مقالات وآراء
مشكلة الوعي الإنساني بين الأدوات المضللة والطرق الوعرة، مقاربة فينومينولوجية// د. زهير الخويلدي
- تم إنشاءه بتاريخ الإثنين, 03 تشرين2/نوفمبر 2025 10:07
- كتب بواسطة: د. زهير الخويلدي
- الزيارات: 64
د. زهير الخويلدي
مشكلة الوعي الإنساني بين الأدوات المضللة والطرق الوعرة،
مقاربة فينومينولوجية
د. زهير الخويلدي
كاتب فلسفي
مقدمة
"لا يوجد سوى طريقة واحدة لوجود الوعي، وهي أن يكون واعيًا لوجوده الخاص." - جان بول سارتر
يُشكّل الوعي الإنساني – كما يُعرّفه الفينومينولوجيا – الشرط الأول لكل تجربة، إذ لا يوجد عالم إلا من خلال ظهوره للذات الواعية. لكن هذا الوعي ليس مرآة محايدة، بل حقلًا مليئًا بالأدوات المضللة (اللغة، الثقافة، التكنولوجيا، الأيديولوجيا) والطرق الوعرة (القلق، الغموض، الجسدية، الموت). المشكلة ليست في الوعي نفسه، بل في كيفية توجيهه بين هذين القطبين: الأدوات التي تُبسّط الوجود وتُخفيه، والطرق التي تُعيدنا إلى أصالة التجربة لكن بثمن باهظ. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل هذه الثنائية من منظور فينومينولوجي، مستندة إلى أعمال هوسرل، هيدجر، ميرلو-بونتي، وسارتر، مع التركيز على الوعي كعملية ديناميكية تتأرجح بين الإغواء بالتبسيط والمواجهة بالتعقيد. المقاربة ليست تحليلية مجردة، بل وصفية-تأويلية تسعى لكشف كيف يُعاش الوعي في هذا التوتر.
الإطار الفينومينولوجي: الوعي كقصدية وكشف
تبدأ الفينومينولوجيا مع هوسرل بمبدأ القصدية: الوعي دائمًا وعي بشيء. لكن هذه القصدية ليست آلية، بل عملية كشف تُعلّق فيها الأحكام الطبيعية للوصول إلى الظواهر كما تُعطى. المشكلة تبدأ هنا: الأدوات المضللة تُدخل طبقات من التأويل المسبق (اللغة، العادات، العلم) تُحجب الظاهرة الأصلية. أما الطرق الوعرة فهي اللحظات التي يُجبر فيها الوعي على مواجهة الغموض الأنطولوجي (هيدجر) أو الجسدية الحية (ميرلو-بونتي). الوعي، إذن، ليس ملكية، بل حدث مستمر يتأرجح بين الإغلاق (بالأدوات) والانفتاح (بالطرق الوعرة). المشكلة ليست في وجود هذين القطبين، بل في التوازن بينهما.
الأدوات المضللة: الوعي المُغلق في التبسيط
الأدوات المضللة ليست أدوات بالمعنى التقني فقط، بل كل بنية تُحوّل الوعي من كشف إلى إسقاط.
أولاً، اللغة: كما يُظهر هيدجر في الوجود والزمن، اللغة هي "بيت الوجود"، لكنها أيضًا سجن. عندما نُسمّي الشيء، نُختزله إلى مفهوم، فنفقد الوجود الحي. الوعي يُصبح أسير المعاني الجاهزة، فيُرى العالم كـ"موضوع" لا كـ"حدث".
ثانيًا، الثقافة والأيديولوجيا: سارتر في الوجود والعدم يتحدث عن سوء النية أو الفكر الجاد- الوعي الذي يُخدع نفسه بقبول الأدوار الاجتماعية كحقيقة. الأيديولوجيا تُقدّم رواية جاهزة عن "الأنا" و"الآخر"، فتُغلق الوعي عن التساؤل.
ثالثًا، التكنولوجيا: ميرلو-بونتي
في فينومينولوجيا الإدراك يُحذّر من أن الأدوات التقنية تُمدّد الجسد، لكنها قد تُحجبه. في العصر الرقمي، الوعي يُعاش عبر الشاشات، فيُفقد الإحساس بالحضور الجسدي. الخوارزميات تُقدّم عالمًا مُبسّطًا، مُفرغًا من الغموض، فتُضلّل الوعي عن الوجود كمخاطرة.
هذه الأدوات لا تُضلّل بالكذب، بل بالتبسيط المُغري: تُعطي إجابات فورية، فتُعفي الوعي من المواجهة.
الطرق الوعرة: الوعي المُفتتح على الغموض
في المقابل، الطرق الوعرة هي اللحظات التي يُجبر فيها الوعي على مواجهة حدوده.
أولاً، القلق:
هيدجر يُصفه كـ"مزاج أساسي" يكشف عن اللا-شيء. في القلق، تُنهار الأدوات المضللة، ويُدرك الإنسان أن وجوده مُلقى في عالم بلا معنى مُعطى. هذا الكشف مؤلم، لكنه أصيل.
ثانيًا، الجسدية:
ميرلو-بونتي يُظهر أن الوعي ليس فكرًا مجردًا، بل جسدًا حيًا. الطريق الوعر هنا هو الإحساس بالجسد كحدّ: المرض، الإرهاق، الشيخوخة. هذه التجارب تُعيد الوعي إلى الوجود قبل اللغة، حيث لا توجد إجابات جاهزة.
ثالثًا، الموت:
هيدجر يُسميه "الإمكان الأكثر خصوصية". الموت ليس حدثًا مستقبليًا، بل هيكل وجودي يُعطي الوعي إلحاحه. في مواجهة الموت، تُفقد الأدوات المضللة فعاليتها، ويُصبح الوعي مُلزمًا بالاختيار الأصيل.
رابعًا، الآخر:
ليفيناس يُضيف بُعدًا أخلاقيًا: وجه الآخر هو طريق وعر يُقاطع الوعي الذاتي، ويُطالبه بالمسؤولية. ليس الآخر موضوعًا للمعرفة، بل حدثًا يُحطّم الاطمئنان. هذه الطرق ليست عقابًا، بل دعوة لليقظة: تُعيد الوعي إلى أصالته بكشف الوهم الذي تُنتجه الأدوات.
التوتر الديناميكي: الوعي كتأرجح مستمر
الوعي الإنساني لا يختار بين الأدوات والطرق، بل يُعاش في توترهما.
هوسرل يُسمي هذا التذبذب: الوعي يُغلق بالأدوات ليُبسّط العالم، ثم يُفتتح بالطرق الوعرة ليُعيد اكتشافه. هذا التوتر ليس عيبًا، بل شرط الوجود الأصيل.
سارتر يُقدّم مثالًا: الإنسان مُحكوم عليه بالحرية، أي أن عليه أن يختار دائمًا بين الفكر الجاد (الأدوات) والاختيار الأصيل (الطرق). لا يوجد وعي "خالص"، بل وعي مُتوتّر يُعيد بناء نفسه في كل لحظة.
نحو فينومينولوجيا اليقظة
المشكلة ليست في الأدوات أو الطرق، بل في النسيان: نسيان أن الأدوات تُضلّل، ونسيان أن الطرق الوعرة هي الطريق إلى الذات. الفينومينولوجيا لا تُقدّم حلًا، بل ممارسة:
تعليق الحكم (epoche): رفض الروايات الجاهزة، سواء كانت لغوية أو تكنولوجية.
الانفتاح على الطرق: قبول القلق، الجسد، الموت، الآخر كـمُعلّمين.
الوصف المستمر: كتابة التجربة كما تُعاش، لا كما تُفسّر.
هذه الممارسة ليست رفاهية، بل ضرورة وجودية: في عالم يُغرقنا بالأدوات، الطريق الوعر هو الطريق الوحيد للبقاء إنسانًا.
الخاتمة
"الوعي هو الأنا الفينومينولوجي كحزمة أو تشابك للتجارب النفسية" إدموند هوسرل، "تأملات ديكارتية".
مشكلة الوعي الإنساني ليست في نقصه، بل في وفرة إغواءاته. الأدوات المضللة تُعطي راحة زائفة، والطرق الوعرة تُعطي ألمًا حقيقيًا. لكن الفينومينولوجيا تُعلّمنا أن الوعي لا يُكتمل إلا في التوتر بينهما. في النهاية، الوعي ليس ملكية، بل مسؤولية: مسؤولية أن نُبقي الطرق الوعرة مفتوحة، حتى لو كانت تُؤلمنا. لأن في هذا الألم، فقط، نجد أنفسنا. فبأي معنى نقر بأن "كل وعي هو وعي بشيء ما"؟
المصادر والمراجع
Husserl, Edmund. Ideen zu einer reinen Phänomenologie.
Heidegger, Martin. Sein und Zeit.
Merleau-Ponty, Maurice. Phénoménologie de la perception.
Sartre, Jean-Paul. L’être et le néant.
Levinas, Emmanuel. Totalité et infini.
كاتب فلسفي


