اخر الاخبار:
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

هل يمكن للآلة أن تصبح مؤرخا بديلا عن الإنسان؟// عبده حقي

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

عبده حقي

 

عرض صفحة الكاتب 

هل يمكن للآلة أن تصبح مؤرخا بديلا عن الإنسان؟

عبده حقي

 

لقد امتد النقاش عن الذكاء الاصطناعي إلى ميادين أكثر حساسية تتعلق بالمعنى والذاكرة والهوية. ومن أكثر هذه الميادين إثارة للجدل مسألة كتابة التاريخ: هل يمكن للآلة أن تحل محل المؤرخ، فتسرد الماضي وتفسره، بل وتتصور سيناريوهات بديلة لما كان يمكن أن يقع؟

 

يمتلك الذكاء الاصطناعي قدرة خارقة وغير مسبوقة على معالجة كميات هائلة من البيانات في وقت قياسي، فيقرأ ملايين الوثائق ويقارن بين الأحداث ويستخرج أنماطا دقيقة من بين التفاصيل المتناثرة. ومما لاشك فيه أن هذه القوة الحسابية تمنحه أفضلية في الوصول إلى الروابط الخفية التي قد تغيب عن عيون الباحثين، وتتيح له أن يقترح تصورات جديدة للكيفية التي جرت بها بعض الأحداث. بل إنه قادر على بناء محاكاة "تاريخ بديل"، وكأننا أمام مختبر تجريبي للماضي.

 

لكن التاريخ ليس مجرد سلسلة من الوقائع الجامدة أو تواريخ محفوظة في الأرشيفات، بل هو أيضا حكاية كبرى تشتبك فيها الذاكرة الجماعية مع العاطفة الإنسانية، ويصوغها المؤرخ وفق منظومة قيمية وفلسفية. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل تستطيع الآلة أن تمنح هذه الحكاية المعنى الذي يليق بها؟

 

أخطر ما يواجه كتابة التاريخ بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي هو انحياز المصادر. فالآلة لا تبتكر مادة جديدة، بل تعتمد على ما تتغذّى به من وثائق وأرشيفات. وإذا كانت هذه المصادر تُمثل رؤية أحادية أو رواية المنتصرين، فإن النتيجة ستكون إعادة إنتاج ذلك الانحياز وإقصاء أصوات الشعوب المهمشة.

 

إضافة إلى ذلك، يظل غياب الحس الإنساني عائقا جوهريا. فالتاريخ مليء بالآلام والخسارات والآمال، وهذه ليست مجرد بيانات، بل تجارب عاشتها البشرية كاملة. والآلة تستطيع أن تحصي عدد الضحايا في حرب ما، لكنها تعجز عن نقل وقع الصرخة الأخيرة لجندي قتيل في الميدان، أو دمعة أم فلسطينية على ابنها المفقود. وهنا المعنى الإنساني يتجاوز الحساب، وهو ما يجعل المؤرخ الإنسان في موقع لا يمكن تعويضه.

 

هناك أيضا هاجس التوظيف السياسي. فالتاريخ ظل دوما مجالا للصراع بين السرديات الرسمية والروايات المعارضة. وإذا ما استُخدم الذكاء الاصطناعي في يد سلطة معينة، فقد يتحول إلى أداة لإعادة كتابة الماضي بما يخدم أهدافها، فيُمحى ما لا ينسجم مع خطابها، ويُضخم ما يعزز مشروعها. وهنا تكمن خطورة أن يصبح الذكاء الاصطناعي مجرد "بوق رقمي" للذاكرة الرسمية.

 

أمام هذه التحديات، يبدو أن الخيار الأكثر واقعية هو النظر إلى الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة للمؤرخ، لا كبديل عنه. أيضا يمكن أن يكون مساعدا في التنقيب عن المصادر، أو في رصد الأنماط الزمنية، أو في اقتراح فرضيات جديدة، لكنه لا يستطيع أن يمنح التاريخ تلك الروح الإنسانية التي تتجاوز جمع المعطيات.

 

قد يكون المستقبل شاهدا على تعاون غير مسبوق بين المؤرخ والآلة، حيث يقوم الأول بدور المفسر والناقد والراوي، بينما يتولى الثاني مهمة التنقيب والتحليل والتصنيف. لكن الحكاية النهائية ستظل بيد الإنسان، لأنه وحده القادر على أن يمنح للتاريخ صوته ودمه ومعناه.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.