اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

ارشيف مقالات وآراء

• العلمانيون والإسلاميون والطائفية

د. جابر حبيب جابر

العلمانيون والإسلاميون والطائفية

 

الفرق بين الكتابة الأكاديمية والكتابة الصحافية هي أن الأكاديميين مطالبون بتحري الدقة والبحث عن تعريفات واضحة ومحددة للمصطلحات التي يستخدمونها، بينما يمكن للصحافيين أن يهربوا من هذا الالتزام عبر التذرع بأن الكتابة الصحافية غير ملزمة بهذا النوع من الرصانة بقدر ما يُفترض فيها أن تجذب القارئ. لكن هذا الواقع يجعل الكثيرين، لا سيما أولئك الذين يتعاطون العمل الأكاديمي والصحافة في نفس الوقت، بمواجهة سيل من التشويش والتعميمات السهلة التي تضعهم في موضع الاختيار بين التعامل مع الخطأ الشائع بوصفه أفضل من الصحيح النادر أو إضفاء المنطق الأكاديمي على ما ينتجون والمجازفة بفقدان القارئ الراغب في وجبة سريعة. ينطبق هذا إلى حد كبير على الكيفية التي يتم التعامل فيها مع مصطلحات مثل العلمانية والإسلاموية والطائفية في الكتابة الصحافية، لا سيما مع ميل واضح إلى إطلاق هذه المصطلحات على شخصيات أو دول أو أحزاب أو تيارات بلا تدقيق فيما إذا كانت تلك التصنيفات صحيحة وتعكس الواقع أو لا. ينسحب الشيء نفسه على التوظيف المتزايد لمصطلح الطائفية خصوصا ونحن نعيش عصرا تزدهر فيه الولاءات ذات البعد الطائفي لأسباب تميل الدراسات الأكاديمية إلى بحثها ضمن إطار التحولات الاجتماعية السياسية المقترنة بإشكاليات هيكلية في المنطقة وبطبيعة دولها ونظمها السياسية، وتميل الكتابات الصحافية إلى تقديمها بوصفها خيارات يتخذها بعض الأشرار والسيئون رغم وجود خيارات أخرى بديلة، وبالطبع فإن أولئك الأشرار هم في العادة خصومنا وبالتالي هم من يستحق وصفه بالطائفية. وضمن هذا السياق من الطرح هنالك موقفين شائعين إعلاميا وأحيانا أكاديميا بحاجة إلى المناقشة المقتضبة هنا، الأول في طبيعة الظاهرة الطائفية والثاني في أن الطائفية تناقض العلمانية.

 

إن الظاهرة الطائفية تكاد تكون متجذرة في عموم المنطقة ولا يهرب منها أي مجتمع من مجتمعاتها، ليس لأننا جميعا قوم أشرار ولا نعرف أن نختار الخيار الصحيح، بل لان ذلك مقترن أساس بفشل مشروع الحداثة والدولة الحديثة الذي تم تبنيه بعد الاستقلال والإخفاق في إنتاج هويات وطنية راسخة تستوعب نزوع الأفراد إلى البحث عن هوية جمعية تمثلهم وتتلاءم مع ثقافتهم.

 

ببساطة لا تنتظر من الفرد أن يكون وطنيا عندما لا يكون للوطن معنى واضح في حياته اليومية وفي التعليم الذي يتلقاه وفي الأنظمة الصحية والاجتماعية التي يرتبط بها، وعندما يكون حضور القبيلة والعشيرة والشيخ والطائفة أكثر قوة في حياته من حضور المؤسسة العقلانية المحايدة. الأمم الأوروبية بُنيت خلال مراحل تطور تدريجية وطويلة انتهت إلى أن يصبح فيها ولاء الفرد الأول إلى الأمة القومية وهذا الولاء ينعكس بشكل واضح في حياته اليومية عبر تفكك الولاءات المنافسة وعبر وجود اقتصاد قومي ومؤسسات قومية محايدة ونظام تعليم وطني وعبر ذهابه إلى المحطة الانتخابية بشكل دوري للتصويت لحكومة وطنية، أي عبر ممارسته المواطنة كواقع أكثر منه كشعار.

 

أمام هذا الحال نتساءل فعلا عما إذا كانت في منطقتنا علمانية حقيقية كحركة سياسية متكاملة وواضحة المعالم، والشك هنا مصدره أن العلمانية بوصفها أحد عناصر الحداثة لا يمكن أن تكون حركة مؤثرة وجماهيرية في مجتمعات لم تدخلها الحداثة بعد، وربما نحن نخلط بين كون الشخص لا يصلي وكونه علمانيا، كما أننا نخلط بين كون الشخص يصلي وكونه إسلاميا، فكلا الاستنتاجين خاطئ إذا ما فهمنا العلمانية بوصفها تشبعا بقيم حداثية وبولاءات حداثية أعمق من الموقف تجاه الممارسات الدينية. الشيء نفسه ينطبق على إصرار البعض على وضع العلمانية نقيضًا للطائفية، فذلك ليس صحيحًا في منطقتنا وإن كان صحيحا في الغرب، فالطائفية في الشرق الأوسط ليست ظاهرة دينية بقدر ما هي ظاهرة اجتماعية، وهي غير معنية بالصراع الديني القديم والاختلافات حول تفسير النصوص والوقائع التاريخية بقدر ما هي معنية بالصراعات الاجتماعية الناتجة عن إخفاق مشروع الحداثة وعودة الولاءات ما قبل الحديثة وتصارعها واصطدامها حول السلطة والموارد، ومن هنا لم يعد لزاما على الشخص أن يكون متدينا لكي يكون طائفيا، ولو ألقينا نظرة على زعماء الطوائف في المنطقة لرأينا ببساطة أن كثيرين منهم ليسوا متدينين وربما بعضهم ملحد أو لا دينيّ، لكنهم طائفيون بمعنى أن ولاءهم ومصدر قوتهم مقترن بارتباطهم بكيانهم الطائفي، إلا أنه يجدر الالتفات إلى أن هذه الطائفية هي ليست سبة لهم لأنهم يعكسون طبيعة المجتمع وتركيبته وهي طبيعة متشابهة إلى حد كبير في عموم الرقعة الجغرافية الممتدة من أفغانستان إلى الأطلسي.

 

 

"الشرق الأوسط"

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.