اخر الاخبار:
ليل بغداد يهتز بأصوات غامضة.. توضيح أمني - السبت, 29 تشرين2/نوفمبر 2025 20:54
ترمب يعلن إغلاق المجال الجوي فوق فنزويلا - السبت, 29 تشرين2/نوفمبر 2025 20:46
  • Font size:
  • Decrease
  • Reset
  • Increase

مقالات وآراء

صلاح عباس: العين التي أرّخت الجمال// محمد علي محيي الدين

تقييم المستخدم:  / 0
سيئجيد 

محمد علي محيي الدين

 

للذهاب الى صفحة الكاتب 

صلاح عباس: العين التي أرّخت الجمال،

والريشة التي كتبت بالنقد ذاكرة المدن

محمد علي محيي الدين

 

في مدينة الحلة، حيث تصحو الجداريات على أسماء الأولين، وتهجع الزخارف في ذاكرة الطين، وُلد الناقد والفنان التشكيلي صلاح عباس عام 1957، في محلة الجامعين، محاطًا بروح التراث، وغبار الأسواق القديمة، ونفَس الفرات الذي يشبه الهمس في صدر الشعراء. لم يكن ميلاده فقط في الحلة، بل في قلب الإبداع العراقي الذي ظل طوال حياته يرفده وينقّبه ويحميه من النسيان.

 

نشأ صلاح عباس في بيت من بيوت الأدب والفن، وكان شقيقه الأديب أحمد عباس الحلي، مما أضفى على طفولته وأحلامه طابعًا منسوجًا بالكتابة والتشكيل معًا. ومنذ بداياته، لم يكن فنانًا تقليديًا يبحث عن مجد فردي، بل كان شاهدًا بصريًا على حركة الفن في العراق، وضميرًا نقديًا يدون تحولاته بوعي وحساسية.

 

التحق بمعهد الفنون الجميلة وتخرج في قسم الكرافيك سنة 1980، ومنذ تخرجه سلك طريقًا نادرًا: طريق المعلم الذي يغرس الفن في الأجيال الصغيرة، دون أن يبتعد عن هموم التشكيل ولا عن صخب المشهد الثقافي، فمارس التعليم، وكتب القصة القصيرة، والمقالة، والنص المسرحي، وخاض تجربة الرسم والمعارض، واحتفظ ـ على امتداد عقود ـ بأرشيف حافل لتاريخ الفن التشكيلي في محافظة بابل، أرشيفٌ هو خلاصة رجل لم يكتب عن الفن فقط، بل عاشه بأعماقه.

 

كتب صلاح عباس مقالاته النقدية في الصحف العراقية والعربية والهولندية والإسبانية، متنقلاً بين لغات الجمال ومنابر الفكر، وكان في كل مقالة ينحت بالكلمة تمثالًا للرؤية، ويؤسس لوعي نقدي بعيد عن التهليل والانبهار، قريب من العمق والتحليل. لقد وصفه بعض النقاد بأنه "ذاكرة الفن التشكيلي العراقي"، فيما رأى فيه آخرون "المؤرخ الهادئ الذي يسمع لوحات الفنانين كما يسمع القصائد"، وامتدحوا طريقته المتفردة في الربط بين تجارب الفنانين وظروفهم التاريخية والاجتماعية والسياسية.

 

لم يكتفِ بالنقد الصحفي، بل أصدر كتبًا رائدة في التوثيق والنقد الفني، منها:

 

    عيدان الشيخلي: نحت عالق في عزلته (2023).

 

    بشير مهدي: فن اللوعة والولع (2021 – مشاركة).

 

    الرائد عبد الجبار البناء.

 

    الفنان مؤيد نعمة.

 

    وثلاثة كتب صدرت له في الولايات المتحدة عن الفن التشكيلي العراقي بعد 2003.

 

ولم يكن عمله الأكاديمي بمعزل عن الميدان، فقد أقام أربعة معارض شخصية، وشارك في معارض جماعية، ليظل الجسر الذي يصل بين النظرية والممارسة. كما شغل مناصب مؤثرة، مثل رئاسة تحرير مجلة "تشكيل" الصادرة عن وزارة الثقافة، وإدارة قسم الثقافة الفنية في الوزارة ذاتها، فكان صوتًا رسميًا للفن، لكنه لم يُجرّد يوماً من هويته المستقلة، ولم يتورط في الخطابات الرسمية الفارغة.

 

إن اهتمامه العميق بأزمنة الحرب وآثارها على الجمال جعله يكتب الآن عن "الفن التشكيلي في أزمنة الحرب"، وهو كتاب تحت الطبع، يتناول فيه ليس فقط الجمال المُنتج، بل الجمال المُنتهك، ويتقصى كيف تصنع الفجيعة ذائقة مغايرة، وكيف يتحوّل الفنان إلى شاهد على انكسارات العصر.

 

ويكاد لا يُذكر معرض فني في بابل إلا وكان صلاح عباس حاضراً فيه، مشاركًا أو ناقدًا أو شاهدًا. وهو عضو فعّال في اتحاد الأدباء والكتاب، وجمعية الفنانين التشكيليين، ونقابة الصحفيين، والهيئة الإدارية للجمعية العراقية للفن التشكيلي، وأحد المؤسسين لجمعية إنقاذ الأعمال الفنية المفقودة من المتحف بعد 2003، وعضو هيئة الإحياء والتحديث الحضاري ببابل.

 

صلاح عباس هو ذلك المثقف الذي لا تُثنيه العناوين عن فعل الحضور، ولا تغويه الإطارات البراقة عن مواجهة الحقيقة الفنية كما هي: عارية، ضعيفة، أحيانًا عظيمة، أحيانًا هشة، لكنها دائمًا صادقة. إنّه ليس ناقدًا يكتب من برجٍ عاجي، بل من قلب المدن العراقية، من حاراتها، من معارضها الصغيرة، من الجدران التي تحلم أن تُعلّق عليها لوحة.

 

هو الناقد الذي لا يطعن، بل يُضيء. لا يُشوّه، بل يُفكّك. ولا يُصدر الأحكام، بل يفتح الأبواب للقراءة والتأمل. في زمن يتكاثر فيه أدعياء النقد، بقي صلاح عباس الناقد الذي صنع اسمه بعمل دؤوب، ورؤية طويلة النفس، وضمير لا يساوم.

للاتصال بالموقع

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.