الجدَّة شَاخَتْ- قِصَّة قَصيرَة// شذى توما مرقوس
- تم إنشاءه بتاريخ السبت, 06 أيلول/سبتمبر 2025 20:58
- كتب بواسطة: شذى توما مرقوس
- الزيارات: 873
شذى توما مرقوس
الجدَّة شَاخَتْ- قِصَّة قَصيرَة
شذى توما مرقوس
الثَلاثَاء 11 / نيْسَان/ 2016 م ــ السبت 1 / ديسمبر/ 2024 م .
ما عادَت الجدَّة كما كانَتْ، لقَدْ شَاختْ .... شَاختْ كثيراً، فقَدَتْ لُطْفَها، كُلُّ شَيْءٍ صارَ يُزْعِجها ..... الأَصْوات .... الحرَكة ..... كُلّ شَيْء .... كُلّ شَيْء
صارَتْ تَصيحُ فيهم، تَسْخَطُ علَيْهم، تَشْتُمهُم، تُؤَنِّبهُم دُوْنَ سَببٍ، تَخْرُجُ إِلى البَابِ وهي بِلِباسِها الداخليّ، تَنْسَى مَنْ هُم ، وقَبْلَ أَيَّامٍ تَذَكَّرَتْ إِنَّها طبَّاخة ماهِرَة، فأَعدَّتْ إِحْدَى وَجبَاتِها واحْتَفَظتْ بِوِعاءِ الطبْخِ في الحدِيقةِ قنَاعةً مِنْها بِأَنَّ الطبْخة ستَبْقَى هكذَا طازِجة لا تَطالها الحرارَة، لكِنَّ الطبْخة تَعفَّنَتْ والجدَّة ظلَّتْ مُصِّرَة على أَنْ تَأْكُلَها مُنْتَقِدةً التَبْذِير لِمَنْ حوْلَها، ثُمَّ قَامَتْ بِإخْفاءِ قِدْرِ الطبْخِ بَيْنَ مَزْرُوعاتِ الحدِيقَةِ حتَّى لا يَطالَهُ أَحدُ العابِثين ويَأْكُلَ مِنهْ، وبَعْدَها نَسيَتْ أَمْرَهُ، فتَعاونَتْ الكنَّةُ الأُمُّ مَع ابْنَتَها لِلبَحْثِ عنْهُ حتَّى وجدَتَاهُ، وقَامتَا بِتَنْظيفِ القِدْرِ وغَسْلِهِ، فَإِطْمئنَتْ العائلة على سَلامةِ الجدَّة مِنْ أَيِّ أَذَى مُمْكن، أَمَّا في هذا الصبَاح فلَقَدْ نَسِيَتْ مَنْ يَكونُ هذا الفتَى فصَاحَتْ بِهِ:
ــ مَنْ أَنْت، وماذَا تَفْعلُ هُنا؟
ــ جدَّتي العزِيزَة ... أَنا حفِيدك ...
ــ حفِيدي!! لَيْسَ لي أَحْفَاد، أَنْتَ تَكْذُب، رُبَّما تُرِيدُ أَنْ تَسْرُقَ مِحْفَظتي...
وانْهمَكتْ بِالبَحْثِ عنْ مِحْفَظتِها فلَمْ تَجِدَها، وكانَتْ الليَّلةُ الفَائتَة قَدْ أَخْفَتْها في مَكانٍ ما، ولكِنْ كالعادَة نَسِيَتْ أَيْنَ أَخْفَتْها، فتَبْدأُ العائلةُ جميعاً بِالبَحْثِ عنْها حتَّى تَجِدَها لَها، وفي كُلِّ مَرَّة يَتَكرَّرُ المَشْهد، لَمْ تَجِدْ المِحْفَظَة فأَخذَتْ تَصيح:
ــ انْقِذوني، هذَا الرَجُل سَرَقَ مِحْفَظَتي ...
ــ جدَّتي، أَنا حفِيدك، أَنْتِ تَعيشينَ مَعنا في المَنْزِل...
ــ مَعكُم؟ مَنْ أَنْتُم؟ هذَا مَنْزِلي... أَنْتَ لِصٌّ جِئْتَ لِتَسْرُقَني، أَيْنَ مِحْفَظَتي، سَأَتَصِلُ بِالشُرْطَة....
ــ جدَّتي، أَنا حفِيدك
ــ سَأَتَصِلُ بِالشُرْطَةِ، أَيْنَ الهاتِف، ولكِنِّي نَسَيْتُ رَقْم هاتِف الشُرْطَة، هَلْ تَعْرِفهُ أَيُّها اللصّ؟
غصَّ حفِيدها بِالضَحِكِ مِنْ طرافَةِ المَوْقِف فَقَالَ لَها:
ــ جدَّتي، هَلْ سَمِعْتِ في حيَاتكِ عنْ لِصٍّ يُعطي رَقْم هاتِف الشُرْطَة لِضَحِيَّتِهِ؟
نَظَرَتْ إِلَيْهِ شَزْراً عاقِدَةً حاجبيها حتَّى تَداخلا على خَطٍّ واحِد:
ــ أَخِيراً اعْتَرَفْتَ بِأَنَّك لِصّ، أَيُّها اللِصّ
والْتَفَتَتْ إِلى ابْنِها الَّذي دخَلَ الغُرْفَة لِتَوهِ وصاحتْ بِهِ:
ــ أَيُّها الرَجُل، هَلْ لكَ أَنْ تَحْمي إِمْرأَةً عجُوز مِنْ هذا اللِصّ الَّذي سَرَقَ مِحْفَظتي .....
نَظَرَ الابْن إِلْيها، واخْتَلطَتْ علَيْهِ مَشَاعرهُ، شَعرَ بِالغضَبِ الشَدِيد مِنْها وأَرادَ أَنْ يمْسِكَ بِها ويَهُزُّها هزَّاً حتَّى تَعي واقِعها ويَصْرِخُ فيها:
ــ باللهِ عليْكِ كفَى هذَا الجنُون ....
ثُمَّ خجِلَ مِنْ نَفْسِهِ وتَلبَّسَهُ الغضَبُ الشَدِيد مِنْ الزَمَنِ الَّذِي أَحْرَقَ عمُرها وجعلَها في هذَا الوَضْع، لَمْ يَكُنْ هذَا أَمَلَهُ بِالزَمَنِ الَّذي خذَلَهُ وخذَلَ عزِيزَتَهُ أُمَّهُ، تَبَّاً لَهُ مِنْ خائنٍ وسَارِق، وكادَتِ الدمُوعُ تَطْفرُ مِنْ عيْنيهِ وهوَ يَرَى ما فَعلَ الزَمَنُ بِها وأَكلَ عليْها ذَاكِرَتَها، لَمْ تَعُدْ تَتَذكَّرُ أَقْرَبَ النَّاسِ إِليْها، هذِهِ المَرْأَة هي الَّتي وَهبَتْهُ الحيَاة، وغذَّتْهُ مِنْ جِسْمِها، ورَبَّتْهُ واعْتَنَتْ بِهِ وحملَتْ همَّهُ وقَدَّمَتْهُ لِلحيَاةِ رَجُلاً أَمامَ مَسْؤُوليَّاتِهِ، لَوْلاها ما كانَ على ما هوَ علَيْهِ الآن، هَلْ سيُكونُ غَداً علَيْهِ ما علَيْها الآن، هَلْ سَيَغُصُّ حفيدُهُ ضَحِكاً مِنْهُ، هَلْ سيَنْسَى المُقَرَّبين إِلَيْهِ ويَظُنّهُم غُرَباءَ عنْهُ، كُلّ شَيْءٍ مُمْكِن ووارِد، وغَشَى الحُزْنُ قَلْبَهُ، وهوَ يَتَأْمَّلُ وَجْهَها الَّذي حفَرَتْهُ التَجاعيد، وحيرَتَها الَّتي مَزَّقَتْها حيْثُ لا تَعْرِفُ مَنْ هُم الَّذينَ حوْلها ولا كيْفَ يُمْكِنها الخرُوج مِمَّا هي فيهِ، وبَيْنَما هوَ في دوامَةِ أَفْكارِهِ هذِهِ، صَاحتْ بِهِ:
ــ انْتَظِرْ، مَنْ أَنْت، وكيْفَ دَخلْتَ إِلى هُنا؟
وبَدَتْ وكأَنَّها تُفكِّرُ حيْثُ تَوَقَّفَتْ عنِ الكلامِ لِلَحْظَة، ثُمَّ عادَتْ لِتَقُول وكأَنَّها حلَّتْ اللُغْز العصِيّ:
ــ يا إِلهي، أَنْتَ شَرِيكُ هذَا الرَجُل الَّذي سَرَقَ مِحْفَظَتي، انْقِذوني، أَنا مُحاطةُ بِاللصوصِ ......
وأَخَذَتْ تَجْري على قَدْرِ ما تُسْعِفها خَطواتُها الثَقيلَة في مُحاوِلَةٍ لِبلُوغِ بَابِ المَنْزِلِ الخارِجي هَرَباً مِنْ اللصوص طالِبَةً النَجْدَة تَصيحُ: انْقِذوني، انْقِذوني ....
أَمْسكَ بِها ولَدُها وحاولَ تَهْدئتها وأَخذَ يُقَبِّلُ يَديها والحُزْنُ يَأْكُلُ قَلْبَهُ، وأَسْرَع حفِيدُها لِمُسَاعدَةِ والِدِهِ فأَجْلسَاها على الأَريكة، وصارَ وَلدها يَحْكي لَها:
ــ أُمّي، انظُري إِليّ، أَنا وَلَدُكِ، ابْنُكِ الَّذي قُمْتِ بِتَرْبيَتِهِ، ابْنُكِ الَّذي أَحْبَبْتيهِ دائماً، هلْ تَتَذكّرين يَوْمَ كنْتُ أَلْعبُ مع رِفاقي في الزُقَاقِ وانْزَلَقَتْ قَدَمي والْتَوى مِفْصلي، كنْتُ صغيراً حيْنَها، وصرْتُ أَصْرخُ أَلَماً، ورَكضْتِ أَنْتِ نَحْوي وحملْتِيني وذَهبْتِ بي إِلى الطبيبِ، أَعْطيْتِيني مِنْ الحلْوى الَّتي كُنْتِ تَصْنَعينها وكنْتُ أُحِبُّها كثيراً ففَرِحْتُ وصرْتُ أَضْحكُ وأَنْتِ تُدَغْدغينني ونَسِيتُ الأَلَم ......
رَسَمتْ نِصْفَ ابْتِسامةٍ مُصْطنَعة فَوْقَ شَفَتيّها وكأَنَّها تَقولُ لهُ: عمَّا تَتَحدَّثُ أَيُّها الغريب، أَيُّها الكذَّاب، لَنْ تَغلِب إِمْرأَةً عجُوز عجنَتْها الحيَاةُ عجْناً؟
حاولَتْ بِقِواها الواهِنَة أَنْ تَنْأَى بِيَديها عنْ قَبْضتِهِ، والخَوْفُ في عيْنيها مِنْ هذَا الغرِيب ابْنها، فأَفْلتَ يَديهِ عنْ يَديها ليُشْعِرها بِالأَمانِ وقَدْ أَوْجعتْهُ جِدَّاً نَظَراتها الخائفَة وابْتَعدَ عنْها بِضْع خَطَوات، وبَدا لَهُما بَعْدَ حيْنٍ إِنَّ الجدَّة قَدْ هدأَتْ ونَسِيَتْ كما تَعوَّدوا مِنْها في كُلِّ مَرَّة الأَمْرَ كُلّه، ونَسِيَتْ الخطَرَ الَّذي تَصوَّرَتْهُ في ابْنِها وحفيدِها ، فوَجدَاها قَدْ غفَتْ في مَقْعدِها، وشَكرا السَماء على انْتِهاءِ هذَا المَوْقِف المُبْكي المُضْحِك، فدَخلَ ابْنُها المَطْبخ، وغابَ الحفيدُ لِبَعْضِ الوَقْتِ في غُرْفتِهِ، وفي تِلْك الغَفْلةِ مِنْهُما نَهضَتْ عنْ مَقْعدِها وسَارَتْ وَئيداً نَحْوَ بَابِ المَنْزِلِ الخارِجيّ مُبْتَعِدةً عنِ الخَطرِ المُحْدِقِ بِها مُحاوِلَةً الفِرار لكِنَّ قَدَمَها ارْتَطمَتْ بِعتَبةِ المَنْزِلِ الخارِجيَّةِ فوَقَعتْ أَرْضاً وانْكسَرَ حوْضُها وأُغْمي علَيْها، بيْنَما بَانَتْ بَقِيَّةُ العائلة عِنْدَ مُنْعطَفِ الشَارِع وهي في طرِيقِها لِلمَنْزِل، وكُلٌّ مِنْهُم يَحْمِلُ حقِيبَتَهُ المَدْرسِيَّة بِرِفْقَةِ أُمِّهِم الَّتي تَكدَّسَتْ فَوْقَ ذِراعيها مَعاطِفهُم، وفي لَحْظَةٍ تَطايرَتْ مَتَاعهُم في الهواءِ مُسْرِعين يَتَلاحقون الخُطُى مع والِدتِهِم نَحْوَ الجدَّة، وسادَ الضَجيجُ والبُكاءُ والصُراخ، سَمِعَ اللِصَّان الجَلْبَة فخَرجا يُهرْوِلان، ورَكضَ حفِيدُها ذُو السَبْعِ سَنَواتٍ، وكانَ أَشَدَّهُم تَعلُقاً بِجدَّتِهِ، نَحْوَ والِدِهِ راشِقاً إِيَّاهُ بِنَظَراتِ لَوْمٍ لا يُسَامِح والدمُوعُ تَغْمرُ خَدَّيهِ :
ــ إِنَّها لا تَرُدُّ عليّ، لِماذَا لَمْ تَحْرُسها في غيابي، لَنْ أَذْهبْ لِلمَدْرَسَةِ بَعْدَ الآن، سَأَبْقَى في المَنْزِلِ لأَرْعى جدَّتي العزِيزَة، ماذَا سَأَقُولُ لِرِفَاقي في المَدْرَسَةِ: لَيْسَ لَديّ جدَّة ، كيْفَ هذَا؟
لكِنَّ والِدهُ كانَ مُشَتَّتَاً وتَحْتَ وَقْعِ الصَدْمَة فلَمْ يَنْتَبِه لِحالِ صَغيرهِ ولا لِكلِماتِهِ، وأَسْرَع مع اللِصِّ شَرِيكِهِ بِنَقْلِها لِلمُسْتَشْفى، وظلاَّ يَذْرعانِ رَدْهةَ الانْتِظارِ ذِهاباً وإِيَّاباً قلَقاً على الجدَّةِ الَّتي حاوَلَتْ في غَفْلةٍ الإِفْلاتَ مِنْهُما .......
تَلى اليَّومُ دَوْرَتَهُ وطوَى قِصَّتَها:
الجدَّة كبُرَتْ ....
الجدَّة شَاخَتْ .....
الجدَّة نَامتْ ....
الجدَّة قَطَعتْ تَذْكرَةَ السَفَرِ لِرِحْلَتِها الأَخيرَة .....
الجدَّة فَارَقَتْ الجميع .....
وبَقِيَتْ مِحْفَظةُ الجدَّة مَفْقودَة، وبَقيَ اللِصَّان يُقَرِّعان نَفْسيهِما تَأْنِيباً على الَّذي حدَث.
ــ انْتَهتْ ــ
المتواجون الان
530 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع