مقالات وآراء
قمة الدوحة ومأزق التطبيع: كيف يحوَّل الإجماع إلى مجرد ورق؟// فراس صالح
- تم إنشاءه بتاريخ الإثنين, 22 أيلول/سبتمبر 2025 11:16
- كتب بواسطة: فراس صالح
- الزيارات: 396
فراس صالح
قمة الدوحة ومأزق التطبيع: كيف يحوَّل الإجماع إلى مجرد ورق؟
فراس صالح
■ قمة الدوحة العربية – الإسلامية لم تكن قمة عادية ولا لقاءً بروتوكولياً يضاف إلى أرشيف البيانات الرسمية التي عرفناها منذ عقود، بل جاءت في لحظة تاريخية فارقة، حيث بلغ العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني درجة من الوحشية لم يعرفها العالم، وتحوّل من عدوان على غزة أو الضفة فحسب، إلى عدوان شامل على كل ما يمتّ إلى فلسطين بصلة، عدوان مسلح على الأرض الفلسطينية وعدوان سياسي ودبلوماسي على كل عاصمة عربية وإسلامية ما زالت ترفع صوتها نصرة للقضية. ولعل ما جرى في الدوحة، من استهداف مباشر غادر، وما تلاه من تهديدات أطلقها قادة الطغمة الفاشية الحاكمة في إسرائيل على لسان رئيس وزرائها ووزير حربها ومندوبيها في المحافل الدولية، لم يكن مجرد حادثة عابرة أو استعراض قوة، بل كان إعلاناً فاقعاً أن دولة الاحتلال قد قررت أن تلغي من قاموسها كل ما تبقى من خطوط حمراء، وأن تتعامل مع الأمة العربية والإسلامية باعتبارها عاجزة، مفككة، مكتفية بالشجب والبيانات، لا أكثر ولا أقل.
في مواجهة هذا المشهد الدموي والسياسي الأسود، انعقدت قمة الدوحة. السؤال الذي يفرض نفسه منذ اللحظة الأولى: هل كانت هذه القمة على مستوى الحدث الكبير والتحديات العظمى؟ هل ارتقت إلى مستوى الدم الفلسطيني النازف، والبيوت المدمرة فوق رؤوس أصحابها في غزة، والاغتيالات المنظمة في الضفة، والتهديدات الوقحة الموجهة إلى بيروت ودمشق والقاهرة وعمان؟ أم أنها كانت مجرد نسخة جديدة من قمم سابقة انتهت إلى ما يشبه «حفلات خطابية» ضخمة، سرعان ما يطويها النسيان مع انفضاض القاعة؟
ما كان مطلوباً من القمة أن تقرر ما لم يجرؤ أحد على تقريره منذ عقود. المطلوب أن تعلن إسرائيل دولة عدوة بشكل رسمي وملزم، وأن تفرض مقاطعة شاملة لا لبس فيها، تقطع معها كل خيوط التطبيع المقيتة التي تحولت إلى جسر مفتوح للعدوان. المطلوب أن تُتخذ قرارات واضحة بوقف كل أشكال التعاون الأمني والسياسي والاقتصادي مع الاحتلال، وأن تعاد الاعتبار لسلاح المقاطعة الشعبية والرسمية الذي أثبت فعاليته في تجارب تاريخية كبرى، من أبرزها تجربة إسقاط نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. المطلوب أن تُعطى إشارة البدء بتحريك ملف الجرائم الإسرائيلية أمام محكمة العدل الدولية والجنائية الدولية، على أساس ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، ليس فقط بحق الشعب الفلسطيني، بل بحق شعوب عربية أخرى تعرضت للعدوان المباشر في لبنان وسوريا والعراق واليمن. المطلوب أن يصدر قرار جماعي ملزم بقطع كل قنوات الاتصال مع إسرائيل في المحافل الدولية، ومطاردتها دبلوماسياً وسياسياً وإعلامياً حتى تتحول إلى دولة منبوذة معزولة لا شرعية لها ولا مكان بين الأمم.
لكن، هل حدث ذلك فعلاً؟ هنا تكمن المعضلة. البيانات الصادرة عن القمة حملت لغة قوية في بعض جوانبها، لكنها بقيت محاصرة داخل أسوار «التوصيات» و«الدعوات»، ولم تتحول إلى آليات ملزمة تُفرض على جميع الأعضاء. وهكذا وقعنا مجدداً في الفجوة القديمة بين الخطاب المرتفع واللهجة الحادة، وبين غياب التنفيذ والالتزام. والسبب في ذلك ليس سراً. إنه التباين البنيوي العميق بين الأنظمة العربية والإسلامية، بين من يريد المواجهة ومن يريد التسوية، بين من يفتح عواصمه للتطبيع ومن يدفع دماء أبناءه في مواجهة الاحتلال. وهذا الانقسام المزمن هو السلاح الأخطر الذي تراهن عليه إسرائيل وحلفاؤها الغربيون.
لقد أرادت الشعوب العربية والإسلامية أن ترى في قمة الدوحة شيئاً مختلفاً، قفزة نوعية تعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة، وتثبت أن الدم الفلسطيني ليس رخيصاً إلى الحد الذي يمر فيه العدوان تلو العدوان بلا ثمن. أراد الفلسطيني المحاصر في غزة أن يسمع بأن العرب والمسلمين سيقطعون شريان الحياة الاقتصادية والسياسية عن إسرائيل. أراد اللاجئ في المخيم أن يلمس أن قضية عودته لم تسقط في دهاليز المساومات. أرادت الشعوب التي خرجت في الشوارع غاضبة أن ترى قراراً عربياً وإسلامياً يعيد لها شيئاً من الثقة بأن قادتها لم يستسلموا تماماً للضغوط الدولية ولإرهاب واشنطن. لكن الواقع أن القمة لم تبلغ هذا السقف، ولم تقترب من تحقيق هذه التطلعات، بل اكتفت ببيان لم يخرج عن تقاليد الصياغة الدبلوماسية المعتادة.
إن إسرائيل التي نفذت عدوانها الغادر في قلب العاصمة القطرية لم تكن تختبر فقط قدرة الدوحة على الصمود، بل كانت تختبر أيضاً جدية الموقف العربي والإسلامي. وعندما وجدت أن الرد لا يتجاوز الكلمات، استنتجت أن الطريق مفتوح لمزيد من العدوان. فهي لم تعد ترى في العرب سوى كيانات منشغلة بخلافاتها، غير قادرة على بلورة موقف موحد أو استراتيجية جامعة. وهذا ما يشجعها على التمادي، وعلى نقل عدوانها من غزة والضفة إلى بيروت ودمشق واليمن، بل إلى كل عاصمة ما زالت تجرؤ على استضافة فلسطينيين أو الدفاع عنهم.
في المحصلة، فإن قمة الدوحة، رغم رمزيتها ومكانتها، لم تنجح حتى الآن في التحول إلى نقطة انعطاف استراتيجية. هي محطة مهمة، نعم، لكنها ستبقى محطة ناقصة إن لم تُستكمل بقرارات شجاعة على الأرض. ما يريده الناس اليوم هو أن يسمعوا إعلاناً واضحاً: إسرائيل عدو، والتطبيع خيانة، والمقاطعة واجبة، والمقاومة حق مشروع.
إن لم تلتقط القمة هذه اللحظة التاريخية، فإنها ستُسجَّل في ذاكرة الشعوب كفرصة ضائعة أخرى، كقمة لم ترتق إلى مستوى الدم والتضحيات، ولم تجب على تحديات التاريخ. وسيبقى السؤال معلقاً: إلى متى يظل العرب والمسلمون أسرى بيانات لا تسمن ولا تغني من جوع، بينما العدو يواصل عدوانه، غير عابئ بخطوط حمراء ولا بقرارات قمم؟ إن قمة الدوحة ستُحاكم في وعي الشعوب لا على ما قيل فيها، بل على ما ستنتجه من أفعال لاحقة
لكن لا يمكن قراءة نتائج قمة الدوحة بعيداً عن سياقٍ أعمق وأخطر، هو سياق سياسة التطبيع التي اجتاحت المنطقة في السنوات الأخيرة، والتي شكّلت عملياً أكبر هدية استراتيجية للاحتلال الإسرائيلي منذ اتفاق أوسلو. فكيف يمكن لقمة عربية – إسلامية أن تدّعي مواجهة العدوان، بينما بعض أعضائها فتحوا عواصمهم وقصورهم أمام قادة الاحتلال، ووقعوا معه اتفاقيات اقتصادية وأمنية، وسمحوا له بأن يمدّ أذرعه إلى عمق المنطقة تحت غطاء «سلام» زائف؟ إن التطبيع لم يكن مجرد خطأ سياسي، بل كان خيانة صريحة لدماء الفلسطينيين، وطعنة في ظهر الشعوب، وتواطؤاً مكشوفاً مع المشروع الصهيوني الذي لم يخفِ يوماً أطماعه التوسعية، لا في فلسطين وحدها بل في المنطقة بأسرها.
التطبيع لم يغيّر في سلوك إسرائيل قيد أنملة، بل على العكس تماماً، شجعها على التمادي في جرائمها. لقد أراد المطبّعون أن يقنعوا شعوبهم بأن التطبيع سيفتح باب السلام والازدهار، لكن الواقع كشف بسرعة أن التطبيع فتح الباب لمزيد من الحروب والمجازر، وأن إسرائيل استخدمته لتوسيع نفوذها العسكري والاستخباري والاقتصادي في المنطقة، وللتغطية على جرائمها في الضفة وغزة.
ومن هنا، فإن أي حديث عن قمة الدوحة لا يكتمل من دون وضع الأصبع على جرح التطبيع النازف. كيف يمكن لقمة أن تفرض مقاطعة شاملة لإسرائيل، بينما بعض أعضائها ينسّقون معها علناً في الاقتصاد والتكنولوجيا والأمن؟ كيف يمكن لبيان ختامي أن يهدد بعزل الاحتلال دولياً، بينما بعض الدول العربية والإسلامية جعلت منه شريكاً في تحالفات إقليمية معلنة؟ إن هذه المفارقة المأساوية هي التي تفرغ القمم من مضمونها، وتجعلها عاجزة عن الارتقاء إلى مستوى التحديات. فالموقف السياسي لا يُبنى بالبيانات، بل يُبنى بالفعل، وأول الفعل هو أن تغلق العواصم أبوابها في وجه القتلة، لا أن تفرش لهم السجاد الأحمر وتمنحهم عقوداً ومكاسب.
إن نقد التطبيع اليوم لم يعد ترفاً سياسياً، بل هو واجب وطني وقومي وأخلاقي. فالتطبيع ليس شأناً داخلياً لأي دولة، بل هو قرار ينعكس مباشرة على حياة الفلسطينيين، ويؤثر على مستقبل الأمة كلها. لأن التطبيع يشرعن الاحتلال، ويحوّل المجرم إلى ضيف عادي، ويضعف جبهة المواجهة، ويعطي إسرائيل شعوراً بأن كلفة عدوانها محدودة ويمكن تجاوزها بزيارة بروتوكولية أو صفقة مربحة. وكلما توسع التطبيع، تراجع التضامن الفعلي، وكلما ضعفت الجبهة الرسمية، ازداد ثقل المقاومة الفلسطينية وحدها في مواجهة آلة الحرب الصهيونية.
لذلك، فإن قمة الدوحة إذا أرادت أن تكون نقطة تحول حقيقية، فعليها أن تعلن بوضوح أن التطبيع خيانة، وأن أي دولة تواصل مساره تضع نفسها خارج الصف العربي والإسلامي، وأن الموقف الموحد يقتضي أولاً وأساساً التراجع عن كل اتفاقيات التطبيع مع الاحتلال. من دون ذلك، ستبقى القمم رهينة التناقض الفاضح بين الشعارات والواقع، بين الكلام عن فلسطين والارتماء في أحضان القتلة.
التطبيع هنا ليس مجرد سياق جانبي، بل هو العقدة المركزية التي تفسر الفجوة بين خطابات القمم وواقعها. ما لم يُكسر هذا الجدار، وما لم يجرؤ القادة العرب والمسلمون على إعلان أن التطبيع خطيئة كبرى وخيانة صريحة، ستبقى القمم عاجزة عن إنتاج قرارات بحجم التحديات. لأن الخطوة الأولى نحو مواجهة العدوان ليست إصدار بيان، بل إغلاق سفارات إسرائيل في العواصم، ووقف رحلات الطيران، وتعليق التبادل التجاري، وقطع كل أشكال التعاون. من دون ذلك، فإن العدو سيقرأ في بيانات القمم مجرد ضجيج كلامي، بينما يواصل عملياته العسكرية والسياسية مستنداً إلى شرعية مطبّعة في قلب العالم العربي والإسلامي.
إن أخطر ما أثبته العدوان الأخير هو أن إسرائيل لم تعد تخشى شيئاً من القمم، لأنها تعرف أن التطبيع يوفر لها غطاءً عربياً وإسلامياً يكسر أي محاولة لعزلها. ولذلك، فإن ربط نقد التطبيع بمخرجات قمة الدوحة ليس ترفاً سياسياً بل ضرورة تحليلية. لأن القمة في النهاية ليست سوى مرآة للتوازنات بين دولها، وما دام في هذه الدول من يعتبر إسرائيل صديقاً، فإن أي قمة لن تكون أكثر من هدير كلمات لا يغيّر شيئاً في ميزان القوى■