قراءة نقدية أدبية فلسفية وجودية في قصيدة عقلي وانتمائي للدكتور علي الطائي// د. صالح الطائي
- تم إنشاءه بتاريخ الإثنين, 08 أيلول/سبتمبر 2025 12:01
- كتب بواسطة: د. صالح الطائي
- الزيارات: 554
د. صالح الطائي
قراءة نقدية أدبية فلسفية وجودية
في قصيدة عقلي وانتمائي للدكتور علي الطائي
الدكتور صالح الطائي
إن الشعر الفلسفي والفكري في الأدب العربي المعاصر يمثل امتدادا لخطاب الروح والعقل والإصلاح الذي عرفه تراثنا العربي منذ أبي العلاء المعري، مرورا بالنهضويين المتأخرينمثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وصولا إلى شعراء الحداثة الذين جعلوا من الشعر مساحة للتساؤل عن معنى الوجود والدين والحرية، من أدونيس رائد التجريب والرؤية الفلسفية في الشعر، إلى سعدي يوسف شاعر التفاصيل اليومية والاغتراب، إلى أمل دنقلومحمد الماغوط وأنسي ويوسف.
وفي هذا السياق جاءت قصيدة "عقلي وانتمائي" (2025) للشاعر البابلي الدكتور علي الطائي، لتطرح إشكالية الانتماء الموروث مقابل الوعي العقلي المتحرر في إطار شعري يجمع بين الشكل الكلاسيكي ممثلا ببحر الوافر الذي اختار الشاعر أن يكتبها عليه، والفكر الفلسفي المعاصر بكل تجلياته؛ التي خرج بعضها على المألوف، وخالف بعضها الموروث.
ويجد من يتحرى البنية الوزنية والإيقاعية للقصيدة أن الدكتور الطائي كتبها على بحر الوافر التام، وتفعيلاته الأصلية:مفاعلتنمفاعلتنمفاعلتن، وهو وزن يلتزم غالبا بالتمام، من غير حذف أو تجزيء. وكثيرا ما يقع فيه الزحاف مثل تحويل مفاعلتن إلى مفاعيلن، مما يمنحه تنوعا إيقاعيا.
ويخيل إليَّ أن الدكتور الطائي اختار بحر الوافر التام لأنه بحرٌ ذو رنين فكري وجدلي، جمع في تراثنا عبر التاريخ بين الفروسية والتأمل، وهو في النصوص الحديثة وعاء ملائم للتعبير عن الوعي والإصلاح والجدال الفلسفي. فهو في حقيقته بحر راسخ في المدونة الشعرية العربية لأنه ينماز بقدرته على حمل المعاني الجليلة.فضلا عن ذلك نجدهينماز بإيقاع متدفق ورنان، يجمع بين الجزالة واللين في الوقت نفسه، وهذا يُعطي إحساسا بالامتداد. ولذا نرى أنه وزن مناسب جدا للموضوعات التأملية والفكرية والفخرية والوجدانية.
وربما يكون هذا هو السبب الذي جعل أصحاب المعلقات، مثل معلقة عنترة بن شداد "هل غادر الشعراء من متردم" يستخدمونه، كما انه شائع عند شعراء الحكمة والفلسفة،وهذا ما شُخِصَ لدى أبي العلاء المعري. أما الشعراء المعاصرون فقد استخدموه غالبا في القصائد ذات البعد التأملي والإصلاحي بسبب طاقته التعبيرية، فهو رائع في التعبير عن الصراع الداخلي والحوار الجدلي مثلما نراه في قصيدة"عقلي وانتمائي". ويعني اختيار الدكتور الطائي لهذا البحر نقطة تضاف إلى رصيد إبداعه الأسلوبي.
ومن مزاياه الأخرى أن هذا الوزنيتسع للخطاب الفكري والفلسفي، ذلك لأنه يجمع بين الصرامة الإيقاعية والانسياب الموسيقي، مما يعطي انطباعا بالسمو والجدية، وهذا جعله بحرا مفضلا في القصائد ذات الرسائل القيمية أو العقائدية.
عدا الوزن، واستكمالا لمنح الصورة الشعرية وهجا مليئا بالجزالة والعمق، جاءت القافية في "عقلي وانتمائي" ممدودة بالألف والهمزة (عناء/ولاء/رداء/ادعاء...)، وهذا أضفى امتدادا صوتيا عكس فكرة التحرر والانفتاح:
فَقالَ: التِّيهُ أَن تَرضى قُيودًا
تُعَطِّلُ عَقلَكَ السّامي كَدَاءِ
فمن اليسير أن نلحظ هنا كيف وازى وقع القافية بين (قيودا) و(داء) حالة التناقض بين الأسر والمرض، بما كرّس موسيقيا ثنائية العبودية/الحرية.
إن المحور الدلالي الأساس في قصيدة"عقلي وانتمائي" قام على جدلية الموروث والانتماء من جهة، والعقل والحرية من جهة أخرى، وكأنه محاولة لاستكناه ثنائية الموروث والعقل:
وُلِدتُ فَكانَ ديني وانتمائي
كَميراثٍ يَجيءُ بِلا عَنَاءِ
حيث قدّم الشاعر الانتماء الديني بوصفه نتاجا بيولوجيا ـ اجتماعيا لا خيار للإنسان فيه، وكأنه أشبه بالميراث المفروض. لكن سرعان ما يتدخل صوت العقل ليعلن دون تردد أو وجلٍ:
فَجاءَ العَقلُ يَسأَلُني رُوَيدًا
أَما تَختارُ لَونًا لِلرِّداءِ؟
والذي أراه أن العقل في هذه الصورة جاء استعارة لحرية الاختيار، أما الرداء فجاء رمزا للهوية. وبالتالي أضفى هذا الحوار الداخلي على النص بعدا دراميا عميقا ومؤثرا.
ومن حيث البعد الفلسفي الوجودي والدينيأرى الدكتور الطائي الذي عرفته مشاكسا واعيا يرفض البقاء تحت عباءة تصادر حريته، حاول أن يطرح من خلال نصه هذا سؤالا جوهريا عميقا مفاده: هل الدين وعي أم جمود؟ وهذا ما يستخلص من قوله:
هُوَ الإِيمانُ وَعيٌ لا جُمودٌ
وَلا صَوتُ الخُرافَةِ وَالرِّياءِ
فهو في هذا البيت اقترب كثيرا من خطابات الإصلاح الديني في الفكر الحديث، حيث عُدّ الإيمان عملية تفكير عقلاني وليس مجرد تقليد وراثي. وهذا يشبه ما ذهب إليه محمد عبده الذي كان يرى أنه إذا تعارض العقل والنقل وجب تأويل النقل". وليس هذا وحده فحسب، إذ يتجلى التناص القرآني في هذه القصيدة، مثلما يفهممن قوله:
يَقولُ اللهُ في آيٍ كِرامٍ
(فَمَنْ شاءَ اهْتَدى)، سِرُّ العَطاءِ
فالتضمين هنا رَسّخ فكرة أن حرية الاختيار جزء من جوهر الدين ذاته، وليست نقيضا له.أما الصور البلاغية فلقد وجدتها تتوزع بين استعارات حسية (القيود/السجن) وصور كونية (الكون/السماء/النور):
هُوَ الفِكرُ البَصيرُ دَليلُ حُرٍّ
يُحَلِّقُ نَحْوَ آفاقِ السَّماءِ
فالشاعر صور الفكر هنا ككائن طار حرا يُحلّق حرا، والسماء رمزا للمعرفة اللامتناهية. وقد أضفت هذه الصورة بعدا روحانيا تجاوز حدود العقل الأداتي الضيق إلى العقل الكوني اللامحدود.
ولقد قرأت القصيدة مرات عديدة لأستشف عمق القيمة الفنية والفكرية لها، فوجدتها تمثل محاولة جادة وجريئة للتوفيق بينالشكل والأسلوب البنائي الكلاسيكي من حيث الوزن والقافية. وبين الفكرة المعاصرة انطلاقا من حرية العقل لنقد الموروث دون تردد، وربما كان هذا هو السبب الذي جعل بعض أبيات القصيدة تميل إلى التقريرية مثل قوله:
فَإِنْ أَغلَلتَ عَقلَكَ، صارَ سِجنًا
فهذه جملة مباشرة أقرب إلى الحكمة منها إلى الشعر، لكن وظيفتها الإقناعية تجعلها جزء من بنية النص الجدلية. لكن هذا لا يقلل من قيمة القصيدة التي جاءت لتدعو إلى جعل العقل شريكا في الإيمان، وليس منفصلا عنه، ولذا لا أتردد في اعتبارها قصيدة تنتمي إلى خط الشعر الفلسفي الإصلاحي، وتستحق أن تُقرأ في ضوء تراث لزوميات المعرّي ورؤى الجواهري وطلاسم إيليا أبي ماضي، مع امتدادها في هموم الحاضر، وربما المستقبل أيضا.
ملاحظة جديرة بالاهتمام وهي أن النفس الصوفي قد يبدو واضحا في هذه القصيدة، وهذا قد يدفع بعضهم لعدها شعرا صوفيا، بينما أرى أنا بانها ليست قصيدة صوفية بالمعنى الاصطلاحي، لكنها تتقاطع مع الروح الصوفية في بعض مواضعها، من حيث اللغة والرمز والبحث عن المعنى. دعني أوضح، فالصوفية الكلاسيكية من الجنيد إلى ابن عربي والحلاج تقوم على الفناء في الله والتجربة الباطنية الوجدانية.بينما نرى أن القصيدة مبنية على الحوار العقلي، وهي تؤسس لفكرة أن الإيمان وعي وليس وراثة. وهذا يعني أن طابع القصيدة العام أقرب إلى العقلانية الإصلاحية منه إلى التجربة الصوفية الخالصة.أما تقاطعات القصيدة مع الروح الصوفية فتتمثل في بعض أبياتها التي لمحت إلى أفق صوفي، مثل:
هُوَ السِّرُّ العَظيمُ وَراءَ كونٍ
تَجَلّى في انسِجامٍ وَارْتِقاءِ
فتعبيرات مثل: "السر العظيم" و"التجلّي" و"الانسجام الكوني" تبدو قريبة جدا من لغة المتصوفة التي تتحدث عن تجليات الحق في الكون.
ومثلها قوله:
فَيا نَفسي، تَنَحّي بَلْ دَعيني
أُناجي الكَونَ عَنْ سِرِّ البَقَاءِ
فهذه نبرة وجدانية قريبة جدا إلى مناجاة صوفية، حيث يتوارى "الأنا" أمام سر الوجود، وهو ملمح صوفي أصيل، لكن ذلك لا يمنح القصيدة صفة الصوفية مطلقا.
والذي أراه أن القصيدة بمجملها ليست دعوة إلى الصوفية، بل هي دعوة إلى الإيمان الواعي الذكي غير التقليدي الخارج على المألوف، لكنها تحمل في طياتها أصداءً صوفيةً في تصويرها للكون كسرٍّ عظيم، وفي المناجاة الداخلية، وفي النزوع نحو النقاء والتسامي. وجل ما يمكن أن اصفها به أنها قصيدة عقلانية بروح صوفية، اجتمع بأفياء روضها الباذخ العقل الباحث مع القلب المتأمل.
المتواجون الان
777 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع