مقالات وآراء
بين الشعارات والواقع: هل تكفي المظاهرات لوقف نزيف الدماء؟// رانية مرجية
- تم إنشاءه بتاريخ الثلاثاء, 23 أيلول/سبتمبر 2025 20:34
- كتب بواسطة: رانية مرجية
- الزيارات: 72
رانية مرجية
بين الشعارات والواقع: هل تكفي المظاهرات لوقف نزيف الدماء؟
رانية مرجية
منذ عقود طويلة، لم يغب مشهد المظاهرات عن واقعنا العربي. فمع كل حرب تشتعل أو مجزرة تُرتكب أو ظلم يقع، تخرج الحناجر الغاضبة، وترتفع اللافتات، وتتدفق الجماهير في الشوارع، مطالبة بالحرية، بالعدالة، وبوقف نزيف الدماء. ولعل هذه الصورة، بكل ما تحمله من حرارة وعاطفة، تبدو وكأنها المشهد الأكثر صدقًا في التعبير عن غضب الشعوب. لكنها، وبكل أسف، لم تكن يومًا كافية لوقف الرصاص أو إسكات المدافع أو إجبار المعتدين على التراجع.
فهل يكفي أن نرفع الشعارات ونسير في الشوارع؟ هل يكفي أن نصدر البيانات ونكتب المقالات الاستنكارية؟ الجواب المؤلم هو: لا. فالمجرمون الذين يقتلون بدم بارد لا يتأثرون بشعاراتنا، والأنظمة التي تبني مصالحها على الدماء لا تكترث بصرخاتنا. العالم تغيّر، ومعادلات القوة أصبحت أكثر تعقيدًا، وما لم ندرك أن الغضب الشعبي وحده لا يُوقف الحروب، فسنبقى ندور في دائرة مفرغة، نعيد المشهد ذاته مرة تلو الأخرى: دماء تُسفك هنا، وبيانات شجب هناك.
قوة الشعارات وحدودها
لا أحد ينكر أن المظاهرات تملك رمزية كبيرة. فهي تذكّر بأن الشعوب لم تمت، وأن هناك صوتًا رافضًا للظلم والقهر. هي صرخة تقول للعالم: “نحن هنا، نشهد ونرفض”. لكن هذه الصرخة تبقى بلا جدوى إذا لم تتحول إلى فعل منظم، إلى مشروع يترجم هذا الغضب إلى خطوات ملموسة. فكم من مرة امتلأت الساحات بالمتظاهرين، وعاد الناس إلى بيوتهم آخر النهار، بينما آلة الحرب استمرت في عملها وكأن شيئًا لم يحدث؟
المظاهرات وحدها أشبه بجرس إنذار يدوي ثم يصمت، بينما النيران تواصل التهام البيت. إنها تنبه، لكنها لا تُطفئ الحريق.
الحاجة إلى أدوات أكثر فاعلية
ما نحتاجه اليوم هو الانتقال من الغضب العاطفي إلى الفعل العقلاني. هنا تكمن مسؤولية الجمعيات والهيئات والمنظمات المدنية: أن تبحث عن حلول منطقية وفعّالة توقف سفك الدماء.
الحلول كثيرة، لكنها تحتاج إلى إرادة واستراتيجية:
الوساطة السياسية: بدلاً من الاكتفاء بالبيانات، لا بد من إطلاق مبادرات وساطة جادة تفرض على أطراف النزاع الجلوس إلى طاولة الحوار.
الضغط الاقتصادي: العالم اليوم تحكمه المصالح. حين تتحرك الشعوب لاستهلاك بدائل، أو لمقاطعة اقتصادية منظمة، يمكن أن يتأثر صانعو القرار أكثر مما يتأثرون بصوت المظاهرات.
التحرك القانوني: توثيق الجرائم وإيصالها إلى المحاكم الدولية، وفضح المجرمين بالأدلة، يمنح الشعوب قوة قانونية لا يمكن تجاهلها.
صناعة رأي عام عالمي: الإعلام لم يعد محليًا. الضغط على المنصات العالمية، والتواصل مع الرأي العام في الدول المؤثرة، يمكن أن يحوّل صرخة الشارع إلى قوة ضاغطة على الحكومات.
من ردّ الفعل إلى الفعل
المشكلة الكبرى في مظاهراتنا أنها غالبًا رد فعل، وليست فعلًا استباقيًا. ننتظر حتى تقع الكارثة، ثم نخرج للشجب والتنديد. لكن ماذا لو تحولت طاقة الشارع إلى مشروع دائم؟ ماذا لو كانت هناك لجان تنسق الجهود، وتحوّل الغضب إلى خطط ضغط مستمرة، لا تنتهي بانتهاء يوم المظاهرة؟
إن القوى التي تدير الحروب تفهم لغة المصالح، لا لغة العواطف. وإذا أردنا أن نكون مؤثرين، فلا بد أن نتحول من حالة الانفعال إلى حالة الفعل، من الشعارات إلى المشاريع، ومن المظاهرات العابرة إلى استراتيجيات طويلة الأمد.
الصرخة الأولى لا تكفي
لا أحد يستخف بقيمة المظاهرات. فهي التعبير الأول، وهي الصرخة التي تفتح الأعين وتوقظ الضمائر. لكنها، إن لم تتبعها خطوات عملية، تتحول إلى صدى يتلاشى في الهواء. الشعوب التي تكتفي بالمظاهرات تظل تدور في دائرة الإحباط: تغضب، تخرج إلى الشارع، تعود إلى البيوت، ثم ترى المشهد يعاد من جديد.
لذلك، فإن مسؤوليتنا جميعًا ــ كمثقفين، كصحفيين، كأفراد في المجتمع المدني ــ أن نطالب بما هو أكثر من الشعارات. أن نسأل: “وماذا بعد؟”. أن نضغط على الجمعيات والمؤسسات لتطرح خططًا ملموسة، أن نخلق ثقافة جديدة ترى في الغضب طاقة يجب استثمارها، لا مجرد زفرة تنتهي بانتهاء اليوم.
خاتمة
إن المظاهرات قد تُشعرنا أننا فعلنا ما نستطيع، لكنها لا تكفي لوقف سفك الدماء. التاريخ علمنا أن التغيير لا يحدث بالصوت وحده، بل بالفعل المنظم، بالاستراتيجيات الذكية، وبالإصرار على تحويل الصرخة إلى مشروع حياة.
فلنترك دائرة الشجب والتنديد وحدها، ولنبحث معًا عن حلول منطقية، عملية، وفعّالة. عندها فقط يمكن أن يتحول الغضب الشعبي من عاطفة عابرة إلى قوة توقف آلة القتل وتفتح طريقًا نحو العدالة والسلام