر الاخبار:
غداً.. أمطار وضباب في 12 محافظة عراقية - الإثنين, 15 كانون1/ديسمبر 2025 19:48
أميركا.. إحباط مخطط إرهابي في لوس أنجلوس - الإثنين, 15 كانون1/ديسمبر 2025 19:42
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

مستقبل العراق بين عبء الماضي وفرصة الدولة الوطنية// د. عامر ملوكا

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

د. عامر ملوكا

 

للذهاب الى صفحة الكاتب 

مستقبل العراق بين عبء الماضي وفرصة الدولة الوطنية

د. عامر ملوكا

 

منذ بروز الخميني عام 1979 وتحول الثورة الايرانية الى مشروع عقائدي يسعى لتصدير التشيع السياسي وترسيخ نموذج ديني صارم، دخل الشرق الاوسط مرحلة جديدة اتسمت بتوتر الهوية وتراجع الدولة المدنية. فقد رأت الانظمة السنية في هذا المشروع تهديدا مباشرا لها، فاندفعت نحو تبني خطابات اكثر تشددا، ليبدأ تراكم مذهبي واسع امتد لسنوات طويلة. ولم يمض وقت طويل حتى انفجرت اول مواجهة كبرى: الحرب العراقية الايرانية عام 1980، التي شكلت اختبارا دمويا لصدام مشروعين. العراق قدم نفسه حينها بوصفه "السد العربي السني" بوجه المد الشيعي، بينما رفعت ايران شعار تصدير الثورة. ومع امتداد الحرب لثماني سنوات، انهكت البلدين ودفعت المنطقة كلها نحو العسكرة وتراجع التعليم وصعود الاستبداد.

 

ومع الزمن تمدد النفوذ الايراني في المنطقة عبر دعم جماعات مسلحة لعبت ادوارا سياسية واجتماعية عميقة. ظهر حزب الله في لبنان مطلع الثمانينيات ليصبح احد اقوى الاذرع الاقليمية لطهران، مؤثرا في المشهد الطائفي والسياسي. وفي العراق، خصوصا بعد 2003، دخلت الاحزاب والميليشيات الموالية لإيران بقوة الى المشهد، مما عمق الانقسام الطائفي وادى الى موجات تهجير واسعة. وفي اليمن، صعد الحوثيون كقوة عسكرية كبيرة جعلت البلاد ساحة صراع اقليمي مباشر.

 

ولم يكن الطرف السني خارج اللعبة. فالخطابات المتشددة ارتفعت بدعم سياسي ومالي، وظهرت تنظيمات مثل القاعدة ثم داعش لتستثمر الفوضى، وتغذي مشاعر المظلومية، وتحوّل الخلاف المذهبي الى صراع وجودي. وهكذا وجدت المجتمعات العربية نفسها محصورة بين تشددين: تشدد شيعي تسانده دولة قوية، وتشدد سني تصنعه الفوضى وتبرره ردود الفعل.

 

ومع هذه الموجات فقدت مدن عربية كثيرة ملامحها المدنية. بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء التي كانت مراكز للثقافة والفكر تحولت الى ميادين صراع، وتراجعت الجامعات، واختفت المكتبات، وضاق حضور المرأة. وبدل بناء دولة قانون، لجأت الحكومات الى استثمار الخطاب الديني لتعزيز شرعيتها، مما عمق الشروخ الاجتماعية. وفي العراق تحديدا، اصبح الانتماء الطائفي بعد 2003 معيارا مركزيا في السياسة والادارة، وظهرت موجات تهجير على اساس الهوية، بينما تحولت الثورة السورية الى مواجهة بين محورين مذهبيين، وسقط اليمن في صراع مفتوح.

 

وفي هذا السياق جاءت انتخابات العراق عام 2025 لتعيد انتاج المشهد نفسه. فقد تراجع حضور المستقلين والحركات المنبثقة من احتجاجات تشرين مثل امتداد ونازل اخذ حقي، كما تراجع تمثيل الجيل الجديد في كردستان من تسعة مقاعد الى ثلاثة. ورغم كل ما تراكم من فساد وفشل حكومي، تمكنت الاحزاب الشيعية التقليدية من الفوز مجددا، بفضل تنظيماتها القوية وشبكات المحسوبية، وكذلك بسبب انسحاب التيار الصدري وعدم قدرة القوى الناشئة على بناء قواعد جماهيرية راسخة.

 

أدى هذا الواقع الى اسقاط فكرة "حكومة الاغلبية" والعودة الى التوافق التقليدي بين قوى شيعية وسنية وكردية لإنتاج كتلة قادرة على تجاوز 165 مقعدا. وفي ظل ذلك، برزت داخل الاطار التنسيقي ضرورة اعادة تنظيم آلية اختيار رئيس الوزراء لضمان عدم انفراده بالقرار، وتحديد صلاحياته بما ينسجم مع ميزان القوى الداخلي والخارجي. وظهرت خيارات قليلة بين اعادة طرح شخصيات مجربة مثل المالكي او العبادي، او الدفع بوجوه جديدة من الجيل الثاني تملك مقبولية اقليمية ودولية. وقد سمح غياب التيار الصدري بفراغ سياسي سهل على الاطار ملأه دون منافسة تذكر.

 

ومع ذلك، يبقى المستقبل مفتوحا على اكثر من احتمال. فالعراق يمتلك موارد هائلة، ومجتمعا شابا، وموقعا استراتيجيا يمنحه فرصة نهوض حقيقية. لكن هذه الفرصة تظل معلقة طالما ظلت السياسة تدور في الحلقة نفسها: طائفية، محاصصة، تنافس اقليمي على القرار، وغياب مشروع وطني جامع. والسؤال الذي يتردد اليوم بين الشباب العراقي: متى نتخلص من التخندق الطائفي ونبني دولة للمواطن لا للطائفة؟

 

المستقبل قد يحمل تحولا اذا ظهرت قوى سياسية جديدة تتجاوز لغة الهويات، وتتبنى رؤية تتعامل مع العراق بوصفه دولة لا ساحة نفوذ. وهذا التحول لن يأتي فقط عبر الانتخابات، بل عبر تغير اجتماعي طويل يبدأ من وعي الشباب، ومن اصلاح التعليم، ومن تعزيز دور القانون كمظلة للجميع. فحين يشعر المواطن ان حقوقه محفوظة دون الحاجة الى وسيط طائفي او زعيم محلي، تبدأ الطائفية بالانحسار تدريجيا.

 

قد لا ينتهي التخندق الطائفي في سنوات قليلة، لكنه سينتهي حتما عندما يصبح الانتماء الوطني اكثر فائدة للفرد من الانتماء الطائفي، وحين يصبح القانون اقوى من الميليشيا، وحين تتقدم التنمية على الولاء. وعندها فقط سيتحول العراق من ساحة صراع الى دولة مستقرة تمتلك قرارها، وتستعيد مكانتها التي تستحقها في المنطقة.

 

هذا المستقبل ممكن، لكنه يحتاج الى ارادة لا تخاف من كسر الحلقة الطويلة التي بدأت عام 1979 ولا تزال تدور حتى اليوم.

د.عامر ملوكا

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.