مقالات وآراء
انحدار الأدب العربي: بين تغييب المعنى وسقوط الذائقة// زهير حنا
- تم إنشاءه بتاريخ الأحد, 02 تشرين2/نوفمبر 2025 19:51
- كتب بواسطة: زهير حنا
- الزيارات: 183
زهير حنا
انحدار الأدب العربي: بين تغييب المعنى وسقوط الذائقة
زهير حنا
تورنتو - كندا
لم يَعُد الأدب العربي، في معظمه، يحمل تلك الروح التي كانت تُلهم الوعي وتؤسِّس للموقف، كما كان في عصورٍ سابقة حين كان الشعرُ يُهزّ العروش، والروايةُ تُفكّك بنى الوعي الزائف، والمقالُ يُوقظ الغافلين من سباتهم. لقد تحوّل الأدب في زمننا من فعلٍ إنسانيٍّ مقاومٍ للابتذال، إلى سلعةٍ ترفيهية تُستهلك كما تُستهلك الإعلانات، لا تُحرِّك الفكر ولا تُربّي الذائقة.
أولاً: الأدب بين الرسالة والتسلية
الأدب العربي الكلاسيكي لم يكن يوما ترفا لغويا، بل أداةً للمعنى، ومرآةً للروح الجمعية. فالشاعر كان ضمير القبيلة، والمفكر كان وجدان الأمة. أما اليوم، فالأديب العربي يعيش اغترابا مزدوجا: اغترابا أمام ذاته التي أُفقرت لغويا وفكريا، واغترابا أمام مجتمعٍ لم يَعُد يرى في الأدب سوى زينةٍ لغويةٍ فارغة.
تحوّل النص الأدبي إلى عرضٍ لغويٍّ متصنّعٍ يُغري القارئ بالسطح ويُبعده عن الجوهر، وأصبح معيار القيمة الجمالية محكوما بعدد المشاهدات والمتابعين، لا بعمق الفكرة أو براعة التعبير.
ثانيا: المؤسسات الثقافية وصناعة الرداءة
تتحمل المؤسسات الثقافية الرسمية والإعلامية قسطا كبيرا من المسؤولية في هذا الانحدار. فقد أفرغت الجوائز الأدبية من مضمونها، وصارت تُمنح في كثير من الأحيان على أسسٍ سياسية أو علاقاتٍ شخصية، لا على أساس القيمة الفنية أو الفكرية.
كما ساهمت وسائل الإعلام ومواقع التواصل في خلق نموذجٍ جديدٍ من «الكاتب النجم» الذي يتقن فنّ التسويق أكثر مما يتقن فنّ الكتابة، فصار الأدب عرضا للجماهير، لا بحثا في أعماق الإنسان والمجتمع.
ثالثا: تآكل اللغة وابتذال التعبير
اللغة، التي كانت وعاء الفكر وجوهر الإبداع، أُصيبت هي الأخرى بالترهّل. صار الكاتب العربي يكتب بلسانٍ مشطورٍ بين الفصحى والعامية، بين التقليد والترجمة، بين الغموض المفتعل والبساطة الفارغة.
وما يفاقم الأزمة أن كثيرا من الكُتّاب الجدد لا يمتلكون مرجعيات فكرية أو فلسفية أو تاريخية تُغذّي نصوصهم، فغدا الأدب لديهم محض تدفق لغوي بلا عمقٍ ولا وعي.
رابعا: القارئ... الضحية والفاعل
لا يمكن الحديث عن انحدار الأدب دون التطرق إلى تغيّر القارئ نفسه. فجيلٌ تربّى على السرعة والتلقّي الفوري لا يستطيع الصبر على قراءة روايةٍ عميقة أو قصيدةٍ متشابكة الرموز.
لقد تغيّر معنى القراءة؛ صارت تمرينا على التصفّح لا على التأمل، وصار القارئ يبحث عن المتعة السريعة لا عن الفهم البطيء. وهكذا، نشأ أدبٌ على مقاس الطلب، يقدّم ما يريده السوق لا ما تحتاجه الروح.
خامسا: نحو بعثٍ جديد
ومع ذلك، فالأمل لم يمت. ثمة أصواتٌ حقيقية قليلة لكنها موجودة ما زالت تكتب خارج السرب، تستعيد جوهر الأدب بوصفه موقفا من العالم لا مجرّد حكاية. هؤلاء الكتّاب هم البذور الصامتة التي قد تُنبت أدبا عربيا جديدا، أكثر صدقا ووعيا.
لكن النهوض لن يتحقق إلا إذا استعاد الأدب وظيفته التاريخية: أن يكون أداةً للفهم، وفضاءً للحرية، وشهادةً على الإنسان في صراعه مع الوجود والزيف والسلطة.
إن انحدار الأدب العربي ليس قدرا ثقافيا، بل نتيجةٌ طبيعية لتآكل الوعي الجمعي وتحوّل الثقافة إلى استهلاك. فحين يُهمَّش العقل ويُستبدل الفكر بالعرض، يغدو الأدب مرآةً للسطحية لا للمعنى. لكن ما دام في اللغة بريقٌ، وفي الإنسان قلقٌ، سيظلّ هناك من يكتب ضد الانحدار، ومن يحوّل الكلمة من رمادٍ إلى شرارة.
1 /11 /2025
زهير حنا
تورنتو - كندا


