مقالات وآراء
يحيى الربيعي شاعر المنتهى وإشراقات الأزل// محمد علي محيي الدين
- تم إنشاءه بتاريخ الثلاثاء, 04 تشرين2/نوفمبر 2025 19:20
- كتب بواسطة: محمد علي محيي الدين
- الزيارات: 322
محمد علي محيي الدين
يحيى الربيعي شاعر المنتهى وإشراقات الأزل
محمد علي محيي الدين
في دروب الحلة العتيقة، حيث يتعانق الطين مع ضوء الفجر، ويمشي النخل شاهقًا كأنه يحرس القصيدة، ولد يحيى حسن حسين الربيعي عام 1946 في محلة الطاق، وتفتّح وعيه على إيقاع جبران والرصافي والسيّاب، لكنه اختار منذ البدء طريقًا لا يعبده المجاز، بل تعبّده الرؤيا، وتظلّله نخلة حزينة تسمى العراق.
لم يكن يحيى شاعرًا طارئًا في زمن الشعر، بل كان ابنًا شرعيًا لمدرسة غنية بالعنفوان والموقف، فدراسته للأدب في جامعة بغداد أواخر الستينيات، التي كانت آنذاك ميدانًا للفكر والتجريب، مكّنته من التماس المباشر مع أساتذة كبار، مثل >ز عبد الرزاق محيي الدين، شفيق الكمالي، ومدني صالح، وأحمد مطلوب، فغُذّي بحبر الكلاسيك والحداثة معًا. وعلى مقاعد الدرس، كان زملاؤه شعراء المستقبل، ومنهم جبار الكواز، وعائد خصباك، وموفق أبو خمرة، فأصبحت قاعة الدرس بحدّ ذاتها صالونًا أدبيًا فريدًا، يتنفس القصيدة، ويشتبك مع قضايا الأمة.
الصحفي الذي عشق القصيدة
قبل دخوله كلية الآداب، قصد القاهرة، وفيها نال دبلومًا في الصحافة من المعهد الدولي، وركّز دراسته في السياسة الدولية، وكأنّه منذ البداية يريد أن يجعل من الشعر مرآةً للأحداث، ومن القصيدة سلاحًا للموقف، لا ملاذًا للعزلة. وقد عرف في هذه الفترة بانخراطه المبكر في الحياة السياسية، حيث انتمى للفكر القومي الناصري، وكان لالتزامه أثر كبير في مسيرته الأدبية والمهنية، إذ تعرّض للاعتقال أكثر من مرة بسبب مواقفه التي لم تكن تُساوم، ولا تُوارب.
لم تكن القصيدة لدى الربيعي مساحة ترف جمالي، بل كانت أرضًا للصراع، ومنبرًا للحق. وقد حمل هموم وطنه مثلما يحمل العاشق وردة محترقة، لا تنطفئ مهما اشتدت العواصف. كتب عن العراق، لا بوصفه جغرافيا، بل بوصفه كائنًا حيًا يُجلد ويُهان ويُقاوم ويُغنّى.
إشراقات شاعر منفي
لعل أبرز ملامح تجربة يحيى الربيعي الشعرية تتجلى في سلسلته الشعرية الفريدة التي عنونها بـ"الإشراقات"، وهو عنوان ليس عابرًا، بل مكثفٌ لرؤيته في الكتابة والحياة. ففي:
*"إشراقات بابلية" (2006)، عاد إلى الحلة روحًا وتاريخًا، واستنطق ماضيها ليعيد للحاضر جذوره.
*وفي "إشراقات الدينونة" (2007)، حمل لغة النبوءة، مستلهمًا التوراة والقرآن والآلام الإنسانية، في شعرية تقف عند تخوم القيامة.
*أما في "إشراقات عراق الأزل" (2008)، فقد كتب نشيدًا طويلًا لوطن ينزف، ووطن لا يموت، محمّلاً القصيدة بنَفَسٍ ملحمي حزين.
*وفي "إشراقات شجرة المنتهى" (2008)، بلغت صوفيته ذروتها، حيث اختلط المأساوي بالروحي، والسياسي بالميتافيزيقي، فكانت قصائده كمن يُصلي على أطلال وطن، وفي قلبه قبس من رجاء.
منفى الجسد وحضور الروح
في السنوات الأخيرة من حياته، رحل يحيى إلى جورجيا، بلد ناءٍ لا يجيد لغة روحه، لكنه اختاره مرغمًا، كما يختار الشاعر منفاه حين تضيق عليه اللغة، ويضيق به الوطن. وهناك أسلم الروح عام 2019، ودفن بعيدًا عن نخيله ونهره وأزقته. لكن جسده الغريب لم يمنع روحه من الحضور. فقد أقام اتحاد أدباء وكتاب بابل أمسية استذكارية له، استعاد فيها أصدقاؤه سيرته، وقرأوا نصوصه، وتحدثوا عن مكانته بين شعراء العراق.
قال عنه أحد النقاد في تلك الأمسية: "كان يكتب بقلب سياسي ولسان صوفي، ويُسكب الوطن في قصائده كما يُسكب الحزن في كؤوس الزاهدين." وقال آخر: "يحيى الربيعي من أولئك الشعراء الذين لا تعنيهم الحداثة شكلاً، بل تعنيهم جوهرًا، فكان يعجن رموزه بالدم والملح والتراب."
مكانته بين الشعراء
لم يكن الربيعي شاعرًا يبحث عن صدارة أو يركض خلف الجوائز، بل ظلّ طيلة حياته وفيًا لقصيدته كما هو وفيٌّ لمبادئه. لذا حظي باحترام كبير من مجايليه، الذين رأوا فيه شاعرًا مختلفًا، لا يكرر أحدًا، ولا يتبع مدرسة، بل يشكّل عالمه الشعري الخاص، حيث تلتقي "البابلية" بالحلم القومي، وتتمازج الغنائية العذبة بالرؤية النقدية المريرة.
وقد كتب بعض النقاد عنه بأنه "من الشعراء القلائل الذين حافظوا على حرارة الانتماء دون أن يضحّوا برهافة الشعر."، فيما شبّهه آخرون بـ"سادن الحزن العراقي"، لما في شعره من صدق عاطفي ونبرة وداع لا تنتهي.
إشراقات لم تُطفأ
يحيى الربيعي لم يمت في جورجيا، بل وُلد هناك مرة أخرى، بوصفه شاعر المنتهى، الذي حمل صوته حتى آخر الجغرافيا، ودفن جسده ليبقى صوته. كان يكتب كما يصلّي، ويهتف كما يبكي، وفي كل قصيدة له ظلٌّ من وطن، ودمعةٌ من نخلة، ودمٌ من شهيد.
لقد ترك لنا ديوانًا من الحنين، ودفترًا من النبوءة، وصوتًا لا يزال يردد في المنفى:
"يا عراق، إن متُّ في المنفى... فاحملوني إليك... ولو على أجنحة القصيدة."


