مقالات وآراء
الأراضي العراقية الممنوحة أو المفقودة: قراءة في واقع الجغرافيا السياسية والتاريخ المعاصر// ناظم زغير التورنجي
- تم إنشاءه بتاريخ الأربعاء, 05 تشرين2/نوفمبر 2025 10:46
- كتب بواسطة: ناظم زغير التورنجي
- الزيارات: 62
ناظم زغير التورنجي
الأراضي العراقية الممنوحة أو المفقودة:
قراءة في واقع الجغرافيا السياسية والتاريخ المعاصر
ناظم زغير التورنجي
منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، واجه العراق سلسلة من المفاوضات الحدودية المعقدة مع جيرانه — تركيا، إيران، الكويت، والسعودية — بسبب موقعه الجغرافي الحساس وتداخله التاريخي مع الإمبراطوريات السابقة.
هذه المفاوضات أدت أحياناً إلى تعديلات أو خسارات في مساحات من الأراضي، إما عبر اتفاقيات دولية أو تحت ضغوط سياسية وظروف إقليمية مضطربة.
أولاً: مع تركيا — إرث العهد العثماني واتفاقية لوزان
بعد انهيار الدولة العثمانية واحتلال بريطانيا للعراق، ظهرت مشكلة ولاية الموصل (شمال العراق حالياً)، حيث طالبت تركيا الحديثة بضمها إليها بعد الحرب العالمية الأولى، مدعية أن أغلب سكانها من الأتراك والكرد.
النتيجة
تم تسوية النزاع عام 1926 عبر اتفاقية أنقرة بين بريطانيا (نيابة عن العراق) وتركيا، وبموجبها أُلحقت الموصل رسمياً بالعراق مقابل أن يحصل الجانب التركي على حصة من عائدات نفط الموصل لمدة 25 سنة.
- في المقابل، احتفظت تركيا بأراضٍ حدودية صغيرة في مناطق جبلية كانت محل نزاع قرب زاخو والعمادية.
- منذ ذلك الوقت، بقيت الحدود التركية-العراقية من أكثر الحدود استقراراً نسبياً، رغم التوغلات العسكرية التركية المتكررة ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق.
ثانياً: مع إيران — من “شط العرب” إلى اتفاقية الجزائر 1975
الحدود بين العراق وإيران تمتد لأكثر من 1400 كم، وتشمل مناطق جبلية وأنهاراً وروافد، أبرزها شط العرب الذي يتكوّن من التقاء نهري دجلة والفرات في الجنوب.
كان شط العرب يُعد عراقياً بالكامل بموجب اتفاقية 1937 بين البلدين، لكن إيران اعتبرت لاحقاً أن الاتفاق “غير منصف”.
أزمة السبعينيات
في ظل توتر العلاقات خلال حكم الشاه، دعمت إيران الحركات الكردية شمال العراق، فاضطر النظام العراقي (البعثي آنذاك) إلى التفاوض، وأسفرت المباحثات عن اتفاقية الجزائر عام 1975.
مضمون الاتفاقية ونتائجها
- حُدّد الخط الحدودي في شط العرب وفق خط التالوك (أعمق مجرى للمياه)، أي أن إيران حصلت على نصف المجرى تقريباً.
- مقابل ذلك، التزمت إيران بوقف دعمها للحركة الكردية المسلحة.
- بعد 1980، اعتبر العراق أن الاتفاق فُرض عليه “تحت الإكراه” وألغاه من طرف واحد، ما كان أحد الأسباب المباشرة لاندلاع الحرب العراقية-الإيرانية (1980–1988).
- بعد انتهاء الحرب، أعاد العراق الاعتراف بالاتفاق ضمن اتفاق وقف إطلاق النار 1990، وهو ما زال سارياً اليوم.
النتيجة
بموجب اتفاقية الجزائر، فقد العراق السيطرة الكاملة على شط العرب لصالح تقاسم السيادة مع إيران، وهو أحد أهم التغيّرات الحدودية في تاريخه الحديث.
ثالثاً: مع الكويت
— من أزمة الحدود إلى الاحتلال ثم الترسيم الدولي
الحدود الجنوبية للعراق مع الكويت كانت غامضة منذ العهد العثماني، حيث كانت الكويت تُعدّ “قضاءً تابعاً لولاية البصرة”، لكن بريطانيا منحتها استقلالاً ذاتياً في أواخر القرن التاسع عشر.
بعد تأسيس الدولة العراقية، بقيت مسألة ميناء البصرة والمنافذ البحرية حساسة للغاية.أحداث ما بعد 1990
- بعد غزو العراق للكويت في أغسطس 1990، تدخّلت الأمم المتحدة وأعادت ترسيم الحدود وفق القرار 833 لسنة 1993 الصادر عن مجلس الأمن.
- هذا الترسيم منح الكويت أجزاء من الأراضي الزراعية العراقية في صفوان وأم قصر، كما ثبّت الحدود البحرية بما قلّص من طول الساحل العراقي إلى أقل من 60 كم.
-العراق اعتبر القرار حينها مجحفاً، لكنه اعترف لاحقاً بالحدود الجديدة بعد عام 2003 في إطار التزاماته الدولية.
النتيجة
يمكن القول إن العراق خسر أجزاء من أراضيه الحدودية الجنوبية لصالح الكويت بقرار دولي، نتيجة حرب وانتهاك السيادة عام 1990، وليس عبر تفاوض مباشر.
رابعاً: مع السعودية —
اتفاقية ترسيم الحدود 1991
بعد سنوات من الخلافات حول مناطق البادية الجنوبية، تم توقيع اتفاقية ترسيم نهائية عام 1991 بين العراق والسعودية.
بموجبها تنازل العراق عن مساحة تقدَّر بنحو 7,000 كم² في منطقة “الحِيْس” و“صفوان الصحراوية”، مقابل ضمانات اقتصادية وتعاون حدودي.
رغم محدودية القيمة الاقتصادية لتلك الأراضي، إلا أن الاتفاقية أنهت أحد أطول النزاعات الحدودية بين البلدين.
خامساً: وقفة تحليلية — الأسباب والدروس
1. هشاشة الموقف العراقي
موقع العراق كدولة “حوض نهري مغلق” بين أربع دول أقوى اقتصادياً وسياسياً جعله عرضة للضغوط الإقليمية.
الاضطرابات الداخلية (انقلابات، حروب، حصار) أضعفت قدرته على الدفاع الدبلوماسي عن مصالحه الحدودية.
2. غياب الاستقرار السياسي
التحولات المتكررة في الحكم جعلت كل نظام يسعى لتسوية عاجلة مع جارٍ ما، أحياناً على حساب السيادة الجغرافية، لتأمين مكاسب سياسية أو أمنية مؤقتة.
3. تدخل القوى الكبرى
كثير من الاتفاقيات الحدودية (1926، 1975، 1993) تمت برعاية أو فرض من قوى خارجية (بريطانيا، الولايات المتحدة، الأمم المتحدة)، ما قلّل من استقلال القرار العراقي.
4. قصور التخطيط الحدودي
عدم وجود سجل وطني موحد للحدود والموارد جعل كل حكومة تتعامل مع الملفات بمعزل عن الأخرى، مما أدى إلى تكرار الأخطاء.
سادساً: آفاق المستقبل
-تثبيت الحدود عبر التعاون الإقليمي
العراق اليوم أمام فرصة لتثبيت حدوده عبر اتفاقيات اقتصادية وتنموية لا تقوم على الصراع بل على المصالح المشتركة — مثل ممر “طريق التنمية” مع تركيا والكويت.
-إعادة تفعيل الدبلوماسية القانونية
عبر اللجوء إلى التحكيم الدولي أو مراجعة بعض النقاط في ضوء التغيّرات الطبيعية (تحول مجاري الأنهار، التآكل الساحلي).
تنمية المناطق الحدودية
معالجة الفقر والتهميش في المحافظات الحدودية (المثنى، نينوى، البصرة) يقلّل من التوتر ويعزز الارتباط الوطني بالأرض.
حماية السيادة بالمؤسسات لا بالشعارات
بناء قدرات جغرافية قانونية ومؤسسات بحثية متخصصة في الجغرافيا السياسية والحدود هو أساس أي سياسة واقعية مستقبلية.
الأراضي التي فقدها العراق أو أعاد ترسيمها مع دول الجوار ليست مجرد خطوط على الخريطة، بل هي انعكاس لمسيرة قرن من الصراعات والتوازنات الإقليمية.
إن الدرس الأهم هو أن القوة التفاوضية والسيادة الجغرافية لا تُصان إلا بالاستقرار الداخلي، والرؤية الموحدة، والدبلوماسية الذكية.
وبينما لا يمكن تغيير الماضي، يمكن للعراق أن يبني مستقبله الحدودي على أساس التكامل الإقليمي والتنمية المشتركة لا على النزاعات القديمة.


