مقالات وآراء
التطور الأخلاقي والقتل الإنساني!// د. ادم عربي
- تم إنشاءه بتاريخ الثلاثاء, 18 تشرين2/نوفمبر 2025 20:25
- كتب بواسطة: د. ادم عربي
- الزيارات: 138
د. ادم عربي
التطور الأخلاقي والقتل الإنساني!
د. ادم عربي
لم تبلغ البشرية، رغم كل ما تدعيه من رقي حضاري وتطور إنساني وديمقراطي، مرتبة تحريم القتل تحريما مطلقا. بل إن التجربة التاريخية تشير إلى أن هذا السقف الأخلاقي لم يقترب منه الإنسان يوما، وربما لن يقترب منه أصلًا. فالمجتمعات، مهما بدت إنسانية في خطابها، ما زالت تعتبر القتل جزءا عضويا من بنيتها: أداةً للحفاظ على النظام، ووسيلةً لإعادة توزيع السلطة، وشكلا من أشكال تحديد مسار التقدم كما تتصوره كل حضارة.
التاريخ الإنساني، إذا نظرنا إليه بلا زينة خطابية، يكشف أن قتل الإنسان لإنسان آخر لم يكن يوما مجرد انحراف، بل كان بوعي أو من غير وعي رافعةً من روافع التحول الاجتماعي. فكل مرحلة من مراحل التطور البشري أعادت صياغة مفهوم القتل، لا لتلغيه، بل لتمنحه شرعية جديدة: مرة تحت عنوان العدالة، وأخرى باسم الشرف، وثالثة بذريعة الدفاع عن الحرية، ورابعة باسم خلاص البشرية نفسها.
والأدهى أن الثقافة أي المخيال الذي يصوغ قيم الناس ومعاييرهم لم تكتفِ بتبرير القتل، بل ذهبت في كثير من الأحيان إلى تمجيده، ورفعه إلى مرتبة السمو الأخلاقي. فكم من قاتل صُنعت منه أسطورة، وكم من حرب صُورت باعتبارها ضريبة لا بد منها للتقدم، وكم من دم سُفك ليُقال إن صاحبه حمل رسالة أو أقام الحق أو دافع عن جوهر الإنسانية.
بهذا المعنى، لا يظهر القتل كفعل استثنائي داخل التاريخ، بل كآلية متكررة لإعادة إنتاج الحضارة ذاتها. وكأن الإنسان، وهو يسعى إلى الارتقاء، لم يجد سبيلا لذلك إلا عبر تحويل الموت إلى أداة، والقتل إلى قيمة قابلة للتأويل، بل وإلى رمز يُحتفى به حينا ويُقدم مثالا يُحتذى به حينا آخر.
يبقى السؤال القديم المتجدد: هل قتل الإنسان للإنسان فعل محرم أم مباح؟ هل هو جريمة تستدعي العقاب أم بطولة تُرفع إلى مرتبة المآثر؟ كثيرونومن بينهم مفكرون وفلاسفة يتعاملون مع هذا السؤال كما لو أنه سؤال من طبيعة ميتافيزيقية عائمة: من طراز هل المطر نافع أم ضار؟. فالمطر، ليس خيرا مطلقا ولا شرا مطلقا؛ إنه نافع في ظروف، وضار في أخرى. وانطلاقا من هذه المقارنة الساذجة في ظاهرها، الخطرة في حقيقتها، يُبنى رأيٌ مفاده: لا وجود لحكم مطلق على القتل، بل المهم هو تحديد متى يصبح القتل فعل خير، ومتى يتحول إلى فعل شر.
هذا المنطق، الذي يبدو عقلانيا للوهلة الأولى، يُخفي في طياته جوهر المسألة: أنه يسمح بتحويل القتل إلى مفهوم نسبي، قابل للتطويع وفق حاجة السلطة والثقافة والمجتمع. وبموجب هذه النظرة، لم يعد السؤال عن شرعية القتل سؤالا أخلاقيا جذريا، بل سؤالا ظرفيا يقرره المنتصرون، أو يحدده السبب الذي تُرفَع تحت رايته السيوف.
ومن هنا بدأ الإنسان، عبر تاريخه الطويل، بإنتاج منظوماتٍ أخلاقية كاملة ،أعراف، شرائع، نظريات فلسفية، وقوانين لا بهدف منع القتل، بل بهدف تسويغه. فمن أجل أن يبدو القتل مشروعا، كان لا بد من صناعة أخلاق خاصة به: أخلاق تبرر الحرب باسم الحق، والاغتيال باسم العدالة، والإعدام باسم حماية المجتمع، والانتقام باسم الشرف، و الإبادة أحيانا باسم النجاة أو الخلاص .
وهكذا، بدل أن يثور الإنسان على فكرة القتل ذاتها، اجتهد في تهذيبها لغويا، وتلميعها رمزيا، وإلباسها ثوبا أخلاقيا يناسب الحاجة التاريخية لكل مجتمع. وكأن البشرية لم تتعلم سوى درس واحد: ليس المهم أن يُمنع القتل، بل أن يُعاد تعريفه كل مرة بحيث يبدو صائبا في اللحظة التي يحتاجه فيها أصحاب القوة.
أشعلت الحروب، ولا تزال، سجالا أخلاقيا لا يكاد يخبو. ومع أن الجدل يحتدم في كل اتجاه، إلا أن المتخاصمين يتفقون في الحد الأدنى على مبدأ واحد يكاد يبدو بديهيا: الدفاع عن النفس حق مشروع، بل وضرورة لا يعترض عليها أحد. غير أن هذا الإجماع الهش ما يلبث أن يتفكك لحظة يُطل السؤال العملي: ما الذي يندرج فعليا تحت عنوان الدفاع المشروع عن النفس؟
هنا تبدأ التعقيدات. فحين ينتقل النقاش من العموميات المطمئنة إلى الوقائع الملموسة، يتبين أن المبدأ ذاته قابل للتأويل حد التناقض. فالمجرم الهارب أو السارق، مثلا، قد يلجأ إلى القوة لدرء خطر يهدده، وقد يقتل من يحاول القبض عليه. فهل يُعتبر قتله هذا دفاعا مشروعا عن النفس؟ وإذا كان أحدهم يدافع عن نفسه، لكنه في ميزان الأخلاق العامة شخص لا يستحق الحياة أصلًا بسبب جرائم سابقة، فهل يبقى دفاعه مشروعا، أم يصبح مجرد محاولة للفرار من عدالة مؤجلة؟
يتّضح هنا أن الاتفاق على المبدأ شيء، وتطبيقه شيء آخر تماما. فالناس يجمعون بسهولة على العنوان الكبير، لكنهم يفترقون عند التفاصيل التي تكشف أن الحق في الدفاع عن النفس ليس معيارا أخلاقيا ثابتا، بل ساحة صراع بين تبريرات مختلفة، تُعاد صياغتها بحسب الموقع الاجتماعي، والسلطة، والرمزية الأخلاقية للشخص المعني. وكأن المجتمع لا يتفق على مشروعية الدفاع، بل على صورة الدفاع التي يريد أن يراها في كل حالة، وهي صورة تتغيّر بتغيّر من يحمل السلاح، لا بتغيّر المبدأ ذاته.
إن مفهوم الحق المشروع في الدفاع عن النفس يفقد الكثير من معناه ما إن نواجه نتائجه الفعلية في الواقع. فكيف يمكن اعتبار هذا الحق ثابتا ومقدسا إذا كانت إحدى عواقبه المحتملة وربما الضرورية أحيانا هي ارتكاب فعلٍ يُعدّ في القوانين جريمة يعاقَب عليها صاحبها؟ إن التناقض يبدو فاضحا: يُطالب الفرد بالدفاع عن نفسه كي يحمي حياته، ثم يُدان لأنه استخدم القوة الوحيدة التي كانت متاحة له لحماية تلك الحياة.
فالدفاع عن النفس، في ظروفه القصوى، ليس نقاشا أخلاقيا مجردا، بل لحظة اشتباك تُجبِر المدافع، أحيانا، على اللجوء إلى القتل. ومن دون الاعتراف بهذه الحقيقة الواقعية، يتحول مفهوم الدفاع إلى شعار فارغ: نمنح الإنسان حقا نظريا بالدفاع، ثم نحاسبه على ممارسته عندما تتخذ شكلها الطبيعي في وضع يهدده بالموت.
وبذلك يصبح السؤال الأساسي: هل يمكن أن نمنح حقا ما ثم نجرّمه في اللحظة التي يُفَعَّل فيها؟ وإذا كان الدفاع عن النفس قد يقود بحكم الضرورة إلى القتل، فهل يظل القتل هنا جريمة؟ أم يصبح جزءا لا ينفصل عن ممارسة هذا الحق؟ إن تجاهل هذه المفارقة لا يلغيها، بل يكشف أن الخطاب الأخلاقي حول المشروعية يظل، في كثير من الأحيان، منفصلاً عن شروط الحياة الواقعية التي تفرض على الفرد اتخاذ قرار حاسم بين أن يَقتل أو يُقتل.
من البديهي أن ندرك أن كثيرا من الناس لا يرون القتل الذي يرتكبونه كما نراه نحن من موقع القانون أو الأخلاق؛ فالفعل الذي نصنّفه جريمة قد يراه مرتكبه امتدادا طبيعيا لحقه في الدفاع عن نفسه. فالمسألة بالنسبة إليه ليست قتلا متعمّدا لذاته، بل خطوة اضطرارية لدرء خطر يتصوّر أنه يهدد وجوده أو مصالحه.
والواقع أن «القاتل» في معظم الحالات لا يتخيّل نفسه قاتلا. فهو لا ينهض من فراشه وفي ذهنه رغبة واعية في إزهاق روح بشرية، بل يتحرك تحت ضغط شعور داخلي بأن حياته أو كيانه أو مكانته باتت في خطر. لكن المشكلة أن مفهوم النفس نفسه ليس مفهوما نقيا أو بسيطا؛ فالإنسان غالبا ما يخلط بين الدفاع عن حياته بالمعنى الصارم، وبين الدفاع عن مصالحه، أو سلطته، أو امتيازاته، أو صورته الذاتية. وهكذا يصير الخط الفاصل بين ما هو بقاء بيولوجي وما هو امتياز اجتماعي خطا ضبابيا، يسمح بتوسيع دائرة الدفاع عن النفس إلى حدّ تبرير القتل بوصفه حقا مشروعا لا جريمة.
وبهذا المعنى، يصبح الادعاء بالدفاع عن النفس ليس مجرد تبرير ما بعد الفعل، بل طريقة يفكر بها الفرد قبل ارتكابه القتل، وكأنها آلية نفسية وثقافية تحوّل العنف إلى رد فعل مشروع، وتجعل الفاعل يرى نفسه ضحية لا معتديا. والنتيجة أن المجتمع يجد نفسه أمام مفارقة: فكل قاتل تقريبا يدّعي أنه لم يقتل إلا لأنه كان مضطرا لإنقاذ ذاته، في حين أن هذه الذات قد لا تكون سوى مجموع مصالحه وامتيازاته التي ارتبطت في وعيه بهويته وحقه في الوجود.
انطلاقا من كل ما سبق، يصبح الاستنتاج شبه حتمي: إن مصالحنا الواقعية لا المبادئ المعلنة ولا القيم المتداولة هي التي تحدد موقفنا الأخلاقي من فعل القتل. فالقتل، في ميزان المصلحة، يتحول بسهولة من جريمة إلى حق ، ومن فعل مدان إلى مأثرة تستحق الاحتفاء، ما دام يخدم ما نعدّه نحن جوهر وجودنا ومكاسبنا ومواقعنا.
وبما أن المصالح الواقعية ليست دائما قابلة للتبرير العلني، إذ قد تكون فردية أو فئوية أو سلطوية، يلجأ الإنسان إلى تمويهها بغلاف أخلاقي أو إنساني أو ديمقراطي أو أيديولوجي. فالمصلحة، كي تُقنع الآخرين، تحتاج إلى قناع: قناع القيم والمبادئ، وربما إلى ذرائع ثقافية أو وطنية أو دينية تُكسب الفعل القاتل مشروعية مُصطنعة. بل قد تحتاج إلى تعبئته بشحنة من العصبية الجماعية؛ فالعقل لا يكفي، ويجب استثارة العاطفة لتكتمل دائرة التبرير.
وهكذا، حين تشير مصالحنا الواقعية إلى أن شخصا ما يجب التخلص منه، لا نكتفي بقرار التخلص؛ بل نبني له «صورة» كاملة: صورة أخلاقية وفكرية تُظهره خطرا على الجماعة، أو عائقا أمام العدالة، أو تهديدا للقيم العليا. وبمجرد أن تكتمل هذه الصورة، يصبح قتله فعلًا يبدو، في نظر الجمهور، واجبا أخلاقيا، بل وخيرا عاما. عندئذٍ يتبدل موقع القاتل في الوعي الاجتماعي: من مجرم محتمل إلى بطل أو محرّر أو صاحب قضية، يحصل على مكافأة معنوية وربما مادية لمجرد أنه نفّذ ما تتطلبه المصلحة وقدمها في هيئة فعل حميد.
بهذا المعنى، ليست الأخلاق هي التي تصوغ المصلحة، بل المصلحة هي التي تصوغ الأخلاق، وتعيد ترتيب مفاهيم الخير والشر بحيث تخدم الحاجة الواقعية، لا المبادئ المجردة.
وفي ميدان السياسة، حيث تُعد الحرب الأداة الأكثر فاعلية وإن كانت الأكثر دموية لإعادة تشكيل الواقع، يصبح فهم الدوافع الحقيقية لأي حرب مهمة شبه مستحيلة. فالأسباب الواقعية تُخفى دائما خلف ستار كثيف من الشعارات الأيديولوجية التي تُصاغ بعناية لتجعل الحرب تبدو ضرورة تاريخية أو واجبا أخلاقيا. وهكذا يُطمس الدافع الفعلي، فلا تلتقطه عين الناظر، ولا تستوعبه بصيرته.
وعندما يطرح الناس السؤال البديهي: لماذا اندلعت الحرب؟ تأتي الإجابات جاهزة، مصنوعة على مقاس حاجتهم النفسية: إجابات مريحة، مُطمئِنة، تفسر الصراع ضمن إطار أسطوري أو قومي أو ديني أو إنساني. وهذه الأجوبة، على هشاشتها، تحظى بالقبول لأنها تنسجم مع العصبية الجمعية التي تحكم وعي الجماهير، أو لأنها تتوافق مع السردية الرسمية التي لا يجرؤ كثيرون على مناقضتها.
أما الإجابات التي تحاول الاقتراب من الدوافع الواقعية دوافع المصالح، والهيمنة، وإعادة توزيع القوة فهي تُواجه بالرفض والسخرية. وقد يُنظر إلى أصحابها بوصفهم حمقى أو خونة أو سطحيين ، لا لشيء إلا لأنهم يصرون على كشف ما يُراد له أن يبقى مستورا. فالحرب، في نظر السلطة التي تشنها، لا يجوز أن تُرى كصراع مصالح، بل يجب أن تُقدّم كقدر تاريخي أو معركة قيم أو دفاع عن الوجود.
وهكذا، يصبح الضباب الأيديولوجي جزءا من بنية الحرب نفسها، لا مجرد تزيين لها. وتتحول الحقيقة الواقعية إلى عبء ثقيل، تطارد من يصر على رؤيته، بينما يلوذ غالبية الناس بالأوهام التي تمنحهم شعورا بالمعنى، وتُعفيهم من مواجهة الحقيقة المرة: أن الحرب ليست قصة أخلاقية، بل لعبة مصالح مغلّفة بشعارات سامية.
إذا شئنا تسمية الأشياء بأسمائها، فالحرب ليست سوى القتل في صورته الأكثر تنظيماً؛ هي القتل السياسي، أي تحويل العنف إلى أداة لتحقيق غاية سياسية محددة. فالسياسة، في جوهرها العميق، ليست إلا إدارة للمصالح الاقتصادية، وإلباسها ثوب الأهداف السياسية. وحين تُصاغ هذه المصالح بلغة المطالب والحقوق والأدوار الإقليمية ، يصبح الوصول إلى الهدف السياسي لعبة تتأرجح بين وسيلتين لا ثالث لهما: الإقناع والإكراه.
الإقناع هو الدبلوماسية: خطاب، تفاوض، صفقات، ضغوط ناعمة، وإشارات تُرسل للخصم لإقناعه بأن الامتثال لمطالبنا يخدمه أو يجنبه الأسوأ. هذه هي المرحلة الأولى في أي صراع سياسي. فالدول، كالأفراد، تبدأ دائما بمحاولة إقناع الطرف الآخر بأن التسوية أفضل من المواجهة.
لكن ماذا يحدث عندما يرفض الخصم نصائح الحكمة ويُبالغ في العناد؟ هنا يكشف منطق السياسة عن وجهه الصريح: فإخفاق الدبلوماسية لا يعني توقف السعي إلى الهدف، بل يعني ببساطة الانتقال إلى الوسيلة الأخرى الإكراه. وهذا الإكراه ليس مجازا، بل هو الحرب بكل ما تحمله من عنف ودمار. الحرب ليست انقطاعا عن السياسة، بل استمرار لها بوسائل أشد قسوة، كما أوضح كلاوزفيتز. إنها اللغة التي تلجأ إليها الدول عندما تفشل الكلمات في إخضاع الخصم أو تطويعه.
وبهذا المعنى، تصبح الحرب لحظة يُسفِر فيها المنطق السياسي عن طبيعته الأصلية: إذا لم تستطع إقناعه، فأرغمه. وإذا لم تجد الحجة، فالسلاح هو الحجة البديلة. والهدف في الحالين واحد: تحقيق المصلحة الاقتصادية التي ترتدي قناع الهدف السياسي.
إذا، الحرب ليست حادثا عارضا في تاريخ السياسة، بل هي جزء من بنيتها نفسها؛ مرحلة متقدمة من مسارٍ يبدأ بالدبلوماسية ولا يتردد في أن ينتهي بالمدفع. وهكذا يتكامل الإقناع والإكراه كوجهين لعملة واحدة، يجتمعان في السعي المحموم نحو الهدف السياسي الذي لا يتغير، بل تتغير الوسيلة فقط حين يُغلق الخصم باب التفاهم.
إن ما يُسمى العجز الدبلوماسي ليس مجرد إخفاق في المفاوضات أو تراجع في لغة الإقناع، بل هو اللحظة التي تُرفع فيها الأقنعة عن طبيعة السياسة ذاتها. فعندما تستنفد الدبلوماسية وسائلها الناعمة ولا تُفلح في جعل الخصم يخضع للمطالب المطروحة، تولد بصورة تلقائية الحاجة إلى الانتقال نحو القتل السياسي ، أي الحرب بوصفها وسيلة إكراه قصوى تحقق ما عجز عنه المنطق والخطاب.
بهذا الفهم، لا تكون الحرب حدثا طارئا أو انحرافا عن المسار السياسي، بل نتيجة مباشرة لفشل أدوات السياسة الأولى. إنها الوجه الآخر، الخشن والصريح، لذات العملية التي تبدأ بالكلمات والرسائل والوعود والتهديدات، ثم تنتهي بصوت البندقية عندما تفشل اللغة.
ومن هنا يمكن النظر إلى السياسة، ليس فقط بوصفها فن إدارة المصالح ، كما تروج لها الكتب، بل باعتبارها في لحظاتها القصوى فن تنظيم القتل الجماعي. فالدولة حين تدخل حربا لا تفعل سوى توسيع نطاق سلطتها على الحياة والموت، وتوظيف العنف بوصفه جزءا من أدواتها المشروعة لتحقيق أهدافها.
إن الحرب، إذن، ليست خروجا عن السياسة، بل أحد أشكالها؛ والسياسة ليست نقيض العنف، بل هي الإطار الذي يشرعن العنف حين تتعطل قنوات التفاهم بل هي فن القتل. وبقدر ما تكشف الدبلوماسية عن أناقة السياسة، تكشف الحرب عن حقيقتها العارية: القوة التي تحدد مصير البشر جماعات وأفرادا.


